کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 32

لكماله، و كمال صفاته. فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، و لا يمكن أن يكن إلا غنيا. لأن غناه، من لوازم ذاته. كما لا يكون إلا خالقا، قادرا، رازقا، محسنا، فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه. فهو الغني، الذي بيده خزائن السموات و الأرض، و خزائن الدنيا و الآخرة. المغني جميع خلقه، غنى عاما، و المغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، و الحقائق الإيمانية.

الحليم الذي يدرّ على خلقه النعم الظاهرة و الباطنة، مع معاصيهم و كثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. و يستعتبهم، كي يتوبوا، و يمهلهم كي ينيبوا.

الشاكر، الشّكور الذي يشكر القليل من العلم، و يغفر الكثير من الزلل. و يضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب. و يشكر الشاكرين، و يذكر من ذكره. و من تقرب إليه بشي‏ء من الأعمال الصالحة، تقرب اللّه منه أكثر.

القريب، المجيب أي: هو تعالى، القريب من كل أحد. و قربه تعالى نوعان: قرب عام من كل أحد، بعلمه، و خبرته، و مراقبته، و مشاهدته، و إحاطته. و قرب خاص، من عابديه، و سائليه، و محبيه، و هو قرب لا تدرك له حقيقة، و إنما تعلم آثاره، من لطفه بعبده، و عنايته، به، و توفيقه و تسديده. و من آثاره، الإجابة للداعين، و الإنابة للعابدين، فهو المجيب إجابة عامة، للداعين، مهما كانوا، و أين كانوا، و على أيّ حال كانوا كما وعدهم بهذا، الوعد المطلق. و هو المجيب إجابة خاصة، للمستجيبين له، المنقادين لشرعه.

و هو المجيب أيضا، للمضطرين، و من انقطع رجاؤهم من المخلوقين، و قوي تعلقهم به، طمعا، و رجاء، و خوفا.

الكافي عباده جميع ما يحتاجون، و يضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة، من آمن به، و توكل عليه، و استمد منه حوائج دينه و دنياه.

الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ‏ .

قد فسرها النبي صلى اللّه عليه و سلم، تفسيرا جامعا، واضحا فقال يخاطب ربه: «أنت الأول، فليس قبلك شي‏ء، و أنت الآخر، فليس بعدك شي‏ء، و أنت الظاهر، فليس فوقك شي‏ء، و أنت الباطن فليس دونك شي‏ء».

الواسع الصفات، و النعوت، و متعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة، و السلطان، و الملك، واسع الفضل، و الإحسان، عظيم الجود و الكرم.

الهادي، الرّشيد أي: الذي يهدي و يرشد عباده إلى جميع المنافع، و إلى دفع المضار، و يعلمهم ما لا يعلمون، و يهديهم لهداية التوفيق و التسديد، و يلهمهم التقوى، و يجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.

و للرشيد معنى، بمعنى الحكيم، فهو: الرشيد في أقواله و أفعاله، و شرائعه كلها خير، و رشد و حكمة، و مخلوقاته مشتملة على الرشد.

الحقّ في ذاته و صفاته. فهو واجب الوجود، كامل الصفات و النعوت، وجوده، من لوازم ذاته. و لا وجود لشي‏ء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل، و لا يزال، بالجلال، و الجمال، و الكمال، موصوفا. و لم يزل و لا يزال بالإحسان معروفا.

فقوله حق، و فعله حق، و لقاؤه و رسله حق، و كتبه حق، و دينه هو الحق، و عبادته وحده لا شريك له هي الحق، و كل شي‏ء ينسب إليه، فهو حق. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .

تيسير الكريم الرحمن، ص: 33

وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ . فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ‏ وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً .

و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات. و صلى اللّه و سلم على محمد، و على آله و أصحابه، و من تبعهم إلى يوم الدين.

قال ذلك، و كتبه، العبد الفقير إلى ربه «عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اللّه بن ناصر السعدي».

غفر اللّه له، و لوالديه، و مشايخه، و أحبابه، و جميع المسلمين. آمين.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 35

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] بِسْمِ اللَّهِ‏ أي: أبتدى‏ء بكل اسم للّه تعالى، لأن لفظ «اسم» مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء الحسنى.

اللَّهِ‏ هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الألوهية و هي صفات الكمال، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شي‏ء، و عمت كل حي، و كتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه و رسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، و من عداهم، فله نصيب منها.

و اعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة و أئمتها، الإيمان بأسماء اللّه و صفاته، و أحكام الصفات، فيؤمنون مثلا، بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم، فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته، و هكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم به كل شي‏ء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شي‏ء.

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ هو الثناء على اللّه بصفات الكمال، و بأفعاله الدائرة بين الفضل و العدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه. رَبِّ الْعالَمِينَ‏ الرب، هو المربي جميع العالمين، و هم من سوى اللّه، بخلقه إياهم، و إعداده لهم الآلات، و إنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.

و تربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة و خاصة. فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، و رزقهم، و هدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا. و الخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، و يوفقهم له، و يكملهم، و يدفع عنهم الصوارف، و العوائق الحائلة بينهم و بينه، و حقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، و العصمة من كل شر، و لعل هذا المعنى، هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.

فدل قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ على انفراده بالخلق و التدبير، و النعم و كمال غناه، و تمام فقر العالمين إليه، بكل وجه و اعتبار.

[4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ (4) المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أن يأمر و ينهى، و يثيب و يعاقب، و يتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، و أصناف الملك ليوم الدين، و هو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها و شرها، لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه و عدله و حكمته، و انقطاع أملاك الخلائق، حتى إنه يستوي في ذلك اليوم الملوك و الرعايا و العبيد و الأحرار، كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، و إلا، فهو المالك ليوم الدين و غيره من الأيام. و قوله:

[5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ (5) أي: نخصك وحدك بالعبادة و الاستعانة، لأن تقديم المعمول يفيد

تيسير الكريم الرحمن، ص: 36

الحصر، و هو إثبات الحكم للمذكور، و نفيه عما عداه، فكأنه يقول: نعبدك، و لا نعبد غيرك، و نستعين بك، و لا نستعين بغيرك.

و تقديم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، و اهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده، و «العبادة» اسم جامع لما يحبه اللّه و يرضاه من الأعمال و الأقوال الظاهرة و الباطنة، و «الاستعانة» هي الاعتماد على اللّه تعالى في جلب المنافع، و دفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك. و القيام بعبادة اللّه و الاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، و النجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.

و إنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مقصودا بها وجه اللّه، فبهذين الأمرين تكون عبادة، و ذكر «الاستعانة» بعد «العبادة» مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة باللّه تعالى، فإنه إن لم يعنه اللّه، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، و اجتناب النواهي. ثم قال تعالى:

[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ (6) أي: دلنا و أرشدنا، و وفقنا إلى الصراط المستقيم، و هو الطريق الواضح الموصل إلى اللّه، و إلى جنته، و هو معرفة الحق و العمل به، فاهدنا إلى الصراط و اهدنا في الصراط، فالهداية إلى الصراط، لزوم دين الإسلام، و ترك ما سواه من الأديان.

و الهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما و عملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية، و أنفعها للعبد، و لهذا وجب على الإنسان أن يدعو اللّه به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك. و هذا الصراط المستقيم هو:

[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، غَيْرِ صراط الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏ الذين عرفوا الحق و تركوه كاليهود و نحوهم، وَ لَا صراط الضَّالِّينَ‏ الذين تركوا الحق على جهل و ضلال، كالنصارى و نحوهم.

فهذه السورة، على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ، و توحيد الإلهية، و هو إفراد اللّه بالعبادة، يؤخذ من لفظ: الله و من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ (5)، و توحيد الأسماء و الصفات، و هو إثبات صفات الكمال للّه تعالى، التي أثبتها لنفسه، و أثبتها له رسوله من غير تعطيل و لا تمثيل و لا تشبيه، و قد دل على ذلك لفظ الْحَمْدُ كما تقدم. و تضمنت إثبات النبوة في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ (6) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

و إثبات الجزاء على الأعمال في قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ (4) و أن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل. و تضمنت إثبات القدر، و أن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية و الجبرية.

بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع و الضلال في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ (6) لأنه معرفة الحق و العمل به، و كل مبتدع و ضال فهو مخالف لذلك. و تضمنت إخلاص الدين للّه تعالى، عبادة، و استعانة في قوله:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ (5) فالحمد للّه رب العالمين.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 37

سورة البقرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ تقدم الكلام على البسملة.

