کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 80

[154] وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ‏ ، لما ذكر تبارك و تعالى، الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأحوال، ذكر نمودجا مما يستعان بالصبر عليه، و هو الجهاد في سبيله، و هو أفضل الطاعات البدنية و أشقها على النفوس، لمشقته في نفسه، و لكونه مؤديا للقتل و عدم الحياة، التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة و لوازمها، فكل ما يتصرفون به فإنه سعي لها، و دفع لما يضادها. و من المعلوم، أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه و أعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله، بأن قاتل في سبيل اللّه، لتكون كلمة اللّه هي العليا، و دينه الظاهر، لا لغير ذلك من الأغراض، فإنه لم تفته الحياة المحبوبة، بل حصل له حياة أعظم و أكمل، مما تظنون و تحسبون.

فالشهداء: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏ (171). فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من اللّه تعالى، و تمتعهم برزقه البدني في المأكولات و المشروبات اللذيذة، و الرزق الروحي، و هو الفرح، و هو الاستبشار، و زوال كل خوف و حزن، و هذه حياة برزخية، أكمل من الحياة الدنيا. بل قد أخبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة، و تأكل من ثمارها، و تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، و في هذه الآية أعظم حث على الجهاد في سبيل اللّه، و ملازمة الصبر عليه. فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل اللّه من الثواب، لم يتخلف عنه أحد، و لكن عدم العلم اليقيني التام، هو الذي فتر العزائم، و زاد نوم النائم، و أفات الأجور العظيمة و الغنائم. لم لا يكون كذلك و اللّه تعالى قد: اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ‏ . فو اللّه لو كان للإنسان ألف نفس، تذهب نفسا فنفسا في سبيل اللّه، لم يكن عظيما في جانب هذا الأجر العظيم، و لهذا لا يتمنى الشهداء- بعد ما عاينوا من ثواب اللّه و حسن جزائه- إلا أن يردوا إلى الدنيا، حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة. و في الآية، دليل على نعيم البرزخ و عذابه، كما تكاثرت بذلك النصوص.

[155] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ‏ ، أخبر تعالى، أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، و الجازع من الصابر، و هذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، و لم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، و حكمة اللّه تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، و لا ردهم عن دينهم، فما كان اللّه ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده‏ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ‏ من الأعداء وَ الْجُوعِ‏ ، أي: بشي‏ء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، و المحن تمحص لا تهلك. وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ‏ و هذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال، من جوائح سماوية، و غرق، و ضياع، و أخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، و قطاع الطرق، و غير ذلك. وَ الْأَنْفُسِ‏ ، أي: ذهاب الأحباب، من الأولاد، و الأقارب، و الأصحاب، و من أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، وَ الثَّمَراتِ‏ ، أي: الحبوب، و ثمار النخيل، و الأشجار كلها، و الخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد و نحوه. فهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت، انقسم الناس قسمين: جازعين و صابرين، فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، و هو وجود هذه المصيبة، و فوات ما هو أعظم منها، و هو الأجر بامتثال أمر اللّه بالصبر، ففاز بالخسارة و الحرمان، و نقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر و الرضا و الشكران، و حصل له السخط الدال على شدة النقصان. و أما من وفقه اللّه للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولا و فعلا، و احتسب أجرها عند اللّه، و علم أن ما يدركه من الأجر بصبره، أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له و أنفع منها، فقد امتثل أمر اللّه، و فاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏ ، أي: بشّرهم بأنهم يوفون‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 81

أجرهم بغير حساب. فالصابرون، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، و المنحة الجسيمة.

[156] ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ . و هي كل ما يؤلم القلب، أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره. قالُوا إِنَّا لِلَّهِ‏ ، أي: مملوكون للّه، مدبرون تحت أمره و تصريفه، فليس لنا من أنفسنا و أموالنا شي‏ء، فإذا ابتلانا بشي‏ء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه و أمواله، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرضا عن اللّه، و الشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، و إن لم يشعر بذلك. وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏ و مع أننا مملوكون للّه، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا و احتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، و إن جزعنا و سخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط و فوات الأجر، فكون العبد للّه، و راجعا إليه، من أقوى أسباب الصبر.

