کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 400

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ من خير و شر. ففي هذا التهديد و الوعيد الشديد على من استمر على باطله و طغيانه، و غيه و عصيانه. و يحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير و شر، فإن اللّه مطلع عليكم، و سيطلع رسوله و عباده المؤمنين، على أعمالكم، و لو كانت باطنة.

[106] أي: وَ آخَرُونَ‏ من المخلفين‏ مُرْجَوْنَ‏ أي: مؤخرون‏ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏ ففي هذا، التخويف الشديد للمتخلفين، و الحث لهم على التوبة و الندم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ يضع الأشياء مواضعها، و ينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته، أن يخذلهم و لا يوفقهم للتوبة، فعل ذلك.

[107] كان أناس من المنافقين من أهل قباء، اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة و المشاقة، بين المؤمنين، و يعدونه لمن يرجونه، من المحاربين للّه و رسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه، فبين تعالى خزيهم، و أظهر سرهم فقال: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي: مضارة للمؤمنين و لمسجدهم، الذي يجتمعون فيه‏ وَ كُفْراً أي: مقصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان. وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ‏ أي: ليتشعبوا و يتفرقوا و يختلفوا، وَ إِرْصاداً أي: إعدادا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏ أي: إعانة للمحاربين للّه و رسوله، الذين تقدم حرابهم، و اشتدت عداوتهم، و ذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هاجر إلى المدينة، كفر به، و كان متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين، يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر، بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، و كان على وعد و ممالئة، هو و المنافقون. فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من يهدمه، و يحرقه، فهدم و حرق، و صار بعد ذلك مزبلة. قال تعالى بعد ما بين مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا في بنائنا إياه‏ إِلَّا الْحُسْنى‏ أي: الإحسان إلى الضعيف، و العاجز و الضرير. وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ‏ فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم.

[108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي: لا تصل في ذلك المسجد، الذي بني ضرارا أبدا، فاللّه يغنيك عنه، و لست بمضطر إليه. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى‏ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏ ظهر فيه الإسلام في «قباء»، و هو مسجد «قباء»، أسس على إخلاص الدين للّه، و إقامة ذكره و شعائر دينه، و كان قديما في هذا، عريقا فيه. فهذا المسجد الفاضل‏ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏ و تتعبد، و تذكر اللّه تعالى فهو فاضل، و أهله فضلاء، و لهذا مدحهم اللّه بقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الذنوب، و يتطهروا من الأوساخ، و النجاسات، و الأحداث. و من المعلوم أن من أحب شيئا، لا بد أن يسعى له، و يجتهد فيما يجب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب و الأوساخ، و الأحداث. و لهذا كانوا ممن سبق إسلامه، و كانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إقامة شرائع الدين، و ممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه و رسوله. و سألهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏ الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك، و الأخلاق الرذيلة، و الطهارة الحسية، كإزالة الأنجاس، و رفع الأحداث.

[109] ثمّ فاضل بين المساجد، بحسب مقاصد أهلها و موافقتها لرضاه فقال: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ‏ أي: على نية صالحة، و إخلاص‏ وَ رِضْوانٍ‏ بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص و المتابعة، خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا أي: على طرف‏ جُرُفٍ هارٍ أي: بال، قد تداعى للانهدام، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ لما فيه مصالح دينهم و دنياهم.

[110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏ أي: شكا، و ريبا ماكثا في قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏ بأن يندموا غاية الندم، و يتوبوا إلى ربهم، و يخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، و إلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 401

ريبا إلى ريبهم، و نفاقا إلى نفاقهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ‏ بجميع الأشياء، ظاهرها و باطنها، خفيها و جليها، و بما أسره العباد، و أعلنوه. حَكِيمٌ‏ لا يفعل، و لا يخلق، و لا يأمر، و لا ينهى، إلا ما اقتضته الحكمة و أمر به، فللّه الحمد.

و في هذه الآيات عدّة فوائد: منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، و أنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه. منها: أن العمل و إن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.

