کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 469

[109] ثم قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أي: لم نرسل ملائكة و لا غيرهم من أصناف الخلق، فلأي شي‏ء يستغرب قومك رسالتك و يزعمون أنه ليس عليهم فضل. فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ أي: لا من البادية، بل من أهل القرى، الّذين هم أكمل عقولا، و أصح آراء، و ليتبين أمرهم، و يتضح شأنهم. أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ‏ إذا لم يصدقوا لقولك، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ كيف أهلكهم اللّه بتكذيبهم، فاحذروا، أن تقيموا على ما قاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم، وَ لَدارُ الْآخِرَةِ أي: الجنة و ما فيها، من النعيم المقيم، خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه، في امتثال أوامره، و اجتناب نواهيه، فإن نعيم الدنيا منغص منكد، منقطع. و نعيم الآخرة، تام كامل، لا يفنى أبدا، بل هو على الدوام، في تزايد و تواصل، «عطاء غير مجذوذ» أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏ أي: أفلا تكون لكم عقول، تؤثر الذي هو خير، على الأدنى.

[110] يخبر تعالى: أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، و أن اللّه تعالى يمهلهم، ليرجعوا إلى الحق، و لا يزال اللّه يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل. حتى إن الرسل- على كمال يقينهم، و شدة تصديقهم بوعد اللّه و وعيده- ربما أنه يخطر بقلوبهم، نوع من الإياس، و نوع من ضعف العلم و التصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال‏ جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ و هم الرسل و أتباعهم، وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏ أي: و لا يرد عذابنا، عمن اجترم، و تجرأ على اللّه‏ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ .

[111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ‏ أي: قصص الأنبياء و الرسل مع قومهم، عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ أي:

يعتبرون بها، أهل الخير، و أهل الشر، و أن من فعل مثل فعلهم، ناله ما نالهم، من كرامة، أو إهانة، و يعتبرون بها أيضا، ما للّه من صفات الكمال و الحكمة العظيمة، و أنه اللّه، الذي لا تنبغي العبادة إلّا له، وحده لا شريك له.

و قوله: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى‏ أي: ما كان هذا القرآن، الذي قص اللّه به عليكم من أنباء الغيب ما قص، من الأحاديث المفتراة المختلقة، وَ لكِنْ‏ كان‏ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏ من الكتب السابقة، يوافقها، و يشهد لها بالصحة، وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يحتاج إليه العباد، من أصول الدين و فروعه، و من الأدلة و البراهين. وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ فإنهم- بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق و إيثاره- يحصل لهم الهدى، و بما يحصل لهم من الثواب العاجل و الآجل، تحصل لهم الرحمة.

فصل‏

في ذكر شي‏ء من العبر و الفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال اللّه في أولها: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏ و قال: * لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ‏ (7) و قال في آخرها: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد. فمن ذلك، أن هذه القصة، من أحسن القصص و أوضحها، و أبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، و من محنة إلى منحة، و من محنة إلى منحة و منّة،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 470