[157] أُولئِكَ‏ ، الموصوفون بالصبر المذكور عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ‏ ، أي: ثناء و تنويه بحالهم‏ وَ رَحْمَةٌ عظيمة، و من رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏ الذين عرفوا الحق، و هو في هذا الموضع، علمهم بأنهم للّه، و أنهم إليه راجعون، و عملوا به و هو هنا صبرهم للّه.

و دلّت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من اللّه، و العقوبة و الضلال و الخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين «و ما أقل تعب الصابرين، و أعظم عناء الجازعين»، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف و تسهل إذا وقعت، و بيان ما تقابل به إذا وقعت و هو الصبر، و بيان ما يعين على الصبر، و ما للصابرين من الأجر، و يعلم حال غير الصابر بضد حال الصابر. و أن هذا الابتلاء و الامتحان سنة اللّه التي قد خلت، و لن تجد لسنة اللّه تبديلا، و بيان أنواع المصائب.

[158] إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ ، يخبر تعالى أن الصفا و المروة و هما معروفان‏ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ‏ ، أي: أعلام دينه الظاهرة، التي تعبد اللّه بها عباده، و إذا كانا من شعائر اللّه، فقد أمر اللّه بتعظيم شعائره، فقال: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ‏ ، فدلّ مجموع النصّين أنهما من شعائر اللّه، و أن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب. و التقوى واجبة على كل مكلف، و ذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج و العمرة، كما عليه الجمهور، و دلت عليه الأحاديث النبوية، و فعله النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و قال: «خذوا عني مناسككم». فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ، هذا دفع لوهم من توهم و تحرج من المسلمين، عن الطواف بينهما، لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم، لا لأنه غير لازم. و دل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج و العمرة، أنه لا يتطوع بالسعي مفردا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت، فإنه يشرع مع العمرة و الحج، و هو عبادة مفردة. فأما السعي و الوقوف بعرفة و مزدلفة، و رمي الجمار، فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك، كانت بدعة، لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد للّه بعبادة لم يشرعها أصلا، و نوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة، فتفعل على غير تلك الصفة، و هذا منه. و قوله: وَ مَنْ تَطَوَّعَ‏ ، أي: فعل طاعة مخلصا بها للّه تعالى‏ خَيْراً من حج، و عمرة، و طواف، و صلاة، و صوم و غير ذلك فهو خير له. فدلّ هذا على أنه كلما ازداد العبد من طاعة اللّه، ازداد خيره و كماله، و درجته عند اللّه، لزيادة إيمانه. و دل تقييد التطوع بالخير، أن من تطوع بالبدع، التي لم يشرعها اللّه و لا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء، و ليس بخير له، بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ‏ ، الشاكر و الشكور، من أسماء اللّه تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، و يجازيهم عليه العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، و امتثل طاعته، أعانه على ذلك، و أثنى عليه و مدحه، و جازاه في قلبه نورا و إيمانا، و سعة، و في بدنه قوة و نشاطا، و في جميع أحواله زيادة بركة و نماء، و في أعماله زيادة توفيق. ثم بعد ذلك، يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا، لم تنقصه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 82

هذه الأمور. و من شكره لعبده، أن من ترك شيئا للّه، عوضه اللّه خيرا منه، و من تقرّب منه شبرا، تقرّب منه ذراعا، و من تقرّب منه ذراعا، تقرّب منه باعا، و من أتاه يمشى، أتاه هرولة، و من عامله، ربح عليه أضعافا مضاعفة. و مع أنه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل، بحسب نيته و إيمانه و تقواه، ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد، فلا يضيعها، بل يجدونها أوفر ما كانت، على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.

[159] إِنَّ الَّذِينَ‏ ، هذه الآية، و إن كانت نازلة في أهل الكتاب، و ما كتموا من شأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و صفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل اللّه‏ مِنَ الْبَيِّناتِ‏ الدالات على الحق المظهرات له. وَ الْهُدى‏ ، و هو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، و يتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم. فإن اللّه أخذ الميثاق عن أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما منّ اللّه به عليهم من علم الكتاب و لا يكتموه، فمن نبذ ذلك و جمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل اللّه، و الغش لعباد اللّه، فأولئك‏ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ‏ ، أي: يبعدهم و يطردهم عن قربه و رحمته.

وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏ و هم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق و فساد أديانهم، و إبعادهم من رحمة اللّه، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي اللّه عليه و ملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، و إصلاح أديانهم، و قربهم من رحمة اللّه، فجوزي من جنس عمله.

فالكاتم لما أنزل اللّه، مضاد لأمر اللّه، مشاق للّه، يبين اللّه الآيات للناس و يوضحها، و هذا يسعى في طمسها و إخفائها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.

[160] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ، أي: رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما و إقلاعا، و عزما على عدم المعاودة، وَ أَصْلَحُوا ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن. و لا يكفي ذلك في الكاتم أيضا، حتى يبين ما كتمه، و يبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب اللّه عليه، لأن توبة اللّه غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة، تاب اللّه عليه، لأنه‏ التَّوَّابُ‏ ، أي: الرجاع على عباده بالعفو و الصفح، بعد الذنب إذا تابوا، و بالإحسان و النعم بعد المنع إذا رجعوا. الرَّحِيمُ‏ الذي اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شي‏ء، و من رحمته، أن وفقهم للتوبة و الإنابة، فتابوا و أنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفا و كرما، هذا حكم التائب من الذنب.

[161] و أما من كفر، و استمر على كفره حتى مات و لم يرجع إلى ربه، و لم ينب إليه، و لم يتب عن قريب، فأولئك‏ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ‏ ؛ لأن لما صار كفرهم وصفا ثابتا، صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول، لأن الحكم يدور مع علته، وجودا و عدما.

[162] و خالِدِينَ فِيها ، أي: في اللعنة، أو في العذاب، و هما متلازمان. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ‏ ، بل عذابهم دائم شديد مستمر، وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ‏ ، أي: يمهلون، لأن وقت الإمهال- و هو الدنيا- قد مضى، و لم يبق لهم عذر فيعتذرون.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 83

[163] وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، يخبر تعالى- و هو أصدق القائلين- أنه‏ إِلهٌ واحِدٌ ، أي: متوحد متفرد في ذاته، و أسمائه، و صفاته، و أفعاله، فليس له شريك في ذاته، و لا سمي له و لا كفو له، و لا مثل و لا نظير، و لا خالق، و لا مدبر غيره. فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤلّه و يعبد بجميع أنواع العبادة، و لا يشرك به أحد من خلقه، لأنه‏ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ‏ ، المتصف بالرحمة العظيمة، التي لا يمائلها رحمة أحد، فقد وسعت كل شي‏ء، و عمّت كل حي. فبرحمته وجدت المخلوقات، و برحمته حصلت لها أنواع الكمالات، و برحمته اندفع عنها كل نقمة، و برحمته عرف عباده نفسه بصفاته و آلائه، و بيّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم، و دنياهم، و بإرسال الرسل، و إنزال الكتب. فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة، فمن اللّه، و أن أحدا من المخلوقين، لا ينفع أحدا- علم أن اللّه هو المستحق لجميع أنواع العبادة، و أن يفرد بالمحبة و الخوف، و الرجاء و التعظيم، و التوكل، و غير ذلك من أنواع الطاعات. و أن من أظلم الظلم، و أقبح القبح، أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد، و أن يشرك المخلوقين من تراب، برب الأرباب، أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه، مع الخالق المدبر القادر القوي، الذي قهر كل شي‏ء، و دان له كل شي‏ء. ففي هذه الآية، إثبات وحدانية الباري، و إلهيته، و تقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقات، و بيان أصل الدليل على ذلك و هو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم، و اندفاع جميع النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.

