کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 451
يُؤْمِنُونَ بعد ما قامت عليهم الآيات، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: حالتكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ على ما كنا عليه وَ انْتَظِرُوا ما يحل بنا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يحل بكم. و قد فصل اللّه بين الفريقين، و أرى عباده نصره لعباده المؤمنين، و قمعه لأعداء اللّه المكذبين.
[123] وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ما غاب فيهما من الخفايا، و الأمور الغيبية. وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ من الأعمال و العمال، فيميز الخبيث من الطيب. فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي: قم بعبادته، و هي جميع ما أمر اللّه به مما تقدر عليه، و توكل على اللّه في ذلك. وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الخير و الشر، بل قد أحاط علمه بذلك، و جرى به قلمه، و سيجري عليه حكمه، و جزاؤه. تم تفسير سورة هود و الحمد للّه رب العالمين، و صلّى اللّه على محمد و سلم و كان الفراغ من نسخه في يوم السبت 12 من شهر ربيع الآخر سنة 1413.
سورة يوسف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يخبر تعالى أن آيات القرآن هي آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي: البين الواضحة ألفاظه، و معانيه.
[2] و من بيانه و إيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، و أبينها. المبين، لكل ما يحتاجه الناس، من الحقائق النافعة، و كل هذا الإيضاح و التبيين لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: لتعقلوا حدوده، و أصوله، و فروعه، و أوامره، و نواهيه. فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم، و اتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك، عمل الجوارح، و الانقياد إليه، و لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تزداد عقولكم، بتكرر المعاني الشريفة العالية، على أذهانكم، فتنتقلون من حال إلى أحوال، أعلى منها و أكمل.
[3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ و ذلك لصدقه، و سلاسة عبارته، و رونق معانيه، بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي: بما اشتمل عليه هذا القرآن، الذي أوحيناه إليك، و فضلناك به على سائر الأنبياء، و ذاك محض منّة، من اللّه و إحسان. وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي: ما كنت تدري، ما الكتاب، و لا الإيمان، قبل أن يوحي اللّه إليك، و لكن جعلناه نورا، نهدي به من نشاء، من عبادنا. و لما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن، من القصص، و أنه أحسن القصص على الإطلاق، فلا يوجد من القصص، في شيء من الكتب، مثل هذا القرآن، ذكر قصة يوسف، و أبيه، و إخوته، القصة العجيبة الحسنة، فقال: إِذْ قالَ يُوسُفُ إلى إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، و اعلم أن اللّه ذكر أنه يقص على رسوله، أحسن القصص في هذا الكتاب. ثم ذكر هذه القصة، و بسطها، و ذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك، أنها قصة تامة، كاملة حسنة. فمن أراد أن يكملها أو يحسنها، بما يذكر في الإسرائيليات، التي
تيسير الكريم الرحمن، ص: 452
لا يعرف له سند و لا ناقل، و أغلبها كذب، فهو مستدرك على اللّه، و مكمل لشيء، بزعم أنه ناقص. و حسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة، قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب، و الأمور الشنيعة المناقضة، لما قصه اللّه تعالى بشيء كثير. فعلى العبد أن يفهم عن اللّه، ما قصه، و يدع، ما سوى ذلك، مما ليس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، ينقل.
[4- 5] فقوله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، عليهم الصلاة و السلام:
يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ . فكانت هذه الرؤيا، مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام، من الارتفاع في الدنيا و الآخرة. و هكذا إذا أراد اللّه أمرا من الأصول العظام، قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، و تسهيلا لأمره، و استعدادا لما يرد على العبد من المشاق، و لطفا بعبده، و إحسانا إليه، فأوّلها يعقوب، بأن الشمس: أمه، و القمر أبوه، و الكواكب، إخوته، و أنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، و يسجدون له، إكراما و إعظاما، و أن ذلك لا يكون، إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء اللّه له، و اصطفائه إياه، و إتمام نعمته عليه، بالعلم و العمل، و التمكين في الأرض.
