کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 356

بِالْغُدُوِّ أول النهار وَ الْآصالِ‏ آخره، و هذان الوقتان، فيهما مزية و فضيلة على غيرهما وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ‏ الّذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا و الآخرة، و أعرضوا عمن كل السعادة و الفوز، في ذكره و عبوديته، و أقبلوا على من كل الشقاوة و الخيبة، في الاشتغال به.

و هذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، و هي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل و النهار، خصوصا، طرفي النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا، ساكنا متواطئا عليه قلبه و لسانه بأدب و وقار، و إقبال على الدعاء و الذكر، و إحضار له بقلبه، و عدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.

ثمّ ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته و هم الملائكة، لتعلموا أن اللّه لا يريد أن يستكثر بعبادتكم من قلة، و لا يتعزز بها من ذلة، و إنّما يريد نفع أنفسكم، و أن تربحوا عليه، أضعاف أضعاف، ما عملتم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ‏ من الملائكة المقربين، و حملة العرش و الكروبيين‏ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ‏ بل يذعنون لها، و ينقادون لأوامر ربهم‏ وَ يُسَبِّحُونَهُ‏ الليل و النهار، لا يفترون.

وَ لَهُ‏ وحده لا شريك له‏ يَسْجُدُونَ‏ ، فليقتد العباد، بهؤلاء الملائكة الكرام، و ليداوموا على عبادة الملك العلام. تم تفسير سورة الأعراف و للّه الحمد و الشكر و الثناء. و صلّى اللّه على محمد و آله و صحبه و سلم.

تفسير سورة الأنفال‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] الأنفال، هي: الغنائم، التي ينفلها اللّه لهذه الأمة، من أموال الكفار. و كانت هذه الآيات في هذه السورة، قد نزلت في قصة «بدر» أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عنها، فأنزل اللّه‏ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ‏ كيف تقسم و على من تقسم؟. قُلِ‏ لهم‏ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ‏ يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه و رسوله، بل عليكم إذا حكم اللّه و رسوله، أن ترضوا بحكمهما، و تسلموا الأمر لهما، و ذلك داخل في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ‏ بامتثال أوامره، و اجتناب نواهيه. وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ‏ أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن، و التقاطع، و التدابر، بالتوادد،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 357

و التحاب، و التواصل. فبذلك تجتمع كلمتكم، و يزول ما يحصل- بسبب التقاطع- من التخاصم، و التشاجر و التنازع. و يدخل في إصلاح ذات البين، تحسين الخلق لهم، و العفو عن المسيئين منهم فإنه- بذلك- يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء، و التدابر. و الأمر الجامع لذلك كله قوله: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏ ، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه و رسوله، كما أن من لم يطع اللّه و رسوله، فليس بمؤمن. و من نقصت طاعته للّه و رسوله، فذلك لنقص إيمانه.

[2] و لما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح و الثناء، و الفوز التام، و إيمانا دون ذلك، ذكر الإيمان الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ‏ الألف و اللام للاستغراق لشرائع الإيمان. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏ أي: خافت و رهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى، الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، و وجه ذلك أنهم يلقون له السمع و يحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم، لأن التدبر من أعمال القلوب، و لأنه لا بد أن يبين لهم معنى، كانوا يجهلونه، و يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، و اشتياقا إلى كرامة ربهم، أو وجلا من العقوبات، و ازدجارا عن المعاصي، و كل هذا مما يزداد به الإيمان. وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ‏ وحده، لا شريك له‏ يَتَوَكَّلُونَ‏ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم، في جلب مصالحهم، و دفع مضارهم الدينية، و الدنيوية، و يثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك. و التوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد و لا تكمل إلا به.

[3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من فرائض، و نوافل، بأعمالها الظاهرة و الباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة و لبها. وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ‏ النفقات الواجبة، كالزكوات، و الكفارات، و النفقة على الزوجات و الأقارب، و ما ملكت أيمانهم، و المستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.

[4] أُولئِكَ‏ الّذين اتصفوا بتلك الصفات‏ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام و الإيمان، بين الأعمال الباطنة، و الأعمال الظاهرة، بين العلم و العمل، بين أداء حقوق اللّه، و حقوق عباده. و قدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح، و أفضل منها، و فيها دليل على أن الإيمان، يزيد و ينقص، فيزيد بفعل الطاعة، و ينقص بضدها. و أنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه و ينميه، و أن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى، و التأمل لمعانيه. ثمّ ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ أي: عالية بحسب علو أعمالهم، وَ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم‏ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ‏ و هو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. و دل هذا، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان- و إن دخل الجنة- فلن ينال ما نالوا، من كرامة اللّه التامة.