[164] ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، الآية. أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة، آيات، أي: أدلة على وحدانية الباري و إلهيته، و عظيم سلطانه، و رحمته، و سائر صفاته، و لكنها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏ ، أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له. فعلى حسب ما منّ اللّه على عبده من العقل، ينتفع بالآيات و يعرفها بعقله و فكره و تدبيره، ففي‏ خَلْقِ السَّماواتِ‏ في ارتفاعها و اتساعها، و إحكامها، و إتقانها، و ما جعل اللّه فيها من الشمس و القمر، و النجوم، و تنظيمها لمصالح العباد. وَ في خلق‏ الْأَرْضِ‏ مهادا للخلق يمكنهم القرار عليها، و الانتفاع بما عليها، و الاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد اللّه تعالى بالخلق و التدبير، و بيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، و حكمته التي بها أتقنها، و أحسنها و نظمها، و علمه و رحمته التي بها أودع ما أودع، من منافع الخلق و مصالحهم، و ضروراتهم و حاجاتهم. و في ذلك أبلغ الدليل على كماله، و استحقاقه أن يفرد بالعبادة، لانفراده بالخلق و التدبير، و القيام بشؤون عباده. و في‏ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ، و هو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، و في اختلافهما في الحر و البرد و التوسط، و في الطول و القصر و التوسط، و ما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم و حيواناتهم، و جميع ما على وجه الأرض من أشجار و نباتات. كل ذلك بانتظام و تدبير، و تسخير، تنبهر له العقول، و تعجز عن إدراكه من الرجال الفحول، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها، و علمه و حكمته، و رحمته الواسعة، و لطفه الشامل، و تصريفه و تدبيره، الذي تفرد به، و عظمته، و عظمة ملكه و سلطانه، مما يوجب أن يؤلّه و يعبد، و يفرد بالمحبة و التعظيم، و الخوف و الرجاء، و بذل الجهد في محابه و مراضيه. و في‏ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ و هي السفن و المراكب و نحوها، مما ألهم اللّه عباده صنعتها، و خلق لهم من الآلات الداخلية و الخارجية، ما أقدرهم عليها. ثم سخر لها هذا البحر العظيم، و الرياح التي تحملها بما فيها من الركاب و الأموال، و البضائع التي هي من منافع الناس، و بما تقوم به مصالحهم و تنتظم معايشهم. فمن الذي ألهمهم صنعتها، و أقدرهم عليها، و خلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر، تجري فيه بإذنه و تسخيره، و الرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية و البحرية، النار و المعادن المعينة على حملها، و حمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور حصلت اتّفاقا، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز، الذي خرج من بطن أمه، لا علم له و لا قدرة؟ ثم خلق له ربه القدرة، و علّمه ما يشاء تعليمه؟ أم المسخّر لذلك ربّ واحد، حكيم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 84

عليم، لا يعجزه شي‏ء، و لا يمتنع عليه شي‏ء؟ بل الأشياء قد دانت بربوبيته، و استكانت لعظمته، و خضعت لجبروته. و غاية العبد الضعيف، أن جعله اللّه جزءا من أجزاء الأسباب، التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة اللّه و عنايته بخلقه، و ذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، و الخوف و الرجاء، و جميع الطاعة، و الذل و التعظيم. وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ، و هو المطر النازل من السحاب. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، فأظهرت من أنواع الأقوات، و أصناف النباتات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون بدونها. أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله، و أخرج به ما أخرج و رحمته، و لطفه بعباده، و قيامه بمصالحهم، و شدة افتقارهم و ضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم و إلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى و مجازاتهم بأعمالهم؟

