کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 397

اعتذروا للمؤمنين، و زعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين يريدون بذلك، أن تعرضوا عنهم، و ترضوا و تقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم، و الرضا عنهم، فلا حبا، و لا كرامة لهم. و أما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية و الرجس. و في هذه الآيات، إثبات الكلام [للّه تعالى في قوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ‏ . و إثبات الأفعال الاختيارية للّه، الواقعة بمشيئته تعالى و قدرته، في هذا، و في قوله: وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ‏ أخبر أنه سيراه بعد وقوعه. و فيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين، و الغضب و السخط، على الفاسقين.

[97] يقول تعالى: الْأَعْرابُ‏ و هم سكان البادية و البراري‏ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من الحاضرة، الّذين فيهم كفر و نفاق، و ذلك لأسباب كثيرة. منها: أنهم يعيدون عن معرفة الشرائع الدينية، و الأعمال و الأحكام. فهم أحرى: وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ‏ من أصول الإيمان، و أحكام الأوامر و النواهي. بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب، لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، فيحدث لهم- بسبب هذا العلم- تصورات حسنة، و إرادات للخير، الذي يعلمون منه ما لا يكون في البادية. و فيهم من لطافة الطبع، و الانقياد للداعي، ما ليس في البادية. و يجالسون أهل الإيمان، و يخالطونهم أكثر من أهل البادية. فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، و إن كان في البادية و الحاضرة، كفار و منافقون، ففي البادية أشد و أغلظ، مما في الحاضرة. و من ذلك، أن الأعراب أحرص على الأموال، و أشح فيها.

[98] فمنهم: مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ‏ من الزكاة و النفقة في سبيل اللّه و غير ذلك. مَغْرَماً أي: يراها خسارة و نقصا، لا يحتسب فيها، و لا يريد بها وجه اللّه و لا يكاد يؤديها إلا كرها] «1» . وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي: من عداوتهم للمؤمنين و بغضهم لهم، أنهم يودون و ينتظرون فيهم، دوائر الدهر، و فجائع الزمان، و هذا سينعكس عليهم فتكون‏ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ . و أما المؤمنون، فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، و لهم العقبى الحسنة، وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏ يعلم نيات العباد، و ما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص و غيره.

[99] و ليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم‏ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فيسلم بذلك من الكفر و النفاق و يعمل بمقتضى الإيمان. وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ‏ أي: يحتسب نفقته، و يقصد بها وجه اللّه تعالى، و القرب منه‏ وَ يجعلها وسيلة إلى‏ صَلَواتِ الرَّسُولِ‏ أي: دعائه لهم، و تبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ‏ تقربهم إلى اللّه، و تنمي أموالهم، و تحل فيها البركة. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ‏ في جملة عباده الصالحين‏ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ ، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، و يعم عباده برحمته، التي وسعت كل شي‏ء، و يخص عباده المؤمنين، برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، و يحميهم فيها من المخالفات، و يجزل لهم فيها أنواع المثوبات. و في هذه الآية، دليل على أن الأعراب، كأهل الحاضرة، منهم الممدوح و منهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم و باديتهم، إنّما ذمهم على ترك أوامر اللّه، و أنهم في مظنة ذلك. و منها: أن الكفر و النفاق يزيد و ينقص، و يغلظ و يخف، بحسب الأحوال. و منها: فضيلة العلم، و أن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه، لأن اللّه ذم الأعراب، و أخبر أنهم أشد كفرا و نفاقا، و ذكر السبب الموجب لذلك، و أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله. و منها: أن العلم النافع، الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله، من أصول الدين و فروعه، كمعرفة حدود الإيمان، و الإسلام، و الإحسان، و التقوى، و الفلاح، و الطاعة، و البر، و الصلة، و الإحسان، و الكفر، و النفاق، و الفسوق، و العصيان، و الزنا، و الخمر، و الربا، و نحو ذلك. فإن في‏

(1) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا، و هو موافق للسياق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 398

معرفتها يتمكن العارف من فعلها إن كانت مأمورا بها، أو تركها إن كانت محظورة من الأمر بها أو النهي عنها. و منها:

أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، و يحرص أن تكون مغنما، و لا تكون مغرما.

[100] وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ‏ هم الّذين سبقوا هذه الأمة و بدروها للإيمان و الهجرة، و الجهاد، و إقامة دين اللّه.