و منها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها و إزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين و ائتلافهم، يتعين اتباعها، و الأمر بها، و الحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار، بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر و المحاربة للّه و رسوله. و منها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، و البعد عنها، و عن قربها. و منها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، و نهي عن القيام فيه. و كذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد «قباء» حتى قال اللّه فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى‏ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏ . و لهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره حتى كان صلّى اللّه عليه و سلّم يزور قباء كل سبت، يصلي فيه، و حث على الصلاة فيه. و منها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، و هي: كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه و رسوله، فإنه محرم ممنوع منه، و عكسه بعكسه. و منها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الذي أسسه بيده المباركة، و عمل فيه، و اختاره اللّه له، من باب أولى و أحرى. و منها: أن العمل المبني على الإخلاص و المتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. و العمل المبني على سوء القصد، و على البدع و الضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين.

[111] يخبر تعالى خبرا صدقا، و يعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة، و معاوضة جسيمة، و هو أنه‏ اشْتَرى‏ بنفسه الكريمة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ‏ فهي المثمن و السلعة المبيعة. بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ التي فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين من أنواع اللذات، و الأفراح، و المسرات، و الحور الحسان، و المنازل الأنيقات. و صفة العقد و المبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم و أموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته، و إظهار دينه‏ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ‏ ، فهذا العقد و المبايعة، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ‏ التي هي أشرف الكتب، التي طرقت العالم، و أعلاها، و أكملها، و جاء بها أكمل الرسل، أولو العزم، و كلها اتفقت على هذا الوعد الصادق. وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ‏ أي: لتعزموا بذلك، و ليبشر بعضكم بعضا، و يحث بعضكم بعضا. وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ الذي لا فوز أكبر منه، و لا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، و النعيم المقيم،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 402

و الرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات. و إذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ و هو اللّه جل جلاله، و إلى العوض، و هو أكبر الأعواض و أجلها، جنات النعيم، و إلى الثمن المبذول فيها، و هو: النفس، و المال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. و إلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، و هو أشرف الرسل، و بأي الكتب رقم، في كتب اللّه الكبار المنزلة، على أفضل الخلق.

[112] كأنه قيل: من هم المؤمنون الّذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات، و نيل الكرامات؟ فقال: هم‏ التَّائِبُونَ‏ أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. الْعابِدُونَ‏ أي: المتصفون بالعبودية للّه، و الاستمرار على طاعته من أداء الواجبات و المستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. الْحامِدُونَ‏ للّه في السراء و الضراء، و اليسر و العسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة و الباطنة، المثنون على اللّه بذكرها و بذكره في آناء الليل، و آناء النهار. السَّائِحُونَ‏ فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، و فسرت بسياحة القلب، في معرفة اللّه و محبته، و الإنابة إليه على الدوام، و الصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، و العمرة، و الجهاد، و طلب العلم، و صلة الأقارب، و نحو ذلك. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏ أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع و السجود.

الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏ و يدخل فيه جميع الواجبات و المستحبات. وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هي جميع ما نهى اللّه و رسوله عنه. وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏ بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، و ما يدخل في الأوامر، و النواهي، و الأحكام، و ما لا يدخل، الملازمون لها فعلا و تركا. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏ لم يذكر ما يبشر لهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان، من ثواب الدنيا، و الدين و الآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن. و أما مقدارها و صفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، و إيمانهم، قوة، و ضعفا، و عملا بمقتضاه.

[113- 114] يعني: ما يليق و لا يحسن بالنبي و المؤمنين به‏ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏ ، أي: لمن كفر به، و عبد معه غيره‏ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ‏ ، فإن الاستغفار لهم في هذه الحال، غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي و المؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، و وجب عليهم الخلود في النار، و لم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، و لا استغفار المستغفرين. و أيضا، فإن النبي و الّذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم، في رضاه و غضبه، و يوالوا من والاه اللّه، و يعادوا من عاداه اللّه، و الاستغفار منهم، لمن تبين أنه من أصحاب النار، مناف لذلك، مناقض له. و لئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام لأبيه فإنه‏ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ‏ في قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا و ذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه. فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، و لم ينفع فيه الوعظ و التذكير تَبَرَّأَ مِنْهُ‏ موافقة لربه و تأدبا معه. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ‏ أي: رجّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير الذكر، و الدعاء، و الاستغفار، و الإنابة إلى ربه. حَلِيمٌ‏ أي: ذو رحمة بالخلق، و صفح عما يصدر منهم إليه من الزلات، لا يستفزه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 403