وَ بَثَّ فِيها ، أي: في الأرض‏ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة، ما هو دليل على قدرته و عظمته، و وحدانيته و سلطانه العظيم، و سخّرها للناس، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع. فمنها: ما يأكلون من لحمه، و يشربون من درّه، و منها: ما يركبون، و منها: ما هو ساع في مصالحهم و حراستهم، و منها: ما يعتبر به، و منها: أنه بث فيها من كل دابة، فإنّه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها، و يعلم مستقرها و مستودعها. و في‏ تَصْرِيفِ الرِّياحِ‏ باردة و حارة، و جنوبا و شمالا، و شرقا و دبورا، و بين ذلك، و تارة تثير السحاب، و تارة تؤلّف بينه، و تارة تلقحه، و تارة تدره، و تارة تمزقه، و تزيل ضرره، و تارة تكون رحمة، و تارة ترسل بالعذاب. فمن الذي صرفها هذا التصريف، و أودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه؟ و سخّرها ليعيش فيها جميع الحيوانات، و تصلح الأبدان و الأشجار، و الحبوب و النباتات، إلا العزيز الحكيم الرحيم، اللطيف بعباده، المستحق لكل ذل و خضوع، و محبة و إنابة و عبادة؟ و في تسخير السحاب بين السماء و الأرض- على خفته و لطافته- يحمل الماء الكثير، فيسوقه اللّه إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد و العباد، و يروي التلول و الوهاد، و ينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه. فإذا كان يضرهم كثرته، أمسكه عنهم، فينزله رحمة و لطفا، و يصرفه عناية و عطفا، فما أعظم سلطانه، و أغزر إحسانه، و ألطف امتنانه!! أليس من القبيح بالعباد، أن يتمتعوا برزقه، و يعيشوا ببره، و هم يستعينون بذلك على مساخطه و معاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه و صبره، و عفوه و صفحه، و عظيم لطفه؟ فله الحمد أولا و آخرا، و باطنا و ظاهرا. و الحاصل، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، و تغلغل فكره في بدائع المبتدعات، و ازداد تأمله للصنعة و ما أودع فيها من لطائف البر و الحكمة، علم بذلك، أنها خلقت للحق، و بالحق، و أنها صحائف آيات، و كتب دلالات، على ما أخبر به اللّه عن نفسه و وحدانيته، و ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، و أنها مسخرات، ليس لها تدبير و لا استعصاء على مدبرها و مصرّفها. فتعرف أن العالم العلوي و السفلي كلهم إليه مفتقرون، و إليه صامدون، و أنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا اللّه، و لا رب سواه.

[165- 167] ثم قال تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ‏ ، إلى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ . ما أحسن اتصال هذه الآية بالتي قبلها، فإنه تعالى، لما بين وحدانيته و أدلتها القاطعة، و براهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين، المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن‏ مِنَ النَّاسِ‏ مع هذا البيان التام‏ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً للّه، أي: نظراء و مثلاء، يساويهم في اللّه بالعبادة و المحبة، و التعظيم و الطاعة. و من كان بهذه الحالة- بعد إقامة الحجة، و بيان التوحيد- علم أنه معاند للّه، مشاق له، أو معرض عن تدبر آياته، و التفكر في مخلوقاته، فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. و هؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع اللّه، لا يسوونهم باللّه في الخلق و الرزق و التدبير، و إنما يسوونهم به في العبادة، فيعبدونهم ليقربوهم إليه. و في قوله: يَتَّخِذُ دليل على أنه ليس للّه ند. و إنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا للّه، تسمية مجردة، و لفظا فارغا من المعنى، كما قال تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 85

لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ‏ . إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ‏ . فالمخلوق ليس ندا للّه لأن اللّه هو الخالق، و غيره مخلوق، و الرب هو الرازق، و من عداه مرزوق، و اللّه هو الغني و أنتم الفقراء، و هو الكامل من كل الوجوه، و العبيد ناقصون من جميع الوجوه، و اللّه هو النافع الضار، و المخلوق ليس له من النفع و الضر و الأمر شي‏ء. فعلم علما يقينا، بطلان قول من اتخذ من دون اللّه آلهة و أندادا، سواء كان ملكا أو نبيا، أو صالحا، صنما أو غير ذلك، و أن اللّه هو المستحق للمحبة الكاملة، و الذل التام. فلهذا مدح اللّه المؤمنين بقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏ ، أي: من أهل الأنداد لأندادهم، لأنهم أخلصوا محبتهم له، و هؤلاء أشركوا بها، و لأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد و سعادته و فوزه، و المشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا، و محبته عين شقاء العبد و فساده، و تشتت أمره. فلهذا توعدهم اللّه بقوله: وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذ الأنداد و الانقياد لغير رب العباد و ظلموا الخلق بصدهم عن سبيل اللّه، و سعيهم فيما يضرهم. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ‏ ، أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ‏ ، أي: لعلموا علما جازما، أن القوة و القدرة للّه كلها، و أن أندادهم ليس فيها من القوة شي‏ء. فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها و عجزها، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا، و ظنوا أن لها من الأمر شيئا، و أنها تقربهم إليه و توصلهم إليه، فخاب ظنهم، و بطل سعيهم، و حق عليهم شدة العذاب، و لم تدفع عنهم أندادهم شيئا، و لم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها، من حيث ظنوا نفعها. و تبرأ المتبعون من التابعين، و تقطعت بينهم الوصل، التي كانت في الدنيا، لأنها كانت لغير اللّه، و على غير أمر اللّه، و متعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له، فاضمحلت أعمالهم، و تلاشت أحوالهم، و تبين لهم أنهم كانوا كاذبين، و أن أعمالهم التي يؤملون نفعها و حصول نتيجتها، انقلبت عليهم حسرة و ندامة، و أنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، و رجوا غير مرجو، و تعلقوا بغير متعلق، فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها. و لما بطلت، وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها، فضرتهم غاية الضرر، و هذا بخلاف من تعلق باللّه الملك الحق المبين، و أخلص العمل لوجهه، و رجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه، فكانت أعماله حقا، لتعلقها بالحق، ففاز بنتيجة عمله، و وجد جزاءه عند ربه، غير منقطع كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ‏ (3).