مِنَ الْمُهاجِرِينَ‏ الّذين، أخرجوا من ديارهم و أموالهم، يبتغون فضلا من اللّه و رضوانا، و ينصرون اللّه و رسوله، أولئك هم الصادقون. وَ من‏ الْأَنْصارِ الّذين تبوّؤا الدار و الإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم، و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، و يؤثرون على أنفسهم، و لو كان بهم خصاصة. وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ‏ بالاعتقادات، و الأقوال و الأعمال، فهؤلاء هم الّذين سلموا من الذم، و حصل لهم نهاية المدح، و أفضل الكرامات من اللّه. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏ و رضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة، وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ الجارية، التي تساق إلى سقي الجنان، و الحدائق الزاهية الزاهرة، و الرياض الفاخرة. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يبغون عنها حولا، و لا يطلبون منها بدلا، لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، و مهما أرادوه، وجدوه. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ الذي حصل لهم فيه، كل محبوب للنفوس، و لذة للأرواح، و نعيم للقلوب، و شهوة للأبدان، و اندفع عنهم كل محذور.

[101] يقول تعالى: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أيضا منافقون‏ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ‏ أي: تمرنوا عليه، و ازدادوا فيه طغيانا. لا تَعْلَمُهُمْ‏ بأعيانهم، فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ‏ يحتمل أن التثنية على بابها، و أن عذابهم عذاب في الدنيا، و عذاب في الآخرة. ففي الدنيا ما ينالهم من الهم و الغم، و الكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح و النصر.

و في الآخرة عذاب النار، و بئس القرار. و يحتمل أن المراد، سنغلظ عليهم العذاب، و نضاعفه عليهم، و نكرره.

[102] يقول تعالى: وَ آخَرُونَ‏ ممن بالمدينة: و من حولها، بل و من سائر البلاد الإسلامية، اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ‏ أي: أقروا بها، و ندموا عليها، و سعوا في التوبة منها، و التطهر من أدرانها. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً ، و لا يكون العمل صالحا، إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد و الإيمان، المخرج عن الكفر و الشرك، الذي هو شرط لكل عمل صالح. فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجري على بعض المحرمات، و التقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك و الرجاء بأن يغفر اللّه لهم، فهؤلاء عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏ و توبته على عبده نوعان: الأول: التوفيق للتوبة. و الثاني: قبولها بعد وقوعها منهم. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ أي:

وصفه المغفرة و الرحمة، اللتان لا يخلو مخلوق منهما. بل لا بقاء للعالم العلوي و السفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم، ما ترك عليها من دابة. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً . و من مغفرته: أن المسرفين على أنفسهم، الّذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 399

و أنابوا، و لو قبيل موتهم بأقل القليل، فإنه يعفو عنهم، و يتجاوز عن سيئاتهم، فهذه الآية دالة على أن المخلط المعترف النادم، الذي لم يتب توبة نصوحا، أنه تحت الخوف و الرجاء، و هو إلى السلامة أقرب. و أما المخلط الذي لم يعترف، و لم يندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرا على الذنوب، فإنه يخاف عليه أشد الخوف.

[103] قال تعالى لرسوله، و من قام مقامه، آمرا له بما يطهر المؤمنين، و يتمم إيمانهم: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً و هي الزكاة المفروضة، تُطَهِّرُهُمْ‏ أي: تطهرهم من الذنوب و الأخلاق الرذيلة. وَ تُزَكِّيهِمْ‏ أي: تنميهم، و تزيد في أخلاقهم الحسنة، و أعمالهم الصالحة، و تزيد في ثوابهم الدنيوي و الأخروي، و تنمي أموالهم. وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ‏ أي: ادع لهم، أي: للمؤمنين عموما و خصوصا، عند ما يدفعون إليك زكاة أموالهم. إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ‏ أي: طمأنينة لقلوبهم، و استبشار لهم، وَ اللَّهُ سَمِيعٌ‏ لدعائك، سمع إجابة و قبول. عَلِيمٌ‏ بأحوال العباد و نياتهم، فيجازي كل عامل بعمله، و على قدر نيته. فكان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يمتثل لأمر اللّه، و يأمرهم بالصدقة، و يبعث عماله لجبايتها، فإذا أتاه و أخذ صدقته، دعا له، و برّك. ففي هذه الآية، دلالة على وجوب الزكاة في جميع الأموال، و هذا إذا كانت للتجارة، ظاهرة، فإنها أموال تنمى و يكتسب بها، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء، بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة. و ما عدا أموال التجارة، فإن كان المال ينمى، كالحبوب، و الثمار، و الماشية المتخذة للنماء، و الدر، و النسل، فإنه تجب فيها الزكاة، و إلا لم تجب فيها، لأنها إذا كانت للقنية، لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة، ما لا يتمول، و يطلب منه المقاصد المالية، و إنّما صرف عن المالية بالقنية و نحوها. و فيها: أن العبد لا يمكنه أن يتطهر و يتزكى، حتى يخرج زكاة ماله، و أنه لا يكفرها شي‏ء سوى أدائها، لأن الزكاة و التطهير، متوقف على إخراجها. و فيها: استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه، لمن أدى زكاته بالبركة، و إن ذلك ينبغي أن يكون جهرا، بحيث يسمعه المتصدق، فيسكن إليه. و يؤخذ من المعنى، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن، بالكلام اللين، و الدعاء له، و نحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة، و سكون لقلبه.

