کتابخانه تفاسیر
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 621
[سورة غافر (40): آية 61]
قلنا: الشمس مشرقة أو النار محرقة، أو العقار الفلاني مقوي، أو ما أشبه، لم يناف مع عدم إشراق الشمس وقت الكسوف، أو عدم إحراق النار إذا لم يشأ الله، كنار إبراهيم، أو عدم تقوية العقار في بدن بلغ من الضعف إلى حيث لا يتمكن من هضم العقار، و هكذا في سائر القضايا، فإن الملحوظ، في أمثالها الطبيعة، لا كل فرد، و الطبيعة قد يمنع عنها مانع، أو عدم تمامية المقتضى، و قد قال سبحانه ( وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) «1» ، فمن لم يف بعهده سبحانه، بأن ارتكب الكفر و العصيان، لم يكن عليه سبحانه، أن يفي بما عهد، و كذا قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2» فمن لم يتق، لم يكن لدعائه، قبول و استجابة .. و لا يقال: إنا لا نرى الفرق البين بين الداعي و غيره، فلكل منهما مشاكل و لكل منهما سعادة؟ إذ الجواب أنه منقوض بمن يقول: إنا لا نرى فرقا بين من يراجع الطبيب، و بين من لا يراجع، فإن لكليهما صحة حينا و مرض حينا آخر، و الحلّ: إنا نرى الفرق شاسعا، فالداعون، أسعد هناء عيشا، و أقل مشكلة من غيرهم، و هذا يعلم، عند المقايسة الدقيقة، كما هو الجواب عن مثال مراجع الطبيب و غيره.
[62] ثم بين سبحانه جملة من الآيات الكونية، الملفتة إلى وجوده تعالى، و سائر صفاته اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ معاشر البشر اللَّيْلَ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أو إلى طلوع الشمس لِتَسْكُنُوا و تستريحوا، من الأتعاب فِيهِ بالنوم و الراحة
(1) البقرة: 41.
(2) المائدة: 28.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 622
[سورة غافر (40): الآيات 62 الى 63]
وَ جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً أي موجبا، لأن تبصرون فيه حوائجكم و سبلكم، فتشتغلوا و تسيروا إلى مآربكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضل عليهم بأنواع النعم، بدون استحقاق منهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله، بل يجحدون بها و يكفرون به.
[63] ذلِكُمُ ذا إشارة إلى الله سبحانه، جاعل تلك الآيات المذكورة، و «كم» خطاب للسامعين اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فهو بالإضافة إلى جعله تلك الأمور، و كونه ربا لكم، خالق لكل شيء موجود في الكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له من صنم، أو بشر أو ملك أو غيرها، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي إلى أين تصرفون أيها المشركون حيث تتخذون مع الله شريكا له؟ من أفك بمعنى انصرف و قلّب الأمر، و لذا يسمى الكذب إفكا.
[64] كَذلِكَ أي كما أفك هؤلاء بالشرك بالله، بعد رؤية الآيات يُؤْفَكُ و يصرف عن الحق الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ من الأمم السابقة، فكل جاحد للآيات الكونية، لا بد و أن يصرف عن التوحيد إلى الشرك، و الذي يأفك هؤلاء نفوسهم الأمارة، و رؤساؤهم الكافرون.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 623
[سورة غافر (40): آية 64]
[65] اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي تستقرون عليها وَ جعل السَّماءَ بِناءً أي بناها بناء، و المراد بالسماء الأفلاك و الهواء، التي قد أحكمت إحكاما دقيقا، و إن لم يكن جسما ملموسا، حتى إن هذا الإحكام لو أزيل، لاختلت الحياة، و اضطربت الأرض و الكون وَ صَوَّرَكُمْ أي أعطاكم الله الصور أيها البشر فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي أجملها و زينها، و المراد بالصورة هنا أعم من الشكل و اللون و الحجم، فإن الصورة تطلق على ذلك، كما تطلق على اللون فقط، أو الشكل فقط، أو الحجم و الكيفية فقط وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي خلقها من ماء عذب، و أثمار شهية و ألبان و عسل و سائر المطاعم، بل و المشارب و المساكن و المناكح و العلوم و غيرها، فإن الجميع داخلة في الرزق، و المراد بهاتين القضيتين، كغالب القضايا الطبيعية، فلا ينافي ذلك عدم حسن صورة بعض الأفراد، أو عدم رزقهم الطيب طيلة عمرهم ذلِكُمُ «ذا» إشارة إليه سبحانه الذي فعل ما تقدم و «كم» خطاب للبشر اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر، و لا شريك له في ذلك فَتَبارَكَ اللَّهُ أي جلّ سبحانه، فإنه الدائم الذي ينمي الأشياء، و يجعل فيها الخير و البركة- و قد تقدم معنى تبارك- رَبُّ الْعالَمِينَ عالم الإنسان و الملائكة و الحيوان و الجن و غيرهم.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 624
[سورة غافر (40): الآيات 65 الى 66]
[66] إن الذي أنعم عليكم بهذه النعم هُوَ الْحَيُ المطلق الذي لا موت له لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له و لا ظهير فَادْعُوهُ أيها البشر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي دعوة بإخلاص في دينكم و طريقتكم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن له الحمد وحده، حيث أن كل شيء محمود منه، لا يشركه فيها أحد، و اللام في الحمد للجنس، أي أن جنس الحمد له، أما من جعل اللام للاستغراق، فقد ابتعد عن سياق الكلام.