[167] و حينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم، بأن يتركوا الشرك باللّه، و يقبلوا على إخلاص العمل للّه، و هيهات، فات الأمر، و ليس الوقت وقت إمهال و إنظار، و مع هذا، فهم كذبة، فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، و إنما هو قول يقولونه، و أماني يتمنونها، حنقا و غيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم و الذنب ذنبهم،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 86

فرأس المتبوعين على الشر إبليس، و مع هذا يقول لأتباعه: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ‏ .

[168] هذا خطاب للناس كلهم، مؤمنهم و كافرهم. فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب و ثمار و فواكه و حيوانات، حالة كونها حَلالًا طَيِّباً ، أي: محلّلا لكم تناوله، ليس بغصب و لا سرقة، و لا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم. طَيِّباً ، أي: ليس بخبيث، كالميتة و الدم، و لحم الخنزير، و الخبائث كلها، ففي هذه الآية، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا و انتفاعا، و أن المحرم نوعان: إما محرّم لذاته، و هو الخبيث الذي هو ضد الطيب، و إما محرم لما عرض له، و هو المحرم لتعلق حق اللّه، أو حق عباده به، و هو ضد الحلال. و فيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب، يأثم تاركه لظاهر الأمر. و لما أمرهم باتباع ما أمرهم به، إذ هو عين صلاحهم، نهاهم عن اتباع‏ خُطُواتِ الشَّيْطانِ‏ ، أي: طرقه التي يأمر بها، و هي جميع المعاصي، من كفر و فسوق و ظلم، و يدخل في ذلك، تحريم السوائب، و الحام، و نحو ذلك. و يدخل فيه تناول المأكولات المحرمة. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏ ، أي: ظاهر العداوة، فلا يريد بأمركم، إلا غشكم، و أن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته، حتى أخبرنا- و هو أصدق القائلين- بعداوته الداعية للحذر منه، ثم لم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به، و أنه أقبح الأشياء، و أعظمها مفسدة فقال:

[169] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ، أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك جميع المعاصي. فيكون قوله:

وَ الْفَحْشاءِ من باب عطف الخاص على العام، لأن الفحشاء من المعاصي، ما تناهى قبحه، كالزنا، و شرب الخمر، و القتل، و القذف، و البخل، و نحو ذلك مما يستفحشه من له عقل. وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ‏ فيدخل في ذلك، القول على اللّه بلا علم، في شرعه و قدره. فمن وصف اللّه بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على اللّه بلا علم. و من زعم أن للّه ندا، و أوثانا تقرب من عبدها من اللّه، فقد قال على اللّه تعالى بلا علم. و من قال: إن اللّه أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على اللّه بلا علم. و من قال: اللّه خلق لهذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك، فقد قال على اللّه بلا علم. و من أعظم القول على اللّه بلا علم، أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله، على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن اللّه أرادها. فالقول على اللّه بلا علم من أكبر المحرمات، و أشملها، و أكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو و جنوده، و يبذلون مكرهم و خداعهم، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه. و أما اللّه تعالى، فإنه يأمر بالعدل و الإحسان، و إيتاء ذي القربى، و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي، فلينظر العبد نفسه، مع أي الداعين، و من أي الحزبين؟

صفحه بعد