[104] أي: أ ما علموا سعة رحمة اللّه، و عموم كرمه و أنه‏ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ‏ التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة عبده إذا تاب، أعظم فرح يقدر. وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ‏ منهم أي يقبلها، و يأخذها بيمينه، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوّه، حتى تكن التمرة الواحدة كالجبل العظيم، فكيف بما هو أكبر و أكثر من ذلك.

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏ أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه، تاب عليه، و لو تكررت منه المعصية مرارا. و لا يمل اللّه من التوبة على عباده، حتى يملوا هم، و يأبوا إلا النفار و الشرود عن بابه، و موالاتهم عدوهم.

الرَّحِيمُ‏ الذي وسعت رحمته كل شي‏ء، و كتبها للذين يتقون، و يؤتون الزكاة، و يؤمنون بآياته، و يتبعون رسوله.

[105] يقول تعالى: وَ قُلِ‏ لهؤلاء المنافقين: اعْمَلُوا ما ترون من الأعمال، و استمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك سيخفى. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ‏ أي: لا بد أن يتبين عملكم و يتضح، وَ سَتُرَدُّونَ إِلى‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 400

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ من خير و شر. ففي هذا التهديد و الوعيد الشديد على من استمر على باطله و طغيانه، و غيه و عصيانه. و يحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير و شر، فإن اللّه مطلع عليكم، و سيطلع رسوله و عباده المؤمنين، على أعمالكم، و لو كانت باطنة.

[106] أي: وَ آخَرُونَ‏ من المخلفين‏ مُرْجَوْنَ‏ أي: مؤخرون‏ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏ ففي هذا، التخويف الشديد للمتخلفين، و الحث لهم على التوبة و الندم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ يضع الأشياء مواضعها، و ينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته، أن يخذلهم و لا يوفقهم للتوبة، فعل ذلك.

[107] كان أناس من المنافقين من أهل قباء، اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة و المشاقة، بين المؤمنين، و يعدونه لمن يرجونه، من المحاربين للّه و رسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه، فبين تعالى خزيهم، و أظهر سرهم فقال: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي: مضارة للمؤمنين و لمسجدهم، الذي يجتمعون فيه‏ وَ كُفْراً أي: مقصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان. وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ‏ أي: ليتشعبوا و يتفرقوا و يختلفوا، وَ إِرْصاداً أي: إعدادا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏ أي: إعانة للمحاربين للّه و رسوله، الذين تقدم حرابهم، و اشتدت عداوتهم، و ذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هاجر إلى المدينة، كفر به، و كان متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين، يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر، بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، و كان على وعد و ممالئة، هو و المنافقون. فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من يهدمه، و يحرقه، فهدم و حرق، و صار بعد ذلك مزبلة. قال تعالى بعد ما بين مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا في بنائنا إياه‏ إِلَّا الْحُسْنى‏ أي: الإحسان إلى الضعيف، و العاجز و الضرير. وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ‏ فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم.

[108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي: لا تصل في ذلك المسجد، الذي بني ضرارا أبدا، فاللّه يغنيك عنه، و لست بمضطر إليه. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى‏ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏ ظهر فيه الإسلام في «قباء»، و هو مسجد «قباء»، أسس على إخلاص الدين للّه، و إقامة ذكره و شعائر دينه، و كان قديما في هذا، عريقا فيه. فهذا المسجد الفاضل‏ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏ و تتعبد، و تذكر اللّه تعالى فهو فاضل، و أهله فضلاء، و لهذا مدحهم اللّه بقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الذنوب، و يتطهروا من الأوساخ، و النجاسات، و الأحداث. و من المعلوم أن من أحب شيئا، لا بد أن يسعى له، و يجتهد فيما يجب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب و الأوساخ، و الأحداث. و لهذا كانوا ممن سبق إسلامه، و كانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إقامة شرائع الدين، و ممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه و رسوله. و سألهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏ الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك، و الأخلاق الرذيلة، و الطهارة الحسية، كإزالة الأنجاس، و رفع الأحداث.

