کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 490

الشديد، وَ يُسْقى‏ مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ في لونه، و طعمه، و رائحته الخبيثة، و هو في غاية الحرارة.

[17] يَتَجَرَّعُهُ‏ من العطش الشديد وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ‏ فإنه إذا قرب إلى وجهه، شواه، و إذا وصل إلى بطنه، قطع ما أتى عليه من الأمعاء، وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ‏ أي: يأتيه العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب، و كل نوع منه، من شدته يبلغ إلى الموت و لكن اللّه قضى أن لا يموتوا كما قال تعالى: لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها . وَ مِنْ وَرائِهِ‏ أي: الجبار العنيد عَذابٌ غَلِيظٌ أي: قوي شديد، لا يعلم وصفه و شدته، إلا اللّه تعالى.

[18] يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها: إما أن المراد بها، الأعمال التي عملوها للّه، بأنها في ذهابها و بطلانها و اضمحلالها كاضمحلال الرماد، الذي هو أدق الأشياء و أخفها، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فإنه لا يبقى منه شي‏ء، و لا يقدر منه على شي‏ء، يذهب و يضمحل. فكذلك أعمال الكفار لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى‏ شَيْ‏ءٍ و لا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر و التكذيب. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ حيث بطل سعيهم، و اضمحل عملهم. و إما أن المراد بذلك، أعمال الكفار التي عملوها، ليكيدوا بها الحقّ، فإنهم يسعون و يكدحون في ذلك، و مكرهم عائد عليهم، و لن يضروا اللّه و رسله و جنده و ما معهم، من الحقّ شيئا.

[19] ينبه تعالى عباده بأن‏ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ‏ أي: ليعبده الخلق و يعرفوه، و يأمرهم و ينهاهم، و ليستدلوا بهما، و ما فيهما، على ما له من صفات الكمال، و ليعلموا أن الذي خلق السموات و الأرض- على عظمهما و سعتهما- قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا، ليجازيهم بإحسانهم و إساءتهم، و أن قدرته و مشيئته، لا تقصر عن ذلك، و لهذا قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . يحتمل أن المعنى: إن يشأ يذهبكم و يأت بقوم غيركم، يكونون أطوع للّه منكم، و يحتمل أن المراد: إن يشأ يفنيكم، ثمّ يعيدكم بالبعث خلقا جديدا، و يدل على هذا الاحتمال، ما ذكره بعده، من أحوال يوم القيامة.

[20] وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) أي: بممتنع بل هو سهل عليه جدا، ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏ .

[21] وَ بَرَزُوا أي: الخلائق‏ لِلَّهِ جَمِيعاً حين ينفخ في الصور، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم، فيقفون في أرض مستوية، قاع صفصف، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا و يبرزون له، لا يخفى عليه منهم خافية، فإذا برزوا، صاروا يتحاجون، و كل يدفع عن نفسه، و يدافع ما يقدر عليه و لكن أنى لهم ذلك؟ فَقالَ الضُّعَفاءُ أي: التابعون و المقلدون‏ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا و هم: المتبوعون، الّذين هم قادة في الضلال: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي: في الدنيا، أمرتمونا بالضلال، و زينتموه لنا، فأغويتمونا، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ أي: و لو مثقال ذرة، قالُوا أي: المتبوعون و الرؤساء أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا و لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ‏ فلا يغني أحد أحدا، سَواءٌ

تيسير الكريم الرحمن، ص: 491

عَلَيْنا أَ جَزِعْنا من العذاب‏ أَمْ صَبَرْنا عليه، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ‏ أي: لا ملجأ نلجأ إليه، و لا مهرب لنا من عذاب اللّه.

[22] أي: وَ قالَ الشَّيْطانُ‏ الذي هو سبب لكل شر يقع و وقع في العالم، مخاطبا لأهل النار، و متبرئا منهم‏ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ و دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ‏ على ألسنة رسله، فلم تطيعوه، فلو أطعتموه، لأدركتم الفوز العظيم، وَ وَعَدْتُكُمْ‏ الخير فَأَخْلَفْتُكُمْ‏ أي: لم يحصل، و لن يحصل لكم ما منيتكم به، من الأماني الباطلة. وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ‏ أي: من حجة على تأييد قولي، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي‏ أي: هذا نهاية ما عندي، أني دعوتكم إلى مرادي، و زينته لكم، فاستجبتم لي، اتّباعا لأهوائكم و شهواتكم، فإذا كان الحال بهذه الصورة فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ‏ فأنتم السبب، و عليكم المدار في موجب العقاب، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ‏ أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ‏ كل له قسط من العذاب.

إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ‏ أي: تبرأت من جعلكم لي شريكا مع اللّه، فلست شريكا للّه، و لا تجب طاعتي، إِنَّ الظَّالِمِينَ‏ لأنفسهم بطاعة الشيطان‏ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ خالدين فيه أبدا. و هذا من لطف اللّه بعباده، أن حذرهم من طاعة الشيطان و أخبر بمداخله، التي يدخل منها على الإنسان و مقاصده فيه، و أنه يقصد أن يدخله النيران، و هنا بيّن لنا أنه إذا دخل النار هو و جنده، أنه يتبرأ منهم هذه البراءة، و يكفر بشركهم‏ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ . و اعلم أن اللّه ذكر في هذه الآية، أن الشيطان ليس له سلطان، و قال في آية أخرى‏ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ‏ (100)، فالسلطان الذي نفاه عنه، هو سلطان الحجة و الدليل، فليس له حجة أصلا، على ما يدعو إليه، و إنّما نهاية ذلك، أن يقيم لهم من الشبه و التزيينات، ما به يتجرؤون على المعاصي. و أما السلطان، الذي أثبته، فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يؤزّهم إلى المعاصي أزّا، و هم الّذين سلطوه على أنفسهم، بموالاته، و الالتحاق بحزبه، و لهذا ليس له سلطان على الّذين آمنوا و على ربهم يتوكلون.

[23] و لما ذكر عقاب الظالمين، ذكر ثواب الطائعين فقال: وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ أي: الّذين قاموا بالدين، قولا، و عملا، و اعتقادا، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيها من اللذات و الشهوات، ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏ أي: لا بحولهم و قوتهم بل بحول اللّه و قوته‏ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ‏ أي: يحيّي بعضهم بعضا بالسلام، و التحية، و الكلام الطيب.

[24- 25] يقول تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً و هي شهادة أن لا إله إلا اللّه، و فروعها، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ و هي النخلة أَصْلُها ثابِتٌ‏ في الأرض‏ وَ فَرْعُها منتشر فِي السَّماءِ و هي كثيرة النفع دائما. تُؤْتِي أُكُلَها أي ثمرتها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، فكذلك شجرة الإيمان، أصلها ثابت في قلب المؤمن، علما و اعتقادا. و فرعها من الكلم الطيب، و العمل الصالح، و الأخلاق المرضية، و الآداب الحسنة، في السماء دائما، يصعد إلى اللّه منه، من الأعمال و الأقوال، التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن، و ينتفع غيره، وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏ ما أمرهم به و نهاهم عنه، فإن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسوسة. و يتبين المعنى الذي أراده اللّه غاية البيان، و يتضح غاية الوضوح، و هذا من رحمته، و حسن تعليمه. فللّه أتم الحمد و أكمله و أعمه، فهذه صفة كلمة التوحيد و ثباتها، في قلب المؤمن.

[26] ثمّ ذكر ضدها و هي: كلمة الكفر، و فرعها فقال: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ المأكل و المطعم، و هي: شجرة الحنظل و نحوها، اجْتُثَّتْ‏ هذه الشجرة مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ أي: ثبوت فلا عروق تمسكها، و لا ثمرة صالحة، تنتجها، بل إن وجد فيها ثمرة، فهي ثمرة خبيثة، كذلك كلمة الكفر و المعاصي، ليس لها ثبوت نافع في القلب، و لا تثمر إلا كل قول خبيث، و عمل خبيث، يؤذي صاحبه، و لا يصعد إلى اللّه منه عمل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 492

صالح، و لا ينفع نفسه و لا ينتفع به غيره.