[6] و أن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له، و صاروا تبعا له فيها، و لهذا قال: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي: يصطفيك و يختارك بما منّ به عليك من الأوصاف الجليلة، و المناقب الجميلة، وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي: من تعبير الرؤيا، و بيان من تؤول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية و نحوها، وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا و الآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، و في الآخرة حسنة، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث أنعم اللّه عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، و دنيوية. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: علمه محيط بالأشياء، و بما احتوت عليه، ضمائر العباد، من البر و غيره، فيعطي كلا، ما تقتضيه حكمته و حمده، فإنه حكيم، يضع الأشياء مواضعها، و ينزلها منازلها. و لما تم تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي: حسدا من عند أنفسهم، بأن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ لا يفتر عنه، ليلا و لا نهارا، و لا سرا، و لا جهارا، فالبعد عن الأسباب، التي يتسلط بها على العبد، أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، و لم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.
[7] يقول تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ أي: عبر و أدلة، على كثير من المطالب الحسنة.
لِلسَّائِلِينَ أي: لكل من سأل عنها، بلسان الحال، أو بلسان المقال. فإن السائلين، هم الذين ينتفعون بالآيات و العبر، و أما المعرضون، فلا ينتفعون بالآيات، و لا بالقصص، و البينات.
[8] إِذْ قالُوا فيما بينهم: لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ بنيامين، أي: شقيقه، و إلا، فكلهم إخوة، أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة، فكيف يفضلهما بالمحبة و الشفقة، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لفي خطأ بيّن، حيث فضلهما علينا، من غير موجب نراه، و لا أمر نشاهده.
[9] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أي: غيبوه عن أبيه، في أرض بعيدة، لا يتمكن من رؤيته فيها. فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، أي: يتفرغ لكم، و يقبل عليكم بالشفقة و المحبة، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف، شغلا، لا يتفرغ لكم، وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد هذا الصنيع قَوْماً صالِحِينَ أي: تتوبون إلى اللّه، و تستغفرونه من بعد ذنبكم. فقدموا العزم على التوبة، قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، و إزالة لشناعته، و تنشيطا من بعضهم لبعض.
[10] أي: قالَ قائِلٌ من إخوة يوسف، الذين أرادوا قتله، أو تبعيده: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن قتله أعظم إثما، و أشنع، و المقصود يحصل بتبعيده عن أبيه، من غير قتل، و لكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه فِي غَيابَتِ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 453
الْجُبِ و تتوعدوه، على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق، لأجل أن يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يريدون مكانا بعيدا، فيحتفظوا به. و هذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، و أبرهم، و أتقاهم في هذه القضية. فإن بعض الشر، أهون من بعض، و الضرر الخفيف، يدفع به الضرر الثقيل.
[11] فلما اتفقوا على هذا الرأي قالُوا يا أَبانا ما إلى قوله: إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ، أي: قال إخوة يوسف، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا، على يوسف، من غير سبب، و لا موجب؟ وَ الحال إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أي: مشفقون عليه، نود له ما نود لأنفسنا، و هذا يدل على أن يعقوب عليه السلام، لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية و نحوها.
[12] فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة، لعدم إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف و أنسه، الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ أي: يتنزه في البرية و يستأنس، وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي: سنراعيه، و نحفظه من كل أذى يريده.
[13- 14] فأجابهم بقوله: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي: مجرد ذهابكم به، يحزنني، و يشق عليّ، لأنني لا أقدر على فراقه، و لو مدة يسيرة. فهذا مانع من إرساله وَ مانع ثان، و هو: أني أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ أي: في حال غفلتكم عنه، لأنه صغير، لا يمتنع من الذئب. قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة، حريصون على حفظه، إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي: لا خير فينا، و لا نفع يرجى منا، إن أكله الذئب، و غلبنا عليه. فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله، و عدم الموانع، سمح حينئذ بإرساله معهم، لأجل أنسه.
[15- 17] أي: لما ذهب إخوة يوسف، بعد ما أذن له أبوه، و عزموا أن يجعلوه في غيابة الجب، كما قال قائلهم، السابق ذكره، و كانوا قادرين على ما أجمعوا عليه، فنفذوا فيه قدرتهم، و ألقوه في الجب، ثم إن اللّه، لطف به، بأن أوحى إليه و هو بتلك الحال الحرجة، لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: سيكون منك معاتبة لهم، و إخبار عن أمرهم هذا، و هم لا يشعرون بذلك الأمر. ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، و أن اللّه سيجمعه بأهله و إخوته، على وجه العز و التمكين له، في الأرض. وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) ليكون إتيانهم، متأخرا عن عادتهم، و بكاؤهم دليلا لهم، و قرينة على صدقهم، فقالوا- معتذرين بعذر كاذب-، يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ إما على الأقدام، أو بالرمي و النضال، وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا توفيرا له و راحة، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ في حال غيابنا عنه و استباقنا، وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي: اعتذرنا بهذا العذر، و الظاهر أنك لا تصدقنا، لما في قلبك من الحزن على يوسف، و الرقة الشديدة عليه.