[109] ثمّ فاضل بين المساجد، بحسب مقاصد أهلها و موافقتها لرضاه فقال: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ‏ أي: على نية صالحة، و إخلاص‏ وَ رِضْوانٍ‏ بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص و المتابعة، خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا أي: على طرف‏ جُرُفٍ هارٍ أي: بال، قد تداعى للانهدام، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ لما فيه مصالح دينهم و دنياهم.

[110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏ أي: شكا، و ريبا ماكثا في قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏ بأن يندموا غاية الندم، و يتوبوا إلى ربهم، و يخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، و إلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 401

ريبا إلى ريبهم، و نفاقا إلى نفاقهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ‏ بجميع الأشياء، ظاهرها و باطنها، خفيها و جليها، و بما أسره العباد، و أعلنوه. حَكِيمٌ‏ لا يفعل، و لا يخلق، و لا يأمر، و لا ينهى، إلا ما اقتضته الحكمة و أمر به، فللّه الحمد.

و في هذه الآيات عدّة فوائد: منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، و أنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه. منها: أن العمل و إن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.

و منها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها و إزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين و ائتلافهم، يتعين اتباعها، و الأمر بها، و الحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار، بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر و المحاربة للّه و رسوله. و منها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، و البعد عنها، و عن قربها. و منها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، و نهي عن القيام فيه. و كذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد «قباء» حتى قال اللّه فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى‏ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏ . و لهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره حتى كان صلّى اللّه عليه و سلّم يزور قباء كل سبت، يصلي فيه، و حث على الصلاة فيه. و منها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، و هي: كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه و رسوله، فإنه محرم ممنوع منه، و عكسه بعكسه. و منها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الذي أسسه بيده المباركة، و عمل فيه، و اختاره اللّه له، من باب أولى و أحرى. و منها: أن العمل المبني على الإخلاص و المتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. و العمل المبني على سوء القصد، و على البدع و الضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين.

[111] يخبر تعالى خبرا صدقا، و يعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة، و معاوضة جسيمة، و هو أنه‏ اشْتَرى‏ بنفسه الكريمة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ‏ فهي المثمن و السلعة المبيعة. بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ التي فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين من أنواع اللذات، و الأفراح، و المسرات، و الحور الحسان، و المنازل الأنيقات. و صفة العقد و المبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم و أموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته، و إظهار دينه‏ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ‏ ، فهذا العقد و المبايعة، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ‏ التي هي أشرف الكتب، التي طرقت العالم، و أعلاها، و أكملها، و جاء بها أكمل الرسل، أولو العزم، و كلها اتفقت على هذا الوعد الصادق. وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ‏ أي: لتعزموا بذلك، و ليبشر بعضكم بعضا، و يحث بعضكم بعضا. وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ الذي لا فوز أكبر منه، و لا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، و النعيم المقيم،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 402

و الرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات. و إذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ و هو اللّه جل جلاله، و إلى العوض، و هو أكبر الأعواض و أجلها، جنات النعيم، و إلى الثمن المبذول فيها، و هو: النفس، و المال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. و إلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، و هو أشرف الرسل، و بأي الكتب رقم، في كتب اللّه الكبار المنزلة، على أفضل الخلق.

[112] كأنه قيل: من هم المؤمنون الّذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات، و نيل الكرامات؟ فقال: هم‏ التَّائِبُونَ‏ أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. الْعابِدُونَ‏ أي: المتصفون بالعبودية للّه، و الاستمرار على طاعته من أداء الواجبات و المستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. الْحامِدُونَ‏ للّه في السراء و الضراء، و اليسر و العسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة و الباطنة، المثنون على اللّه بذكرها و بذكره في آناء الليل، و آناء النهار. السَّائِحُونَ‏ فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، و فسرت بسياحة القلب، في معرفة اللّه و محبته، و الإنابة إليه على الدوام، و الصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، و العمرة، و الجهاد، و طلب العلم، و صلة الأقارب، و نحو ذلك. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏ أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع و السجود.

الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏ و يدخل فيه جميع الواجبات و المستحبات. وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هي جميع ما نهى اللّه و رسوله عنه. وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏ بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، و ما يدخل في الأوامر، و النواهي، و الأحكام، و ما لا يدخل، الملازمون لها فعلا و تركا. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏ لم يذكر ما يبشر لهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان، من ثواب الدنيا، و الدين و الآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن. و أما مقدارها و صفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، و إيمانهم، قوة، و ضعفا، و عملا بمقتضاه.

[113- 114] يعني: ما يليق و لا يحسن بالنبي و المؤمنين به‏ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏ ، أي: لمن كفر به، و عبد معه غيره‏ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ‏ ، فإن الاستغفار لهم في هذه الحال، غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي و المؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، و وجب عليهم الخلود في النار، و لم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، و لا استغفار المستغفرين. و أيضا، فإن النبي و الّذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم، في رضاه و غضبه، و يوالوا من والاه اللّه، و يعادوا من عاداه اللّه، و الاستغفار منهم، لمن تبين أنه من أصحاب النار، مناف لذلك، مناقض له. و لئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام لأبيه فإنه‏ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ‏ في قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا و ذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه. فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، و لم ينفع فيه الوعظ و التذكير تَبَرَّأَ مِنْهُ‏ موافقة لربه و تأدبا معه. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ‏ أي: رجّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير الذكر، و الدعاء، و الاستغفار، و الإنابة إلى ربه. حَلِيمٌ‏ أي: ذو رحمة بالخلق، و صفح عما يصدر منهم إليه من الزلات، لا يستفزه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 403

جهل الجاهلين، و لا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: لَأَرْجُمَنَّكَ‏ و هو يقول له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏ . فعليكم أن تقتدوا به، و تتبعوا ملّة إبراهيم في كل شي‏ء إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏ كما نبهكم اللّه عليها، و على غيرها، و لهذا قال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً إلى‏ وَ لا نَصِيرٍ .

[115] يعني أن اللّه تعالى إذا منّ على قوم بالهداية، و أمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، و يبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، و تدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، و أن شريعته وافية، بجميع ما يحتاجه العباد في أصول الدين و فروعه. و يحتمل أن المراد بذلك‏ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ‏ فإذا بين لهم ما يتقون، فلم ينقادوا له، عاقبهم بالإضلال، جزاء لهم، على ردهم الحقّ المبين، و الأول أولى. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ فلكمال علمه و عمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، و بين لكم ما به تنتفعون.

[116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ‏ أي: هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء و الإماتة، و أنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني، المتعلق بإلهيته، و يترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، و هو أعظم تولية لعباده؟ فلهذا قال: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي: ولي يتولاكم، بجلب المنافع لكم، أو نصير يدفع عنكم المضار.

[117] يخبر تعالى أنه من لطفه و إحسانه‏ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِ‏ محمد صلّى اللّه عليه و سلم‏ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ فغفر لهم الزلات، و وفر لهم الحسنات، و رقاهم إلى أعلى الدرجات، و ذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، و لهذا قال: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة «تبوك» و كانت في حر شديد، و ضيق من الزاد و الركوب، و كثرة عدد مما يدعو إلى التخلف. فاستعانوا باللّه تعالى، و قاموا بذلك‏ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏ أي: تنقلب قلوبهم، و يميلوا إلى الدعة و السكون، و لكن اللّه ثبتهم، و أيدهم و قواهم.

و زيغ القلب، هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، و إن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي. و قوله:

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ‏ أي: قبل توبتهم‏ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ‏ ، و من رأفته و رحمته، أن منّ عليهم بالتوبة، و قبلها منهم، و ثبتهم عليها.

[118] وَ كذلك لقد تاب‏ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن الخروج مع المسلمين في تلك الغزوة، و هم:

«كعب بن مالك» و صاحباه، و قصتهم مشهورة، معروفة، في الصحاح و السنن. حَتَّى إِذا حزنوا حزنا عظيما، و ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ‏ أي: على سعتها و رحبها وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ‏ التي هي أحب إليهم من كل شي‏ء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، و المحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منهم، و ذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة و المشقة، ما لا يمكن التعبير عنه، و ذلك لأنهم قدموا رضا اللّه و رضا رسوله على كل شي‏ء.

صفحه بعد