[27] يخبر تعالى: أنه يثبت عباده المؤمنين أي: الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح و يثمرها، فيثبتهم اللّه في الحياة الدنيا، عند ورود الشبهات، بالهداية إلى اليقين، و عند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة، على تقديم ما يحبه اللّه على هوى النفس و مرادها. و في الآخرة عند الموت، بالثبات على الدين الإسلامي، و الخاتمة الحسنة، و في القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت «من ربك؟ و ما دينك؟

و من نبيك؟» هداهم للجواب الصحيح، بأن يقول المؤمن:

«اللّه ربي، و الإسلام ديني، و محمد نبيّي». وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ‏ عن الصواب في الدنيا و الآخرة، و ما ظلمهم اللّه و لكنهم ظلموا أنفسهم، و في هذه الآية، دلالة على فتنة القبر، و عذابه، و نعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، في الفتنة و صفتها، و نعيم القبر و عذابه.

[28] يقول تعالى- مبينا حال المكذبين لرسوله، من كفار قريش، و ما آل إليه أمرهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً و نعمة اللّه هي: إرسال محمد صلّى اللّه عليه و سلم، إليهم يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا و الآخرة، فبدلوا هذه النعمة، بردها، و الكفر بها و الصّدّ عنها، بأنفسهم، وَ صدهم غيرهم حتى‏ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ و هي: النار، حيث تسببوا لإضلالهم، فصاروا و بالا على قومهم، من حيث يظن نفعهم، و من ذلك أنهم زينوا لهم الخروج يوم «بدر» ليحاربوا اللّه و رسوله، فجرى عليهم ما جرى، و قتل كثير من كبرائهم و صناديدهم، في تلك الواقعة.

[29] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي: يحيط بهم حرها، من جميع جوانبهم. وَ بِئْسَ الْقَرارُ .

[30] وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي: نظراء و شركاء لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ‏ أي: ليضلوا العباد عن سبيل اللّه، بسبب ما جعلوا للّه من الأنداد، و دعوهم إلى عبادتها، قُلْ‏ لهم متوعدا: تَمَتَّعُوا بكفركم و ضلالكم قليلا، فليس ذلك بنافعكم، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أي: مآلكم و مأواكم فيها، و بئس المصير.

[31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ‏ (31) أي: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا آمرا لهم بما فيه غاية صلاحهم، أن ينتهزوا الفرصة، قبل أن لا يمكنهم ذلك: يُقِيمُوا الصَّلاةَ ظاهرا و باطنا وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ‏ أي: من النعم التي أنعمنا بها عليهم، قليلا أو كثيرا سِرًّا وَ عَلانِيَةً ، و هذا يشمل النفقة الواجبة، كالزكاة، و نفقة من تجب عليه نفقته، و المستحبة، كالصدقات و نحوها. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ‏ أي: لا ينفع فيه شي‏ء، و لا سبيل إلى استدراك ما فات، لا بمعاوضة بيع و شراء، و لا بهبة خليل و صديق، فكل امرئ له شأن يغنيه، فليقدم أعماله، و يحاسب نفسه، قبل الحساب الأكبر.

[32] يخبر تعالى: أنه وحده‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ على اتساعهما و عظمهما، وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و هو: المطر الذي ينزله اللّه من السحاب، فَأَخْرَجَ بِهِ‏ أي: بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ‏ المختلفة الأنواع.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 493

رِزْقاً لَكُمْ‏ و رزقا لأنعامكم. وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ‏ أي: السفن و المراكب، لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ‏ فهو الذي يسّر لكم صنعتها، و أقدركم عليها، و حفظها على تيار الماء، لتحملكم، و تحمل تجاراتكم و أمتعتكم، إلى بلد تقصدونه.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ لتسقي حروثكم و أشجاركم، و تشربوا منها.

[33] وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ‏ لا يفتران، و لا ينيان، يسعيان لمصالحكم، من حساب أزمنتكم و مصالح أبدانكم، و حيواناتكم، و زروعكم، و ثماركم، وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ‏ لتسكنوا فيه‏ وَ النَّهارَ مبصرا، لتبتغوا من فضله.

[34] وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ‏ أي: أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم و حاجتكم، مما تسألونه إياه.