[67] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار إِنِّي نُهِيتُ نهاني الله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي تدعونها آلهة و هي سوى الله سبحانه لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات على التوحيد، أي حين أتاني الحجج و البراهين مِنْ رَبِّي أي من قبله سبحانه، و ذلك الحين قبل خلق آدم، كما
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين»
«1» فلا تدل هذه الآية على أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قبل نزول القرآن، غير عارف ببعض المعارف وَ أُمِرْتُ من قبله تعالى أَنْ أُسْلِمَ في جميع أعمالي و عقائدي لِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي يملك العوالم كلها، و هو المدبر و المربي الوحيد لها، و الإسلام هو
(1) مفتاح الفلاح: ص 41.
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 625
[سورة غافر (40): الآيات 67 الى 68]
الاستسلام و الانقياد.
[68] هُوَ الله تعالى وحده الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فإن الإنسان تراب، ثم يكون نباتا، و النبات يأكله الحيوان، فيكون لحما و قسما من اللحم و قسما من التراب يأكله معا الإنسان، فيكون دما في جسمه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الدم ينقلب منيا، و هو النطفة ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و هو المنى المتحول إلى علقة من الدم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا و المراد، كل واحد منكم طفلا، فلا تنافي بين الإتيان، ب «كم» جمعا، و ب «طفلا» مفردا ثُمَ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هو حال استكمال القوة و الشباب ثُمَ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً جمع شيخ، و هو الكبير السن، البالغ عمر الشيخوخة و الضعف وَ مِنْكُمْ أيها البشر مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يبلغ سن الشباب أو الشيوخ و يموت بعضكم قبل ذلك، وَ يفعل الله ذلك بكم لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي المدة التي سميت في اللوح المحفوظ، فإن الله سبحانه، قدر لكل إنسان أجلا محدودا لا يتجاوزه وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي و لكي تتفكروا و تعقلوا أمر دينكم، فإن خلق الإنسان، و إبلاغه الأجل المسمّى إنما هو للتعقل و التفكر.
[69] و هُوَ الله الَّذِي يُحْيِي الناس من التراب، ثم يحييهم بعد موتهم
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 626
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 71]
ليوم القيامة وَ يُمِيتُ الإنسان بعد حياته فَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لفظا، أو إرادة فَيَكُونُ و يوجد في الخارج، و هذا لدفع استبعاد الحياة بعد الموت، فإن الله الذي تمكن من خلق الإنسان، يتمكن من إعادته بعد الموت.
[70] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي المشركين الذين يريدون إبطال الآيات و الحجج الدالة على وجود الله و صفاته، و يوم القيامة أَنَّى يُصْرَفُونَ أي إلى أين من الضلال، يصرفهم الشيطان و أنفسهم الكافرة.
[71] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بأن لم يؤمنوا بالقرآن، و نسبوه إلى الكذب وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الشرائع و الأحكام، بأن لم يقبلوا ما جاء به الأنبياء من الأصول و الأحكام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في القيامة، عاقبة تكذيبهم بالكتاب، و بالشريعة.
[72] إِذِ ظرف ل «يعلمون» أي يعلمون سوء أعمالهم حين تكون الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ كما يغل المجرم في الدنيا، و الغل في العنق، إما للإهانة و الألم، و إما للربط وَ السَّلاسِلُ في أعناقهم يُسْحَبُونَ
تقريب القرآن إلى الأذهان، ج4، ص: 627
[سورة غافر (40): الآيات 72 الى 74]
أي يجرّون، و الأغلال جمع غل، و هو طوق يدخل في العنق، و السلاسل جمع سلسلة، و هي حلق حديدية متشابكة يربط بها المجرم.
[73] فِي الْحَمِيمِ متعلق ب «يسحبون» أي يجرون في المحل الحار المنتهي حرارته غايتها ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ من سجّر التنور، إذا أوقده، و لعل المعنى يكونون وقودا في النار، حتى تشعل النار بهم، كما قال سبحانه ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ) «1» .
[74] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ تقول لهم الملائكة الموكلة بالنار، على وجه الإهانة و الإذلال أَيْنَ ذهبت ما كُنْتُمْ أي الأصنام التي كنتم تُشْرِكُونَ أي تجعلونها شريكة لله سبحانه؟
[75] مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق ب «تشركون» فإنهم لما كانوا يعبدون الله، و يعبدون الأصنام، استثنى «الله» سبحانه قالُوا أي المشركون في الجواب ضَلُّوا عَنَّا أي ضاعوا عنا، و لا نجدهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في الدنيا شَيْئاً ، و هذا إما يقولونه إنكارا، لعلهم يتخلصون بهذا الإنكار، من تبعة عبادة الأصنام، كما في آية أخرى يقولون ( وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «2» و إما أن مرادهم، أن ما كنا ندعوا
(1) البقرة: 25.