[5- 7] قدم تعالى- أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة- الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها، استقامت أحواله، و صلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم، هو الإيمان الحقيقي، و جزاءهم هو الحقّ الذي وعدهم اللّه به، كذلك أخرج اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم من بيته إلى لقاء المشركين في «بدر» بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، و قد قدره و قضاه. و إن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج، أن يكون بينهم و بين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك، و يكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت، و هم ينظرون. و الحال أن هذا، لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، و مما أمر اللّه به، و رضيه، فهذه الحال، ليس للجدال فيها محل، لأن الجدال محله و فائدته عند اشتباه الحقّ، و التباس الأمر، فأما إذا وضح و بان، فليس إلا الانقياد و الإذعان. هذا و كثير من المؤمنين، لم يجر منهم من هذه المجادلة شي‏ء، و لا كرهوا لقاء عدوهم، و كذلك الّذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، و ثبتهم اللّه،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 358

و قيض لهم من الأسباب، ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. و كان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة. فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى اللّه عليه و سلم الناس، فخرج معه ثلاث مئة، و بضعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، و يحملون عليها متاعهم. فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عدد كثير و عدد وافرة من السلاح، و الخيل و الرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف.

فوعد اللّه المؤمنين، إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير، فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، و لأنها غير ذات الشوكة، و لكن اللّه تعالى، أحب لهم، و أراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير، الذي خرج فيه كبراء المشركين و صناديدهم، وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ‏ فينصر أهله‏ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ‏ ، أي يستأصل أهل الباطل، و يري عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.

[8] لِيُحِقَّ الْحَقَ‏ بما يظهر من الشواهد و البراهين على صحته و صدقه، وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ‏ بما يقيم من الأدلة و الشواهد على بطلانه‏ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ‏ فلا يبالي اللّه بهم.

[9] أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، و طلبتم منه أن يعينكم و ينصركم‏ فَاسْتَجابَ لَكُمْ‏ و أغاثكم بعدة أمور: منها: أن اللّه أمدكم‏ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏ أي: يردف بعضهم بعضا.

[10] وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ‏ أي إنزال الملائكة إِلَّا بُشْرى‏ أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏ و إلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عدد و لا عدد. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة، و من العدد و الآلات، ما بلغوا. حَكِيمٌ‏ حيث قدر الأمور بأسبابها، و وضع الأشياء مواضعها.

[11] و من نصره و استجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ‏ أي: فيذهب ما في قلوبكم من الخوف و الوجل، و يكون‏ أَمَنَةً لكم، و علامة على النصر و الطمأنينة. و من ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث و الخبث، و ليطهركم من وساوس الشيطان و رجزه. وَ لِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ‏ أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ‏ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر، تلبدت، و ثبتت به الأقدام.

[12] و من ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ‏ بالعون و النصر و التأييد. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي:

ألقوا في قلوبهم، و ألهموهم الجراءة على عدوهم، و رغبوهم في الجهاد و فضله. سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏ الذي هو أعظم جند لكم عليهم. فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين، و ألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم، و منحهم اللّه أكتافهم. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ‏ أي: على الرقاب‏ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 359

بَنانٍ‏ أي: مفصل. و هذا خطاب، إما للملائكة الّذين أوحى إليهم أن يثبتوا الّذين آمنوا، فيكون في ذلك دليل، أنهم باشروا القتال يوم بدر، أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، و يعلمهم كيف يقتلون المشركين، و أنهم لا يرحمونهم.

[13] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ أي: حاربوهما، و بارزوهما بالعداوة. وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ و من عقابه تسليط أوليائه على أعدائه، و تقتيلهم.

[14] ذلِكُمْ‏ العذاب المذكور فَذُوقُوهُ‏ أيها المشاققون للّه و رسوله عذابا معجلا، وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ . و في هذه القصة من آيات اللّه العظيمة، ما يدل على أن ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم رسول اللّه حق. منها: أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه. و منها: ما قال اللّه تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى‏ كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ‏ الآية. و منها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين، لما استغاثوه، بما ذكره من الأسباب، و فيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، و تقييض الأسباب، التي بها ثبت إيمانهم، و ثبتت أقدامهم، و زال عنهم المكروه و الوساوس الشيطانية. و منها: أن من لطف اللّه بعبده، أن يسهل عليه طاعته، و ييسرها بأسباب داخلية و خارجية.