بلسان الحال، أو بلسان المقال، من أنعام، و آلات، و صناعات و غير ذلك. وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها فضلا عن قيامكم بشكرها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي: هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرى‏ء على المعاصي، مقصر في حقوق ربه، كفّار لنعم اللّه، لا يشكرها و لا يعترف بها، إلا من هداه اللّه، فشكر نعمه، و عرف حق ربه، و قام به. ففي هذه الآيات، من أصناف نعم اللّه على العباد، شي‏ء عظيم، مجمل، و مفصل، يدعو اللّه به العباد إلى القيام بشكره و ذكره، و يحثهم على ذلك، و يرغبهم في سؤاله و دعائه، آناء الليل و النهار، كما أن نعمته، تتكرر عليهم، في جميع الأوقات.

[35] أي: وَ اذكر إبراهيم، عليه الصلاة و السّلام، في هذه الحالة الجميلة، إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي: الحرم‏ آمِناً ، فاستجاب اللّه دعاءه شرعا و قدرا، فحرمه اللّه في الشرع، و يسّر من أسباب حرمته، قدرا، ما هو معلوم، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء، إلا قصمه اللّه كما فعل بأصحاب الفيل و غيرهم. و لما دعا له بالأمن، دعا له و لبنيه بالإيمان فقال: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ‏ ، أي: اجعلني و إياهم، جانبا بعيدا عن عبادتها، و الإلمام بها، ثمّ ذكر الموجب لخوفه عليه و على بنيه، بكثرة من افتتن و ابتلي بعبادتها، فقال:

[36] رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ‏ أي: ضلوا بسببها، فَمَنْ تَبِعَنِي‏ على ما جئت به من التوحيد و الإخلاص للّه رب العالمين‏ فَإِنَّهُ مِنِّي‏ لتمام الموافقة و من أحب قوما و اتبعهم، التحق بهم. وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ و هذا من شفقة الخليل، عليه الصلاة و السّلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة و الرحمة من اللّه، و اللّه تبارك و تعالى، أرحم منه بعباده، لا يعذب إلا من تمرد عليه.

[37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏ و ذلك أنه أتى ب «هاجر» أم إسماعيل و بابنها إسماعيل، عليه الصلاة و السّلام، و هو في الرضاع، من الشام، حتى وضعهما في مكة، و هي- إذ ذاك- ليس فيها سكن، و لا داع، و لا مجيب، فلما وضعهما، دعا ربه بهذا الدعاء، فقال- متضرعا متوكلا على ربه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي‏ أي: لا كل ذريتي، لأن إسحق في الشام، و باقي بنيه كذلك، و إنّما أسكن في مكة، إسماعيل و ذريته، و قوله: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ‏ أي: لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي: اجعلهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 494

موحدين مقيمين الصلاة، لأن إقامة الصلاة من أخص و أفضل العبادات الدينية، فمن أقامها، كان مقيما لدينه، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ‏ أي: تحبهم، و تحب الموضع الذي هم ساكنون فيه. فأجاب اللّه دعاءه، فأخرج من ذرية إسماعيل، محمدا صلّى اللّه عليه و سلم، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي، و إلى ملة أبيهم إبراهيم، فاستجابوا له و صاروا مقيمي الصلاة. و افترض اللّه حج هذا البيت، الذي أسكن به ذرية إبراهيم، و جعل فيه سرا عجيبا، جاذبا للقلوب، فهي تحجه، و لا تقضي منه و طرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه، ازداد شوقه، و عظم ولعه و توقه، و هذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة. وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏ فأجاب اللّه دعاءه، فصار يجبى إليه، ثمرات كل شي‏ء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت، و الثمار فيها متوفرة، و الأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.

[38] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ‏ أي: أنت أعلم بنا منا، فنسألك من تدبيرك و تربيتك لنا، أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها، و التي لا نعلمها، ما هو مقتضى علمك و رحمتك، وَ ما يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ و من ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير، و كثرة الشكر للّه رب العالمين.

[39] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ‏ فذلك من أكبر النعم، و كونه على الكبر، في حال الإياس من الأولاد، نعمة أخرى، و كونهم أنبياء صالحين، أجلّ و أفضل، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي: لقريب الإجابة، ممن دعاه، و قد دعوته، و لم يخيب رجائي.