و من ذل إلى عز و من رقّ إلى ملك، و من فرقة و شتات، إلى اجتماع و ائتلاف، و من حزن إلى سرور، و من رخاء إلى جدب، و من جدب إلى رخاء، و من ضيق إلى سعة، و من إنكار إلى قرار، فتبارك من قصها، فأحسنها، و وضحها و بيّنها. و منها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، فإن علم التعبير، من العلوم المهمة، التي يعطيها اللّه من يشاء من عباده، و إن أغلب ما تبنى عليه، المناسبة و المشابهة في الاسم و الصفة، فإن رؤيا يوسف، التي رأى فيها الشمس و القمر، و أحد عشر كوكبا له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار، هي زينة السماء و جمالها، و بها منافعها. فكذلك الأنبياء و العلماء، زينة للأرض و جمال، و بهم يهتدى في الظلمات، كما يهتدى بهذه الأنوار، و لأن الأصل أبوه و أمه، و إخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل، أعظم نورا، و جرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، و القمر أباه، و الكواكب إخوته. و من المناسبة أن الشمس، لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، و القمر و الكواكب، مذاكرات، فكانت لأبيه و إخوته. و من المناسبة، أن الساجد معظم محترم للمسجود له، و المسجود له معظم محترم، فلذلك، دل ذلك، على أن يوسف يكون معظما محترما، عند أبويه و إخوته. و من لازم ذلك، أن يكون مجتبى مفضلا، في العلم و الفضائل، الموجبة لذلك. و لذلك قال أبوه: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ‏ . و من المناسبة في رؤيا الفتيين، أن الرؤيا الأولى، التي رأى صاحبها، أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر خمرا في العادة، يكون خادما لغيره، و العصر يقصد لغيره، فلذلك أوّله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، و ذلك متضمن لخروجه من السجن. و أوّل رؤيا الآخر، أي: أنه يحمل فوق رأسه خبزا، تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه و لحمه، و ما في ذلك من إلخ، أنه هو الذي يحمل، و أنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل و يصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، و ذلك لا يكون إلّا بالصلب بعد القتل. و أوّل رؤيا الملك، للبقرات و السنبلات، بالسنين المخصبة، و السنين المجدبة، و وجه المناسبة، أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية و مصالحها، و بصلاحه تصلح، و بفساده تفسد، و كذلك السنون، بها صلاح أحوال الرعية، و استقامة أمر المعاش، أو عدمه. و أما البقر، فإنها تحرث الأرض عليها، و يستقى عليها الماء، و إذا أخصبت السنة، سمنت، و إذا أجدبت، صارت عجافا، و كذلك السنابل في الخصب، تكثر و تخضر، و في الجدب، تقل و تيبس و هي أفضل غلال الأرض. و منها: ما فيها من الأدلة، على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم، حيث قص على قومه هذه القصة الطويلة، و هو لم يقرأ كتب الأولين، و لا دارس أحدا. يراه قومه، بين أظهرهم، صباحا و مساء، و هو أمّيّ لا يخط و لا يقرأ، و هي موافقة، لما في الكتب السابقة، و ما كان لديهم، إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون. و منها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، و كتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ، و منها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً . و منها: أن نعمة اللّه على العبد، نعمة على من يتعلق به، من أهل بيته، و أقاربه، و أصحابه، و أنه ربما شملهم، و حصل لهم ما حصل له سببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف‏ وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ‏ ، و لما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب، من العز و التمكين في الأرض، و السرور و الغبطة، ما حصل بسبب يوسف. و منها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته فقط، و لا فيما دونه، بل حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة و الإيثار، و غيره، و أن في الإخلال بذلك، يختل عليه الأمر، و تفسد الأحوال. و لهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة، و آثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، و على أبيهم و أخيهم. و منها: الحذر من شؤم الذنوب، و أن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، و لا يتم لفاعله، إلّا بعد جرائم. فإخوة يوسف، لما أرادوا التفريق بينه و بين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل‏

، و كذبوا عدة مرات، و زوروا على أبيهم في القميص و الدم، الذي فيه، و في إتيانهم عشاء يبكون، و لا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها، في‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 471

تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، و كلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، و الافتراء، ما حصل، و هذا شؤم الذنب، و آثاره التابعة، و السابقة، و اللاحقة. و منها: أن العبرة في حال العبد، بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب، عليه السّلام، جرى منهم ما جرى، في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص و اللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، و السماح التام، من يوسف، و من أبيهم، و الدعاء بالمغفرة و الرحمة، و إذا سمح العبد عن حقه، فاللّه خير الراحمين. و لهذا- في أصح الأقوال- أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ، و الأسباط هم: أولاد يعقوب الاثنا عشر، و ذريتهم. و مما يدل على ذلك، أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، و الكواكب فيها النور و الهداية، و ذلك من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء، فإنهم علماء هداة. و منها: ما منّ اللّه به على يوسف، عليه الصلاة و السّلام، من العلم، و الحلم، و مكارم الأخلاق، و الدعوة إلى اللّه، و إلى دينه، و عفوه عن إخوته الخاطئين، عفوا بادرهم به، و تم ذلك بأن لا يثرب عليهم، و لا يعيرهم به. ثمّ برّه العظيم بأبويه، و إحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق. و منها: أن بعض الشر، أهون من بعض، و ارتكاب أخف الضررين، أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف، أو إلقائه أرضا و قال قائل منهم: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ‏ كان قوله أحسن منهم و أخف، و بسببه خف عن إخوته الإثم الكبير. و منها: أن الشي‏ء إذا تداولته الأيدي، و صار من جملة الأموال، و لم يعلم أنه كان على غير الشرع، أنه لا إثم على من باشره، ببيع، أو شراء، أو خدمة، أو انتفاع، أو استعمال. فإن يوسف عليه السّلام، باعه إخوته بيعا حراما، لا يجوز. ثمّ ذهبت به السيارة إلى مصر، فباعوه بها، و بقي عند سيده غلاما رقيقا، و سماه اللّه سيدا، و كان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم. و منها: الحذر من الخلوة بالنساء، اللائي يخشى منهن الفتنة، و الحذر أيضا من المحبة، التي يخشى ضررها. فإن امرأة العزيز، جرى منها ما جرى، بسبب انفرادها بيوسف، و حبها الشديد له، الذي ما تركها، حتى راودته تلك المراودة، ثمّ كذبت عليه، فسجن- بسببها- مدة طويلة. و منها: أن الهمّ الذي، همّ به يوسف بالمرأة، ثمّ تركه للّه، مما يرقيه إلى اللّه زلفى، لأن الهم داع من دواعي النفس، الأمارة بالسوء، و هو طبيعة لأغلب الخلق. فلما قابل بينه و بين محبة اللّه و خشيته، غلبت محبة اللّه و خشيته، داعي النفس، و الهوى، فكان ممن‏ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ ، و من السبعة الّذين يظلهم اللّه في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، أحدهم رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال، فقال: إني أخاف اللّه، و إنّما الهم الذي يلام عليه العبد، الهم الذي يساكنه، و يصير عزما، ربما اقترن به الفعل. و منها: أن من دخل الإيمان قلبه، و كان مخلصا للّه، في جميع أموره فإن اللّه يدفع عنه ببرهان إيمانه، و صدق إخلاصه، من أنواع السوء و الفحشاء و أسباب المعاصي، ما هو جزاء لإيمانه و إخلاصه لقوله: وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏ على قراءة من قرأها بكسر اللام، و من قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص اللّه إياه، و هو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله للّه، أخلصه اللّه، و خلصه من السوء و الفحشاء.

و منها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة و أسباب معصية، أن يفر منه، و يهرب، غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السّلام- لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب، ليتخلص من شرها. و منها: أن القرائن يعمل بها، عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل و امرأته في شي‏ء من أواني الدار، فما يصلح للرجل، فإنه للرجل، و ما يصلح للمرأة، فهو لها، هذا إذا لم يكن بينة. و كذا لو تنازع نجار و حداد في آلة حرفتهما، من غير بينة، و العمل بالقيافة، في الأشباه و الأثر، من هذا الباب. فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، و حكم بها في قد القميص، و استدل بقدّه من دبره على صدق يوسف و كذبها. و مما يدل على هذه القاعدة، أن استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة، و لا إقرار. فعلى هذا، إذا وجد