[18] و لكن عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، و كل هذا، تأكيد لعذرهم، وَ مما أكدوا به قولهم، أنهم جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ زعموا، أنه دم
تيسير الكريم الرحمن، ص: 454
يوسف، حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني و بينه، لأنه رأى من القرائن و الأحوال، و من رؤيا يوسف، التي قصها عليه، ما دله على ما قال. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي: أما أنا، فوظيفتي سأحرص على القيام بها، و هي أني أصبر على هذه المحنة، صبرا جميلا، سالما من السخط و التّشكّي إلى الخلق، و أستعين اللّه على ذلك، لا على حولي و قوتي. فوعد من نفسه هذا الأمر و شكى إلى خالقه في قوله: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ لأن الشكوى إلى الخالق، لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي، إذا وعد وفى.
[19- 20] أي: مكث يوسف في الجب، ما مكث، حتى جاءَتْ سَيَّارَةٌ أي: قافلة تريد مصر، فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي: فرطهم و مقدمهم، الذي يعس لهم المياه، و يسبرها و يستعد لهم بتهيئة الحياض و نحو ذلك، فَأَدْلى ذلك الوارد دَلْوَهُ فتعلق فيه يوسف عليه السلام، و خرج. قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ أي: استبشر و قال: هذا غلام نفيس، وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً و كان إخوته قريبا منه، فاشتراه السيارة منهم، بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي: قليل جدا، فسره بقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ . لأنه لم يكن لهم قصد، إلا تغييبه، و إبعاده عن أبيه، و لم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه. و المعنى في هذا:
أن السيارة، لما وجدوه، عزموا أن يسرّوا أمره، و يجعلوه من جملة بضائعهم، التي معهم، حتى جاءهم إخوته، فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم، بذلك الثمن، و استوثقوا منهم فيه، لئلا يهرب، و اللّه أعلم.
[21] أي لما ذهب به السيارة إلى مصر، و باعوه بها، فاشتراه عزيز مصر. فلما اشتراه، أعجب به، و وصى عليه امرأته و قال: أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد، بأنواع الخدم، و إما أن نستمتع فيه، استمتاعنا بأولادنا، و لعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، و يكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا، مقدمة لتمكينه في الأرض، من هذا الطريق.
وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ إذا بقي لا شغل له و لا همّ سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام، و علم التعبير، و غير ذلك، وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، و لا يغلبه مغالب، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . فلذلك يجري منهم، و يصدر، في مغالبة أحكام اللّه القدرية، و هم أعجز، و أضعف من ذلك.
[22- 29] أي: وَ لَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ أي: كمال قوته المعنوية و الحسية، و صلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة، و الرسالة، آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً أي: جعلناه نبيا رسولا، و عالما ربانيا، وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادة الخالق ببذل الجهد و النصح فيها، و إلى عباد اللّه، ببذل النفع و الإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم، علما نافعا. و دل هذا، على أن يوسف في مقام الإحسان، فأعطاه اللّه الحكم بين الناس، و العلم الكثير و النبوة.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 455
هذه المحنة العظيمة، أعظم على يوسف من محنة إخوته، و صبره عليها، أعظم أجرا، لأنه صبر اختيار، مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع الفعل، فقدم محبة اللّه عليها، و أما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض و المكاره التي تصيب العبد بغير اختياره و ليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعا أو كارها. و ذلك أن يوسف عليه الصلاة و السلام، بقي مكرما في بيت العزيز. و كان له من الجمال، و الكمال، و البهاء، ما أوجب ذلك، أن راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي: هو غلامها، و تحت تدبيرها، و المسكن واحد، يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه، من غير شعور أحد، و لا إحساس بشر. وَ زادت المصيبة، بأن غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ و صار المحل خاليا، و هما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، و قد دعته إلى نفسها وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي:
افعل الأمر المكروه و أقبل إليّ، و مع هذا، فهو غريب، لا يحتشم مثله، ما يحتشمه إذا كان في وطنه، و بين معارفه، و هو أسير تحت يدها، و هي سيدته، و فيها من الجمال، ما يدعو إلى ما هنالك، و هو شاب عزب، و قد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به، بالسجن، أو العذاب الأليم. فصبر عن معصية اللّه، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما، تركه للّه، و قدم مراد اللّه على مراد النفس الأمارة بالسوء، و رأى من برهان ربه- و هو ما معه من العلم و الإيمان، الموجب، لترك كل ما حرم اللّه- ما أوجب له البعد و الانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة. قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي: أعوذ باللّه، أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط اللّه، و يبعد عنه، و لأنه خيانة في حق سيدي، الذي أكرم مثواي. فلا يليق بي، أن أقابله في أهله، بأقبح مقابلة، و هذا من أعظم الظلم، و الظالم لا يفلح.
و الحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل، تقوى اللّه، و مراعاة حق سيده، الذي أكرمه، و صيانة نفسه عن الظلم، الذي لا يفلح من تعاطاه، و كذلك ما من اللّه عليه، من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، و اجتناب الزواجر. و الجامع لذلك كله، أن اللّه صرف عنه السوء و الفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له، في عباداتهم، الذين أخلصهم اللّه، و اختارهم، و اختصهم لنفسه، و أسدى عليهم من النعم، و صرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه. و لما امتنع من إجابة طلبها، بعد المراودة الشديدة، و ذهب ليهرب عنها، و يبادر إلى الخروج من الباب، ليتخلص، و يهرب من الفتنة، فبادرت إليه، و تعلقت بثوبه، فشقت قميصه، فلما وصلا إلى الباب، في تلك الحال، ألفيا سيدها، أي: زوجها لدى الباب، فرأى أمرا شق عليه، فبادرت إلى الكذب، و ادعت أن المراودة قد كانت من يوسف، و قالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً و لم تقل «من فعل بأهلك سوءا» تبرئة لها، و تبرئة له أيضا، من الفعل. و إنما النزاع عن الإرادة، و المراودة، إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: أو يعذب عذابا أليما. فبرأ نفسه، مما رمته به، و قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فحينئذ احتملت الحال، صدق كل واحد منهما، و لم يعلم أيهما.
و لكن اللّه تعالى، جعل للحق و الصدق علامات، و أمارات تدل عليه، قد يعلمها العباد، و قد لا يعلمونها. فمنّ اللّه في هذه القضية، بمعرفة الصادق منهما، تبرئة لنبيه و صفيه، يوسف عليه السلام، فبعث شاهدا من أهل بيتها، يشهد بقرينة من وجدت معه، فهو الصادق، فقال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها، المراود لها، المعالج، و أنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا الجانب. وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) لأن ذلك، يدل على هروبه منها، و أنها هي التي طلبته، فشقت قميصه من هذا الجانب. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف بذلك صدق يوسف و براءته، و أنها هي الكاذبة. فقال لها سيدها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . و هل أعظم من هذا الكيد، الذي برأت به نفسها، لما أرادت و فعلت، و رمت به نبي اللّه، يوسف عليه السلام. ثم إن سيدها لما تحقق الأمر، قال ليوسف: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، أي: اترك الكلام فيه، و تناسه، و لا تذكره لأحد، طلبا للستر على أهله، وَ اسْتَغْفِرِي أيتها المرأة لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ فأمر يوسف بالإعراض، و أمرها بالاستغفار و التوبة.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 456
[30- 35] يعني: أن الخبر اشتهر و شاع في البلد، و تحدث به النسوة، فجعلن يلمنها، و يقلن: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي: هذا أمر مستقبح، هي امرأة كبيرة القدر، و زوجها كبير القدر، و مع هذا، لم تزل تراود فتاها، الذي تحت يدها، و في خدمتها- عن نفسه، و مع هذا فإن حبه، بلغ من قلبها، مبلغا عظيما. قَدْ شَغَفَها حُبًّا ، أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، و هو:
باطنه و سويداؤه، و هذا أعظم ما يكون من الحب، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث وجدت منها هذه الحالة، التي لا ينبغي منها، و هي حالة تحط قدرها، و تضعه عند الناس.