[40- 41] ثمّ دعا لنفسه و لذريته. فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ‏ (41)، فاستجاب اللّه له في ذلك كله، إلا أن دعاءه لأبيه، إنّما كان من موعدة وعده إياه، فلما تبين له أنه عدو للّه، تبرأ منه.

[42] ثمّ قال تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى‏ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ . هذا وعيد شديد للظالمين، و تسلية للمظلومين. يقول تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ‏ حيث أمهلهم و أدرّ عليهم الأرزاق، و تركهم يتقلبون في البلاد، آمنين مطمئنين، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم، فإن اللّه يملي للظالم و يمهله، ليزداد إثما، حتى إذا أخذه، لم يفلته‏ وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)، و الظلم- هاهنا- يشمل الظلم فيما بين العبد و ربه، و ظلمه لعباد اللّه، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي: لا تطرف من شدة ما ترى، من الأهوال و ما أزعجها من القلاقل.

[43] مُهْطِعِينَ‏ أي: مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي اللّه للحساب، لا امتناع لهم و لا محيص، و لا ملجأ، مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ‏ أي: رافعيها قد غلّت أيديهم إلى الأذقان، فارتفعت لذلك، رؤوسهم، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي: أفئدتهم فارغة من قلوبهم، قد صعدت إلى الحناجر، لكنها مملوءة من كل هم و غم، و حزن و قلق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 495

[44- 45] يقول تعالى لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلم: وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ‏ أي: صف لهم تلك الحال، و حذّرهم من الأعمال الموجبة للعذاب، الذي حين يأتي في شدائده و قلاقله، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و التكذيب، و أنواع المعاصي، نادمين على ما فعلوا، سائلين للرجعة في غير وقتها، رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ‏ أي: ردّنا إلى الدنيا، فإنا قد أبصرنا، نُجِبْ دَعْوَتَكَ‏ و اللّه يدعو إلى دار السّلام‏ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ‏ و هذا كله، لأمل التخلص من العذاب الأليم، و إلا فهم كذبة في هذا الوعد وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ‏ . و لهذا يوبخون و يقال لهم: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ‏ عن الدنيا، و انتقال إلى الآخرة، فها قد تبين لكم حنثكم في إقسامكم و كذبتم فيما تدعون. وَ ليس عملكم قاصرا في الدنيا من أجل الآيات البينات، بل‏ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ‏ من أنواع العقوبات؟

و كيف أحلّ اللّه بهم العقوبات، حين كذبوا بالآيات البينات، و ضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته، فلم تنفع فيكم تلك الآيات، بل أعرضتم، و دمتم على باطلكم، حتى صار ما صار: و وصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار من اعتذار بباطل.

[46] وَ قَدْ مَكَرُوا أي: المكذبون للرسل‏ مَكْرَهُمْ‏ الذي وصلت إليه إرادتهم، و قدروا عليه، وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ‏ أي: هو محيط به علما و قدرة، و قد عاد مكرهم عليهم‏ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏ . وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ‏ أي: و لقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق، و بمن جاء به- من عظمه- لتزول الجبال الراسيات بسببه، عن أماكنها، أي: وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) لا يقدر قدره و لكن اللّه رد كيدهم في نحورهم. و يدخل في هذا، كل من مكر من المخالفين للرسل، لينصر باطلا، أو يبطل حقا، و القصد أن مكرهم، لم يغن عنهم شيئا، و لم يضروا اللّه شيئا، و إنّما ضروا أنفسهم.

[47] يقول تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ‏ بنجاتهم، و نجاة أتباعهم و سعادتهم، و إهلاك أعدائهم و خذلانهم في الدنيا، و عقابهم في الآخرة، فهذا لا بد من وقوعه، لأنه وعد به الصادق قولا، على ألسنة أصدق خلقه، و هم: الرسل، و هذا أعلى ما يكون من الأخبار، خصوصا، و هو مطابق للحكمة الإلهية، و السنن الربانية، و للعقول الصحيحة، و إِنَّ اللَّهَ‏ لا يعجزه شي‏ء، فإنه‏ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ‏ .