جهل الجاهلين، و لا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: لَأَرْجُمَنَّكَ‏ و هو يقول له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏ . فعليكم أن تقتدوا به، و تتبعوا ملّة إبراهيم في كل شي‏ء إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏ كما نبهكم اللّه عليها، و على غيرها، و لهذا قال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً إلى‏ وَ لا نَصِيرٍ .

[115] يعني أن اللّه تعالى إذا منّ على قوم بالهداية، و أمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، و يبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، و تدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، و أن شريعته وافية، بجميع ما يحتاجه العباد في أصول الدين و فروعه. و يحتمل أن المراد بذلك‏ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ‏ فإذا بين لهم ما يتقون، فلم ينقادوا له، عاقبهم بالإضلال، جزاء لهم، على ردهم الحقّ المبين، و الأول أولى. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ فلكمال علمه و عمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، و بين لكم ما به تنتفعون.

[116] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ‏ أي: هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء و الإماتة، و أنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني، المتعلق بإلهيته، و يترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، و هو أعظم تولية لعباده؟ فلهذا قال: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي: ولي يتولاكم، بجلب المنافع لكم، أو نصير يدفع عنكم المضار.

[117] يخبر تعالى أنه من لطفه و إحسانه‏ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِ‏ محمد صلّى اللّه عليه و سلم‏ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ فغفر لهم الزلات، و وفر لهم الحسنات، و رقاهم إلى أعلى الدرجات، و ذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، و لهذا قال: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة «تبوك» و كانت في حر شديد، و ضيق من الزاد و الركوب، و كثرة عدد مما يدعو إلى التخلف. فاستعانوا باللّه تعالى، و قاموا بذلك‏ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏ أي: تنقلب قلوبهم، و يميلوا إلى الدعة و السكون، و لكن اللّه ثبتهم، و أيدهم و قواهم.

و زيغ القلب، هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، و إن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي. و قوله:

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ‏ أي: قبل توبتهم‏ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ‏ ، و من رأفته و رحمته، أن منّ عليهم بالتوبة، و قبلها منهم، و ثبتهم عليها.

[118] وَ كذلك لقد تاب‏ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن الخروج مع المسلمين في تلك الغزوة، و هم:

«كعب بن مالك» و صاحباه، و قصتهم مشهورة، معروفة، في الصحاح و السنن. حَتَّى إِذا حزنوا حزنا عظيما، و ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ‏ أي: على سعتها و رحبها وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ‏ التي هي أحب إليهم من كل شي‏ء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، و المحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منهم، و ذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة و المشقة، ما لا يمكن التعبير عنه، و ذلك لأنهم قدموا رضا اللّه و رضا رسوله على كل شي‏ء.

وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ‏ أي: تيقنوا، و عرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، و يلجأ إليه، إلا اللّه وحده لا شريك به، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، و تعلقوا باللّه ربهم، و فروا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ‏ أي: أذن في توبتهم، و وفقهم لها لِيَتُوبُوا لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ‏ أي: كثير التوبة و العفو، و الغفران عن الزلات و النقصان. الرَّحِيمُ‏ وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد، في كل وقت و حين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية و الدنيوية. و في هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد، أجل الغايات، و أعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده، و امتنّ عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها و يرضاها. و منها: لطف اللّه بهم، و تثبيتهم في إيمانهم، عند الشدائد،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 404

و النوازل المزعجة. و منها: أن العبادة الشاقة على النفس، لها فضل و مزية، ليست لغيرها، و كلما عظمت المشقة، عظم الأجر. و منها: أن توبة اللّه على عبده، بحسب ندمه و أسفه الشديد، و أن من لا يبالي بالذنب، و لا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، و إن زعم أنها مقبولة. و منها: أن علامة الخير و زوال الشدة، إذا تعلق القلب باللّه تعالى، تعلقا تاما، و انقطع عن المخلوقين. و منها: أن من لطف اللّه بالثلاثة، أن و سمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: أَخْلَفُوا إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بتّ في قبول عذرهم، أو في رده، و أنهم لم يكن تخلفهم، رغبة عن الخير، و لهذا لم يقل: «تخلفوا». و منها: أنّ اللّه تعالى منّ عليهم بالصدق، و لهذا أمر بالاقتداء بهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الآية.