و كان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها، و القدح فيها، و إنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام، إلى رؤية يوسف، الذي فتنت به امرأة العزيز، لتحنق امرأة العزيز، و تريهن إياه، ليعذرنها و لهذا سماه: مكرا، فقال:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ تدعوهن إلى منزلها للضيافة. وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أي: محلا مهيأ بأنواع الفرش و الوسائد، و ما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، و كان في جملة ما أتت به و أحضرته، في تلك الضيافة طعام يحتاج إلى سكين، إما أترج، أو غيره، وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ليقطعن بها ذلك الطعام وَ قالَتِ ليوسف: اخْرُجْ عَلَيْهِنَ في حالة جماله و بهائه. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي: أعظمنه في صدورهن، و رأين منظرا فائقا، لم يشاهدن مثله، وَ قَطَّعْنَ من الدهش أَيْدِيَهُنَ بتلك السكاكين، اللاتي معهن، وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي: تنزيها للّه ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ، و ذلك أن يوسف، أعطي من الجمال الفائق، و النور، و البهاء، ما كان به آية للناظرين، و عبرة للمتأملين. فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر، و أعجبهن غاية العجب، و ظهر منهن من العذر لامرأة العزيز، شيء كثير- أرادت أن تريهن جماله الباطن، بالعفة التامة- فقالت- معلنة لذلك، و مبينة لحبه الشديد،. غير مبالية، و لأن اللوم انقطع عنها من النسوة: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع و هي مقيمة على مراودته، لم تزدها مرور الأوقات، إلا قلقا و محبة و شوقا لوصاله و توقا. و لهذا قالت له بحضرتهن: وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ، لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه. فعند ذلك، اعتصم يوسف بربه، و استعان به على كيدهن. قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ و هذا يدل، أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، و جعلن يكدنه في ذلك. فاستحب السجن و العذاب الدنيوي، على لذة حاضرة، توجب العذاب الشديد. وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ أي: أمل إليهن فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، صبوت إليهن وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات، و شهوات متنوعات، في جنات النعيم. و من آثر هذا، على هذا، فمن أجهل منه؟ فإن العلم و العقل، يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين، و أعظم اللذتين، و يؤثر، ما كان محمود العاقبة. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ حين دعاه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ فلم تزل تراوده و تستعين عليه، بما تقدر عليه من الوسائل، حتى آيسها، و صرف اللّه عنه كيدها، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الداعي الْعَلِيمُ بنيته الصالحة، و بنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته و لطفه. فهذا ما نجى اللّه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 457
به يوسف من هذه الفتنة الملمة، و المحنة الشديدة، و أما أسياده، فإنه لما اشتهر الخبر و بان، و صار الناس فيها، بين عاذر، و لائم، و قادح. بَدا لَهُمْ أي: ظهر لهم مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءته، لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي:
لينقطع بذلك، الخبر، و يتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع، لم يزل يذكر، و يشيع، مع وجود أسبابه، فإذا عدمت أسبابه نسي. فرأوا أن هذا مصلحة لهم، فأدخلوه في السجن.
[36- 37] أي وَ لما دخل يوسف السجن، كان من جملة من دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصها على يوسف ليعبرها. قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً و ذلك الخبز تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي: بتفسيره، و ما يؤول إليه أمره. و قولهما:
إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي: من أهل الإحسان إلى الخلق فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسلا ليوسف بإحسانه. قالَ لهما مجيبا لطلبهما: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أي: فلتطمئن قلوبكما، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما، فلا يأتيكما غداؤكما، أو عشاؤكما، أول ما يجيء إليكما، إلا نبأتكما بتأويله، قبل أن يأتيكما. و لعل يوسف عليه الصلاة و السلام، قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال، التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع لدعوته، و أقبل لهما. ثم قال: ذلِكُما التعبير الذي سأعبره لكما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ، أي: هذا من علم اللّه علمنيه، و أحسن إليّ به، و ذلك إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ، و الترك، كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلا. فلا يقال: إن يوسف، كان من قبل، على غير ملة إبراهيم.