تيسير الكريم الرحمن، ص: 472

المسروق في يد السارق، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، و هذا أبلغ من الشهادة، و كذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها و لا سيد، حاملا فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقع مانع منه، و لهذا سمى اللّه هذا الحكم شاهدا فقال: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها . و منها: ما عليه يوسف، من الجمال الظاهر و الباطن، فإن جماله الظاهر، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب. و للنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن و قلن‏ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ‏ . و أما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها، و شهادة امرأة العزيز و النسوة بعد ذلك ببراءته، و لهذا قالت امرأة العزيز: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ‏ ، و قالت بعد ذلك: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏ ، و قالت النسوة: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ . و منها: أن يوسف عليه السّلام، اختار السجن على المعصية. فهكذا ينبغي للعبد، إذا ابتلي بين أمرين- إما فعل معصية، و إما عقوبة دنيوية- أن يختار العقوبة الدنيوية، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة، في الدنيا و الآخرة. و لهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار. و منها: أنه ينبغي للعبد، أن يلتجى‏ء إلى اللّه، و يحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، و يتبرأ من حوله و قوته، لقول يوسف عليه السّلام: وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ‏ . و منها: أن العلم و العقل يدعوان صاحبهما إلى الخير، و ينهيانه عن الشر، و أن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس، و إن كان معصية ضارا لصاحبه. و منها: أنه كما على العبد عبودية للّه في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة. ف «يوسف» عليه السّلام، لم يزل يدعو إلى اللّه، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، و دعا الفتيين إلى التوحيد، و نهاهما عن الشرك. و من فطنته عليه السّلام، أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن و قالا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏ و أتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوقين لتعبيرها عنده- رأى ذلك فرصة، فانتهزها، فدعاهما إلى اللّه تعالى، قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، و أقرب لحصول مطلوبه. و بين لهما أولا، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها، من الكمال و العلم، إيمانه، و توحيده، و تركه ملة من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و هذا دعاء لهما بلسان الحال، ثمّ دعاهما بالمقال، و بين فساد الشرك، و برهن عليه، و حقيقة التوحيد، و برهن عليه. و منها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، و أنه إذا سئل المفتي، و كان السائل في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم و فطنته، و حسن إرشاده و تعليمه. فإن يوسف- لما سأله الفتيان عن الرؤيا- قدم لهما قبل تعبيرها- دعوتهما إلى اللّه وحده لا شريك له. و منها: أن من وقع في مكروه و شدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، و أن هذا، لا يكون شكوى للمخلوق فإن هذا، من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس، بعضهم ببعض، و لهذا قال يوسف، للذي ظن أنه ناج من الفتيين: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ‏ . و منها: أنه ينبغي و يتأكد على المعلم، استعمال الإخلاص التام في تعليمه و أن لا يجعل تعليمه، وسيلة لمعاوضة أحد في مال، أو جاه، أو نفع، و أن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السّلام قد قال، و وصى أحد الفتيين، أن يذكره عند ربه، فلم يذكره و نسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف، أرسلوا ذلك الفتى، و جاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، و لا وبّخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله، جوابا تاما من كل وجه. و منها: أنه ينبغي للمسؤول أن يدل السائل على أمر ينفعه، مما يتعلق بسؤاله، و يرشده إلى الطريق، التي ينتفع بها، في دينه و دنياه، فإن هذا من كمال نصحه و فطنته، و حسن إرشاده، فإن يوسف، عليه السّلام، لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم- مع ذلك- على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات، من كثرة الزرع، و كثرة

جبايته. و منها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، و طلب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 473

البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة، اللاتي قطعن أيديهن. و منها: فضيلة العلم، علم الأحكام و الشرع، و علم تعبير الرؤيا، و علم التدبير و التربية؛ و أنه أفضل من الصورة الظاهرة، و لو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف- بسبب جماله- حصلت له تلك المحنة، و السجن، و بسبب علمه، حصل له العز و الرفعة، و التمكين في الأرض، فإن كل خير في الدنيا و الآخرة، من آثار العلم و موجباته. و منها: أن علم التعبير، من العلوم الشرعية، و أنه يثاب الإنسان على تعلمه و تعليمه، و أن تعبير الرؤيا، داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ‏ و قال الملك: أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ‏ ، و قال الفتى ليوسف: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ‏ الآيات، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا، من غير علم. و منها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه، من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، و لم يقصد به العبد الرياء، و سلم من الكذب، لقول يوسف: اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏ ، و كذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق اللّه، و حقوق عباده، و أنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره. و إنّما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر اللّه، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، و التعرض لها. و منها: أن اللّه واسع الجود و الكرم، يجود على عبده، بخير الدنيا و الآخرة، و أن خير الآخرة له سببان: الإيمان، و التقوى. و أنه خير من ثواب الدنيا و ملكها، و أن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه، و يشوقها لثواب اللّه، و لا يدعها تحزن، إذا رأت زينة أهل الدنيا و لذاتها، و هي غير قادرة عليها، بل يسليها بثواب اللّه الأخروي، و فضله العظيم لقوله تعالى: وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ‏ (57).

و منها: أن جباية الأرزاق- إذا أريد بها التوسعة على الناس، من غير ضرر يلحقهم- لا بأس بها، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق و الأطعمة، في السنين المخصبات، للاستعداد للسنين المجدبة، و أن هذا غير مناقض للتوكل على اللّه، بل يتوكل العبد على اللّه، و يعمل الأسباب التي تنفعه، في دينه و دنياه. و منها: حسن تدبير يوسف، لما تولى خزائن الأرض، حتى كثرت عندهم الغلات جدا، و حتى صار أهل الأقطار، يقصدون مصر لطلب الميرة منها، لعلمهم بوفورها فيها، و حتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير و حمله. و منها: مشروعية الضيافة، و أنها من سنن المرسلين، و إكرام الضيف لقول يوسف لإخوته: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ‏ . و منها: أن سوء الظن- مع وجود القرائن الدالة عليه- غير ممنوع و لا محرم. فإن يعقوب قال لأولاده- بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثمّ قال لهم بعد ما أتوه، و زعموا أن الذئب أكله‏ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، قال لهم في الأخ الآخر: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ‏ ، ثمّ لما احتبسه يوسف عنده، و جاء إخوته لأبيهم قال لهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فهم في الأخيرة- و إن لم يكونوا مفرطين- فقد جرى منهم، ما أوجب لأبيهم، أن قال ما قال، من غير إثم عليه و لا حرج.