[119] أي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه، و بما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، و هو القيام بتقوى اللّه، باجتناب ما نهى اللّه عنه، و البعد عنه. وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏ في أقوالهم، و أفعالهم و أحوالهم، الّذين أقوالهم صدق، و أعمالهم، و أحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل و الفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص و النية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، و إن البر يهدي إلى الجنّة. قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏ الآية.

[120] يقول تعالى- حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين، و الأنصار، و من حولها من الأعراب، الّذين أسلموا، فحسن إسلامهم-: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ‏ أي: ما ينبغي لهم ذلك، و لا يليق بأحوالهم. وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ‏ في بقائها و راحتها، و سكونها عَنْ نَفْسِهِ‏ الكريمة الزكية، بل النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بنفسه، و يقدمه عليها. فعلامة تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و محبته و الإيمان التام به، أن لا يتخلفوا عنه، ثمّ ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ‏ أي:

المجاهدين في سبيل اللّه‏ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ‏ أي: تعب و مشقة وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ أي: مجاعة.

وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ من الخوض لديارهم و الاستيلاء على أوطانهم، وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالظفر بجيش، أو سرية، أو الغنيمة لمال‏ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ‏ لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.

إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏ الّذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر اللّه، و قيامهم بما عليهم من حقه، و حق خلقه، فهذه الأعمال، آثار من آثار عملهم.

[121] ثمّ قال: وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً في ذهابهم إلى عدوهم‏ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ . و من ذلك، هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، و نصحوا فيها. ففي هذه الآيات، أشد ترغيب، و تشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، و الاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، و أن ذلك لهم رفعة درجات و أن الآثار المترتبة على عمل العبد له، فيها أجر كبير.

[122] يقول تعالى:- منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 405

جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، و يفوت به كثير من المصالح الأخرى، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ‏ أي: من البلدان، و القبائل، و الأفخاذ طائِفَةٌ تحصل بها الكفاية و المقصود لكان أولى. ثمّ نبه على أن في إقامة المقيمين منهم، و عدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: لِيَتَفَقَّهُوا أي: القاعدون‏ فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ‏ أي: ليتعلموا العلم الشرعي، و يعلموا معانيه، و يفقهوا أسراره، و ليعلموا غيرهم، و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. ففي هذا فضيلة العلم، خصوصا الفقه في الدين، و أنه أهم الأمور، و أن من تعلم علما، فعليه نشره و بثه في العباد، و نصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته و أجره الذي ينمى. و أما اقتصار العالم على نفسه، و عدم دعوته إلى سبيل اللّه، بالحكمة، و الموعظة الحسنة، و ترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ و أي نتيجة نتجت من علمه؟ و غايته أن يموت، فيموت علمه و ثمرته، و هذا غاية الحرمان، لمن آتاه اللّه علما و منحه فهما. و في هذه الآية أيضا دليل، و إرشاد، و تنبيه لطيف، لفائدة مهمة، و هي: أن المسلمين ينبغي لهم، أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة، من يقوم بها، و يوفر وقته عليها، و يجتهد فيها، و لا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، و تتم منافعهم، و لتكون وجهة جميعهم، و نهاية ما يقصدون قصدا واحدا، و هو قيام مصلحة دينهم و دنياهم، و لو تفرقت الطرق، و تعددت المشارب، فالأعمال متباينة، و القصد واحد، و هذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور.

[123] و هذا أيضا إرشاد آخر، بعد ما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب فالأقرب، من الكفار، و الغلظة عليهم، و الشدة في القتال، و الشجاعة و الثبات. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏ أي: و ليكن لديكم علم، أن المعونة من اللّه، تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى اللّه، يعنكم و ينصركم على عدوكم. و هذا العموم في قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الّذين يلوننا، و أنواع المصالح كثيرة جدا.