[48] أي: إذا أراد أن ينتقم من أحد، فإنه لا يفوته و لا يعجزه، و ذلك في يوم القيامة، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ‏ تبدل غير السموات، و هذا التبديل، تبديل صفات، لا تبديل ذات، فإن الأرض يوم القيامة تسوى و تمد كمد الأديم، و يلقى ما على ظهرها من جبل و معلم، فتصير قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، و تكون السماء، كالمهل، من شدة أهوال ذلك اليوم، ثمّ يطويها اللّه تعالى بيمينه. وَ بَرَزُوا أي: الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم، و نشورهم في محل لا يخفى منهم على اللّه شي‏ء، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي: المتفرد بعظمته‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 496

و أسمائه و صفاته، و أفعاله العظيمة، و قهره لكل العوالم فكلها تحت تصرفه و تدبيره، فلا يتحرك منها متحرك، و لا يسكن ساكن إلا بإذنه.

[49] وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ‏ أي: الّذين وصفهم الإجرام، و كثرة الذنوب، يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم‏ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي: يسلسل كل أهل عمل من المجرمين، بسلاسل من نار، فيقادون إلى العذاب، في أذل صورة و أشنعها، و أبشعها.

[50- 51] سَرابِيلُهُمْ‏ أي: ثيابهم‏ مِنْ قَطِرانٍ‏ و ذلك لشدة اشتعال النار فيهم و حرارتها، و نتن ريحها، وَ تَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ‏ التي هي أشرف ما في أبدانهم‏ النَّارُ أي: تحيط بها، و تصلاها من كل جانب، و غير الوجوه من باب أولى و أحرى، و ليس هذا ظلما من اللّه، و إنّما هو جزاء لما قدموا و كسبوا، و لهذا قال تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ‏ من خير و شر، بالعدل و القسط، الذي لا جور فيه بوجه من الوجوه. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ‏ كقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ‏ (1)، و يحتمل أن معناه: سريع المحاسبة، فيحاسب الخلق في ساعة واحدة كما يرزقهم و يدبرهم بأنواع التدابير، في لحظة واحدة، لا يشغله شأن عن شأن، و ليس ذلك بعسير عليه سبحانه.

[52] فلما بين البيان المبين في هذا القرآن، قال في مدحه: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ‏ أي: يتبلغون به، و يتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات و أفضل الكرامات، لما اشتمل عليه من الأصول و الفروع، و جميع العلوم التي يحتاجها العباد. وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ‏ لما فيه من الترهيب من أعمال الشر، و ما أعد اللّه لأهلها من العقاب، وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ حيث صرف فيه من الأدلة و البراهين، على ألوهيته و وحدانيته، ما صار ذلك حق اليقين. وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ‏ أي: العقول الكاملة، ما ينفعهم، فيفعلونه و ما يضرهم، فيتركونه، و بذلك صاروا أولي الألباب و البصائر. إذ بالقرآن، ازدادت معارفهم و آراؤهم، و تنورت أفكارهم، لما أخذوه غضا طريا، فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق و الأعمال و أفضلها، و لا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة و أبينها. و هذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي، لم يزل في صعود و رقي على الدوام في كل خصلة حميدة. و الحمد للّه رب العالمين.

تفسير سورة الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يقول تعالى- معظما لكتابه، مادحا له: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ‏ أي: الآيات الدالة على أحسن المعاني، و أفضل المطالب، وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ‏ للحقائق، بأحسن لفظ و أوضحه، و أدله على المقصود، و هذا مما يوجب على الخلق، الانقياد إليه، و التسليم لحكمه و تلقيه بالقبول، و الفرح و السرور.

[2] فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها، و الكفر بها، فإنه من المكذبين الضالين، الّذين سيأتي عليهم وقت، يتمنون أنهم مسلمون، أي: منقادون لأحكامه، و ذلك حين ينكشف الغطاء، و تظهر أوائل الآخرة، و مقدمات الموت. فإنهم في أحوال الآخرة كلها، يتمنون أنهم مسلمون، و قد فات وقت الإمكان، و لكنهم في هذه الدنيا مغترون.

صفحه بعد