و منها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين و غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، و إن كان لا يقع شي‏ء إلا بقضاء و قدر. فإن الأسباب أيضا، من القضاء و القدر لأمر يعقوب، حيث قال لبنيه:

يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ . و منها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، و أن العلم بالطرق الخفية الموصلة، إلى مقاصدها، مما يحمد عليه العبد، و إنّما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم. و منها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية و الفعلية، المانعة من الكذب، كما فعل يوسف، حيث ألقى الصّواع في رحل أخيه، ثمّ استخرجها منه، موهما أنه سارق، و ليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، و قال بعد ذلك: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ‏ و لم يقل «من سرق متاعنا» و كذلك لم يقل «إنا وجدنا متاعنا عنده» بل أتى بكلام عام، يصلح له و لغيره، و ليس في ذلك‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 474

محذور، و إنّما فيه إيهام أنه سارق، ليحصل المقصود الحاضر، و أن يبقى عنده أخوه، و قد زال عن الأخ هذا الإيهام، بعد ما تبينت الحال. و منها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، و تحققه بمشاهدة، أو خبر من يثق به، و تطمئن إليه النفس لقولهم: وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا . و منها: هذه المحنة العظيمة، التي امتحن اللّه بها نبيه و صفيه، يعقوب عليه السّلام، حيث قضى بالتفريق، بينه و بين ابنه يوسف، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، و يحزنه ذلك أشد الحزن، فحصل التفريق بينه و بينه، مدة طويلة، لا تقصر عن ثلاثين سنة، و يعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏ . ثمّ ازداد به الأمر شدة، حين صار الفراق بينه و بين ابنه الثاني، شقيق يوسف، هذا و هو صابر لأمر اللّه، محتسب الأجر من اللّه، قد وعد من نفسه الصبر الجميل، و لا شك أنه و في بما وعد به. و لا ينافي ذلك، قوله: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏ فإن الشكوى إلى اللّه، لا تنافي الصبر، و إنّما الذي ينافيه، الشكوى إلى المخلوقين. و منها: أن الفرج مع الكرب؛ و أن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب، و اشتد به إلى أنهى ما يكون، ثمّ حصل الاضطرار لآل يعقوب، و مسهم الضر، أذن اللّه حينئذ، بالفرج، فحصل التلاقي، في أشد الأوقات إليه حاجة و اضطرارا، فتم بذلك الأجر، و حصل السرور، و علم من ذلك، أن اللّه يبتلي أولياءه بالشدة و الرخاء، و العسر و اليسر ليمتحن صبرهم و شكرهم، و يزداد- بذلك- إيمانهم و يقينهم و عرفانهم. و منها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، و ما هو فيه من مرض، أو فقر و نحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ و لم ينكر عليهم يوسف. و منها: فضيلة التقوى، و أن كل خير في الدنيا و الآخرة، فمن آثار التقوى و الصبر، و أن عاقبة أهلهما، أحسن العواقب لقوله:

قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏ . و منها: أنه ينبغي لمن أنعم اللّه عليه بنعمة، بعد شدة، و فقر، و سوء حال، أن يعترف بنعمة اللّه عليه، و أن لا يزال ذاكرا حاله الأولى، ليحدث لذلك شكرا، كلما ذكرها، لقول يوسف عليه السّلام: وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ . و منها:

لطف اللّه العظيم بيوسف، حيث نقله في تلك الأحوال، و أوصل إليه الشدائد و المحن، ليوصله بها إلى أعلى الغايات، و رفيع الدرجات. و منها: أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى اللّه دائما، في تثبيت إيمانه، و يعمل الأسباب الموجبة لذلك، و يسأل اللّه حسن الخاتمة، و تمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة و السّلام: * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏ (101). فهذا ما يسر اللّه من الفوائد و العبر، في هذه القصة المباركة، و لا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك. فنسأله تعالى، علما نافعا، و عملا متقبلا، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة يوسف عليه الصلاة و السّلام، و الحمد للّه رب العالمين.