[1] الم‏ و أما الحروف المقطعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن اللّه تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها. و قوله:

[2] ذلِكَ الْكِتابُ‏ أي: هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين، من العلم العظيم، و الحق المبين، فهو لا رَيْبَ فِيهِ‏ و لا شك بوجه من الوجوه، و نفي الريب عنه يستلزم ضده، إذ ضد الريب و الشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك و الريب، و هذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح، لا بد أن يكون متضمنا لضده، و هو الكمال، لأن النفي عدم، و العدم المحض، لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين و كانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ ، و الهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة و الشبه، و ما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، و قال: هُدىً‏ و حذف المعمول، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية، و لا للشي‏ء الفلاني، لإرادة العموم، و أنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية و الفروعية، و مبين للحق من الباطل، و الصحيح من الضعيف، و مبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم و أخراهم. و قال في موضع آخر:

هُدىً لِلنَّاسِ* فعمّم، و في هذا الموضع و غيره‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ لأنه في نفسه هدى لجميع الناس، فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا، و لم يقبلوا هدى اللّه، فقامت عليهم به الحجة، و لم ينتفعوا به لشقائهم، و أما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية و هو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط اللّه و عذابه، بامتثال أوامره، و اجتناب نواهيه، فاهتدوا به، و انتفعوا غاية الانتفاع، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية، و الآيات الكونية. و لأن الهداية نوعان: هداية البيان، و هداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، و غير هم لم تحصل لهم هداية التوفيق، و هداية البيان بدون توفيق للعمل بها، ليست هداية حقيقة تامة. ثم وصف المتقين بالعقائد و الأعمال الباطنة، و الأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك فقال:

[3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏ ، حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، و ليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره و لم نشاهده، و إنما نؤمن به لخبر اللّه و خبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد للّه و رسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر اللّه به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، و سواء فهمه و عقله أو لم يهتد إليه عقله و فهمه، بخلاف الزنادقة و المكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، و مرجت أحلامهم، و زكت عقول‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 38

المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى اللّه. و يدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر اللّه به من الغيوب الماضية و المستقبلة، و أحوال الآخرة، و حقائق أوصاف اللّه و كيفيتها، و ما أخبرت به الرسل من ذلك، فيؤمنون بصفات اللّه و وجودها، و يتيقنونها و إن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال:

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون الصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة، إقامتها ظاهرا بإتمام أركانها و واجباتها و شروطها، و إقامتها باطنا بإقامة روحها، و هو حضور القلب فيها، و تدبر ما يقوله و يفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال اللّه فيها: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ و هي التي يترتب عليها الثواب، فلا ثواب للعبد من صلاته، إلا ما عقل منها، و يدخل في الصلاة فرائضها و نوافلها. ثم قال: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ‏ ، يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، و النفقة على الزوجات و الأقارب، و المماليك، و نحو ذلك، و النفقات المستحبة بجميع طرق الخير، و لم يذكر المنفق عليهم، لكثرة أسبابه و تنوع أهله، و لأن النفقة من حيث هي قربة إلى اللّه، و أتى ب «من» الدالة على التبعيض، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم، غير ضار لهم و لا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، و ينتفع به إخوانهم. و في قوله: رَزَقْناهُمْ‏ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم و ملككم، و إنما هي رزق اللّه، الذي خولكم، و أنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم و فضّلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم، و واسوا إخوانكم المعدمين. و كثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة و الزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة الإخلاص للمعبود، و الزكاة و النفقة متضمنة الإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، و سعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص و لا إحسان. ثم قال:

[4] وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ و هو القرآن و السنة، قال تعالى: وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ، فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول، و لا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، و لا يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله، على غير مراد اللّه و رسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم، بما حاصله عدم التصديق بمعناها، و إن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. و قوله: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏ يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة، و يتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل و بما اشتملت عليه، خصوصا التوراة و الإنجيل و الزبور، و هذه خاصية المؤمنين يؤمنون بالكتب السماوية كلها، و بجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. ثم قال: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏ ، و «الآخرة» اسم لما يكون بعد الموت، و خصّه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر، أحد أركان الإيمان؛ و لأنه أعظم باعث على الرغبة و الرهبة و العمل، و «اليقين» هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، و الموجب للعمل.

صفحه بعد