[15- 16] أمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية، و القوة في أمره، و السعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب و الأبدان. و نهاهم عن الفرار، إذا التقى الزحفان فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي: صف القتال، و تزاحف الرجال، و اقتراب بعضهم من بعض، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، بل اثبتوا لقتالهم، و اصبروا على جلاذهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، و قوة لقلوب المؤمنين، و إرهابا للكافرين. وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ أي: رجع‏ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ‏ أي: مقره‏ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ . و هذا يدل على أن الفرار من الزحف، من غير عذر، من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة و كما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد. و مفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، و هو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، و أنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، و إنّما ولى دبره، ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين. و أن المتحيز إلى فئة تمنعه و تعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز، فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح. و إن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين و التجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز، و لعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون، أن الانهزام أحمد عاقبة، و أبقى عليهم. أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد- في هذه الحال- أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه- على هذا- لا يتصور الفرار المنهي عنه، و هذه الآية مطلقة، و سيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.

[17] يقول تعالى- لما انهزم المشركون يوم بدر، و قتلهم المسلمون- فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏ بحولكم و قوتكم‏ وَ لكِنَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 360

اللَّهَ قَتَلَهُمْ‏ حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره. وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ ، و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم وقت القتال، دخل العريش، و جعل يدعو اللّه، و يناشده في نصرته، ثمّ خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين، فأوصلها اللّه إلى وجوههم، فما بقي منهم واحد إلا و قد أصاب وجهه، و فمه، و عينيه منها، فحينئذ انكسر حدهم، و فتر زندهم، و بان فيهم الفشل و الضعف، فانهزموا. يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك- حين رميت التراب- أوصلته إلى أعينهم، و إنّما أوصلناه إليهم، بقوتنا و اقتدارنا. وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي: إن اللّه تعالى، قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال، و لكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، و يوصلهم بالجهاد، إلى أعلى الدرجات، و أرفع المقامات، و يعطيهم أجرا حسنا، و ثوابا جزيلا. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏ يسمع تعالى، ما أسر به العبد، و ما أعلن، و يعلم ما في قلبه من النيات الصالحة و ضدها، فيقدر على العباد أقدارا، موافقة لعلمه و حكمته، و مصلحة عباده، و يجزي كلا بحسب نيته و عمله.

[18] ذلِكُمْ‏ النصر، من اللّه لكم‏ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ‏ أي: مضعف كل مكر و كيد، يكيدون به الإسلام و أهله، و جاعل مكرهم محيقا بهم.

[19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها المشركون، أي: تطلبون من اللّه أن يوقع بأسه و عذابه على المعتدين الظالمين. فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ‏ حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالا لكم، و عبرة للمتقين‏ وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الاستفتاح‏ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏ لأنه ربما أمهلكم، و لم يعجل لكم النقمة. وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ‏ أي: أعوانكم و أنصاركم، الّذين تحاربون و تقاتلون، معتمدين عليهم‏ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏ . و من كان اللّه معه فهو المنصور و إن كان ضعيفا قليلا عدده، و هذه المعية التي أخبر اللّه أن يؤيد بها المؤمنين، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين و عدم قيام بواجب الإيمان و مقتضاه و إلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه، لما انهزمت لهم راية انهزاما مستقرا و لا أديل عليهم عدوهم أبدا.

[20] لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين، أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون معيته فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ بامتثال أمرهما و اجتناب نهيهما. وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ‏ أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه، و طاعة رسوله، وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ‏ ما يتلى عليكم من كتاب اللّه، و أوامره، و وصاياه، و نصائحه، فتوليكم في هذه الحال من أقبح الأحوال.

[21] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ‏ (21) أي: لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية، التي لا حقيقة لها، فإنها حالة لا يرضاها اللّه و لا رسوله. فليس الإيمان بالتمني و التحلي، و لكنه ما وقر في القلوب، و صدقته الأعمال.

[22] يقول تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ‏ من لم تفد فيهم الآيات و النذر، و هم‏ الصُّمُ‏ عن استماع الحقّ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 361

الْبُكْمُ‏ عن النطق به، الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ‏ ما ينفعهم، و يؤثرونه على ما يضرهم. فهؤلاء شر عند اللّه، من شرار الدواب، لأن اللّه أعطاهم أسماعا و أبصارا و أفئدة، ليستعملوها في طاعة اللّه، فاستعملوها في معاصيه و عدموا- بذلك- الخير الكثير. فإنهم كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية، فأبوا هذا الطريق، و اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية. و السمع الذي نفاه اللّه عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب، و أما سمع الحجة، فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم، بما سمعوه من آياته، و إنّما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.

[23] وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ‏ على الفرض و التقدير لَتَوَلَّوْا عن الطاعة وَ هُمْ مُعْرِضُونَ‏ لا التفات لهم إلى الحقّ، بوجه من الوجوه. و هذا دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان و الخير، إلا عمن لا خير فيه، و الذي لا يزكو لديه، و لا يثمر عنده. و له الحمد تعالى و الحكمة في هذا.