تفسير سورة الرعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يخبر تعالى: أن هذا القرآن، هو آيات الكتاب الدالة، على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين و فروعه، و أن الذي أنزل إلى الرسول من ربه، هو الحقّ المبين، لأن إخباره صدق، و أوامره، و نواهيه، عدل، مؤيدة بالأدلة

تيسير الكريم الرحمن، ص: 475

و البراهين القاطعة، فمن أقبل عليه، و على علمه، كان من أهل العلم بالحق، الذي يوجب لهم علمهم به، العمل بما أوجب اللّه. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏ بهذا القرآن، إما جهلا، و إعراضا عنه، و عدم اهتمام به، و إما عنادا و ظلما، فلذلك أكثر الناس، غير منتفعين به، لعدم السبب الموجب للانتفاع.

[2] يخبر تعالى عن انفراده بالخلق و التدبير، و العظمة و السلطان، الدال على أنه وحده المعبود، الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ‏ على عظمها و اتساعها، بقدرته العظيمة، بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي: ليس لها عمد من تحتها، فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها، ثُمَ‏ بعد ما خلق السموات و الأرض‏ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ‏ العظيم الذي هو أعلى المخلوقات، استواء يليق بجلاله، و يناسب كماله. وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لمصالح العباد و مصالح مواشيهم و ثمارهم، كُلٌ‏ من الشمس و القمر يَجْرِي‏ بتدبير العزيز العليم، لِأَجَلٍ مُسَمًّى‏ بسير منتظم، لا يفتران، و لا ينيان، حتى يجي‏ء الأجل المسمى و هو طيّ اللّه هذا العالم، و نقلهم إلى الدار الآخرة، التي هي دار القرار، فعند ذلك يطوي اللّه السموات، و يبدلها، و يغير الأرض و يبدلها. فتكور الشمس و القمر، و يجمع بينهما، فيلقيان في النار، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة، و ليعلم الّذين كفروا، أنهم كانوا كاذبين. و قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ‏ هذا جمع بين الخلق و الأمر، أي: قد استوى اللّه العظيم على سرير الملك، يدبر الأمور في العالم العلوي و السفلي، فيخلق و يرزق، و يغني، و يفقر، و يرفع أقواما، و يضع آخرين، و يعز و يذل، و يخفض و يرفع، و يقيل العثرات، و يفرج الكربات، و ينفذ الأقدار في أوقاتها، التي سبق بها علمه، و جرى بها قلمه، و يرسل ملائكته الكرام، لتدبير ما جعلهم على تدبيره. و ينزل الكتب الإلهية على رسله، و يبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع، و الأوامر و النواهي، و يفصلها غاية التفصيل، ببيانها، و إيضاحها و تمييزها، لَعَلَّكُمْ‏ بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية، و الآيات القرآنية، بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏ فإن كثرة الأدلة و بيانها و وضوحها، من أسباب حصول اليقين، في جميع الأمور الإلهية، خصوصا في العقائد الكبار، كالبعث و النشور و الإخراج من القبور. و أيضا، فقد علم أن اللّه تعالى، حكيم لا يخلق الخلق سدى، و لا يتركهم عبثا، فكما أنه أرسل رسله، و أنزل كتبه، لأمر العباد و نهيهم، فلا بد أن ينقلهم إلى دار، يحل فيها جزاؤه، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء، و يجازي المسيئين بإساءتهم.

[3] وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ‏ أي: خلقها للعباد، و وسعها، و بارك فيها، و مدها للعباد، و أودع فيها من مصالحهم ما أودع، وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ‏ أي: جبالا عظاما، لئلا تميد بالخلق، فإنه لو لا الجبال، لمادت بأهلها، لأنها على تيار ماء، لا ثبوت لها، و لا استقرار، إلا بالجبال الرواسي، التي جعلها اللّه أوتادا لها. وَ جعل فيها أَنْهاراً تسقي الآدميين و بهائمهم و حروثهم، فأخرج بها من الأشجار و الزروع و الثمار، خيرا كثيرا و لهذا قال:

صفحه بعد