[124] يقول تعالى: مبينا حال المنافقين، و حال المؤمنين عند نزول القرآن، و تفاوت ما بين الفريقين فقال:

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها الأمر، و النهي، و الخبر عن نفسه الكريمة، و عن الأمور الغائبة، و الحث على الجهاد.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً أي: حصل الاستفهام لمن حصل له الإيمان بها، من الطائفتين.

[125- 126] قال تعالى- مبينا الحال الواقعة-: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بالعلم بها، و فهمها، و اعتقادها، و العمل بها، و الرغبة في فعل الخير، و الانكفاف عن فعل الشر. وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏ أي: يبشر بعضهم بعضا، بما منّ اللّه عليهم من آياته، و التوفيق لفهمها و العمل بها. و هذا دال على انشراح صدورهم لآيات اللّه، و طمأنينة قلوبهم، و سرعة انقيادهم، لما تحثهم عليه. وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏ أي: شك و نفاق‏ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ‏ أي: مرضا إلى مرضهم، و شكا إلى شكهم، من حيث أنهم كفروا بها، و عاندوها، و أعرضوا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 406

عنها، فازداد لذلك مرضهم، و ترامى بهم إلى الهلاك‏ وَ الطبع على قلوبهم، حتى‏ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ‏ .

و هذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه، و عصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه. قال تعالى- موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر و النفاق-: أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏ بما يصيبهم من البلايا و الأمراض، و بما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم. ثُمَّ لا يَتُوبُونَ‏ عما هم عليه من الشر وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏ ما ينفعهم، فيفعلونه، و ما يضرهم فيتركونه. فاللّه تعالى يبتليهم- كما هي سنته في سائر الأمم- بالسراء و الضراء و بالأوامر و النواهي، ليرجعوا إليه، ثمّ لا يتوبون، و لا هم يذكرون. و في هذه الآيات، دليل على أن الإيمان يزيد و ينقص، و أنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إيمانه و يتعاهده، فيجدده و ينميه، ليكون دائما في صعود.

[127] و قوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ إلى‏ لا يَفْقَهُونَ‏ ، يعني: أن المنافقين الّذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ليؤمنوا بها، و يعملوا بمضمونها، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ‏ جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة، في الاختفاء عن أعين المؤمنين، و يقولون: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا متسللين، و انقلبوا معرضين، فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل‏ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ أي: صدها عن الحقّ و خذلها. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏ فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا- إذا نزلت سورة- آمنوا بها، و انقادوا لأمرها. و المقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد و غيره من شرائع الإيمان، كما قال تعالى عنهم: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏ .

[128- 129] يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، و يتمكنون من الأخذ عنه، و لا يأنفون عن الانقياد له، و هو صلّى اللّه عليه و سلّم في غاية النصح لهم، و السعي في مصالحهم.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ‏ أي: يشق عليه الأمر، الذي يشق عليكم و يعنتكم. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏ فيحب لكم الخير، و يسعى جهده في إيصاله إليكم، و يحرص على هدايتكم إلى الإيمان، و يكره لكم الشر، و يسعى جهده في تنفيركم عنه. بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ‏ أي: شديد الرأفة و الرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم. و لهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، و واجب على الأمة الإيمان به، و تعظيمه، و توقيره، و تعزيره، فَإِنْ‏ آمنوا، فذلك حظهم و توفيقهم، و إن‏ تَوَلَّوْا عن الإيمان و العمل، فامض على سبيلك، و لا تزل في دعوتك، و قل: حَسْبِيَ اللَّهُ‏ أي: اللّه يكفيني جميع ما أهمني، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا معبود بحق سواه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏ أي:

اعتمدت، و وثقت به، في جلب ما ينفع، و دفع ما يضر، وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏ الذي هو أعظم المخلوقات.

و إذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربّا لما دونه من باب أولى، و أحرى.

تمّ تفسير سورة التوبة بعون اللّه و منّه، فللّه الحمد، أولا و آخرا، و ظاهرا و باطنا.

تفسير سورة يونس‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

صفحه بعد