[24- 25] يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم و هو: الاستجابة للّه و للرسول، أي: الانقياد لما أمر به و المبادرة إلى ذلك، و الدعوة إليه، و الاجتناب لما نهيا عنه، و الانكفاف عنه، و النهي عنه. و قوله: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ‏ وصف ملازم، لكل ما دعا اللّه و رسوله إليه، و بيان لفائدته و حكمته، فإن حياة القلب و الروح بعبودية اللّه تعالى، و لزوم طاعته، و طاعة رسوله، على الدوام. ثمّ حذر عن عدم الاستجابة للّه و للرسول فقال:

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ‏ فإياكم أن تردوا أمر اللّه، أول ما يأتيكم، فيحال بينكم و بينه إذا أردتموه بعد ذلك، و تختلف قلوبكم فإن اللّه يحول بين المرء و قلبه، يقلب القلوب حيث شاء، و يصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك». وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏ أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، و المسي‏ء بعصيانه. وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تصيب فاعل الظلم و غيره، و ذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته، تعم الفاعل و غيره. و تتّقى هذه الفتنة، بالنهي عن المنكر، و قمع أهل الشر و الفساد، و أن لا يمكنوا من المعاصي و الظلم مهما أمكن. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ لمن تعرض لمساخطه، و جانب رضاه.

[26] يقول تعالى ممتنا على عباده، في نصرهم بعد الذلة، و تكثير هم بعد القلة، و إغنائهم بعد العيلة.

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ‏ أي: مقهورون تحت حكم غيركم‏ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ‏ أي:

يأخذوكم. فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ‏ فجعل لكم بلدا تأوون إليه، و انتصر من أعدائكم على أيديكم، و غنمتم من أموالهم، ما كنتم به أغنياء. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ اللّه على منته العظيمة، و إحسانه التام، بأن تعبدوه، و لا تشركوا به شيئا.

[27- 28] يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره و نواهيه. فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السموات و الأرض و الجبال، فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. فمن أدى‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 362

الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، و من لم يؤدها بل خانها، استحق العقاب الوبيل، و صار خائنا للّه و للرسول و لأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، و أقبح الشيات، و هي الخيانة، مفوتا لها أكمل الصفات و أتمها، و هي: الأمانة. و لما كان العبد ممتحنا بأمواله و أولاده، فربما حملته محبته ذلك، على تقديم هوى نفسه، على أداء أمانته، أخبر اللّه تعالى أن الأموال و الأولاد فتنة يبتلي اللّه بهما عباده، و أنهما عارية، ستؤدى لمن أعطاها، و ترد لمن استودعها وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏ . فإن كان لكم عقل و رأي، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة، فالعاقل يوازن بين الأشياء، و يؤثر أولاها بالإيثار، و أحقها بالتقديم.

[29] امتثال العبد لتقوى ربه، عنوان السعادة، و علامة الفلاح، و قد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا و الآخرة، شيئا كثيرا. فذكر هنا، أن من اتقى اللّه، حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا و ما فيها: الأول:

الفرقان و هو: العلم و الهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى و الضلال، و الحقّ و الباطل، و الحلال و الحرام، و أهل السعادة من أهل الشقاوة. الثاني و الثالث: تكفير السيئات، و مغفرة الذنوب، و كل واحد منها داخل في الآخر، عند الإطلاق و عند الاجتماع. يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، و مغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع: الأجر العظيم، و الثواب الجزيل، لمن اتقاه، و آثر رضاه على هوى نفسه. وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏ .

[30] أي: وَ اذكر، أيها الرسول، ما منّ اللّه به عليك. إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة، فيما يصنعون بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس، و يوثقوه. و إما أن يقتلوه فيستريحوا- بزعمهم- من دعوته. و إما أن يخرجوه و يجلوه من ديارهم. فكلّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه. فاتفق رأيهم، على رأي رآه شريرهم، أبو جهل لعنه اللّه، و هو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش، فتى و يعطوه سيفا صارما، و يقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في القبائل، فيرضى بنو هاشم ثمّ بديته، فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش، فترصدوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه. فجاء الوحي من السماء و خرج عليهم، فذرّ على رؤوسهم التراب و خرج، و أعمى اللّه أبصارهم عنه، حتى إذا استبطؤوه، جاءهم آت و قال: خيبكم اللّه، قد خرج محمد و ذرّ على رؤوسكم التراب. فنفض كل منهم التراب عن رأسه، و منع اللّه رسوله منهم، و أذن له في الهجرة إلى المدينة. فهاجر إليها، و أيده اللّه بأصحابه المهاجرين و الأنصار، و لم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة، و قهر أهلها، فأذعنوا له، و صاروا تحت حكمه، بعد أن خرج مستخفيا منهم، خائفا على نفسه. فسبحان اللطيف بعباده الذي لا يغالبه مغالب.

صفحه بعد