کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 682

مصلحته، أن يكونوا فيه جميعا، كالجهاد، و المشاورة، و نحو ذلك من الأمور التي يشترك فيها المؤمنون، فإن المصلحة، تقتضي اجتماعهم عليه، و عدم تفرقهم. فالمؤمن باللّه و رسوله حقا، لا يذهب لأمر من الأمور، و لا يرجع لأهله، و لا يذهب لبعض الحوائج، التي يشذ بها عنهم، إلا بإذن من الرسول، أو نائبه من بعده. فجعل موجب الإيمان، عدم الذهاب إلا بإذن، و مدحهم على فعلهم هذا، و أدبهم مع رسوله، و ولي الأمر منهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ ، و لكن هل يأذن لهم أم لا؟ ذكر لإذنه شرطين: أحدهما: أن يكون لشأن من شؤونهم، و شغل من أشغالهم، فأما من يستأذن من غير عذر، فلا يؤذن له. و الثاني: أن يشاء الإذن فتقتضيه المصلحة، من دون مضرة بالإذن فلذلك قال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ‏ ، فإذا كان له عذر و استأذن، فإن كان في قعوده و عدم ذهابه، مصلحة برأيه، أو شجاعته، و نحو ذلك، لم يأذن له. و مع هذا إذا استأذن، و أذن له بشرطيه، أمر اللّه رسوله، أن يستغفر له، لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان و لهذا قال: وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ يغفر لهم الذنوب، و يرحمهم، بأن جوز لهم الاستئذان مع العذر.

[63] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا، حتى إنه تجب إجابة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، في حال الصلاة، و ليس أحد إذا قال قولا، يجب على الأمة قبول قوله، و العمل به، إلا الرسول، لعصمته، و كوننا مخاطبين باتباعه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ‏ ، و كذلك لا تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا، فلا تقولوا: «يا محمد» عند ندائكم، أو «يا محمد بن عبد اللّه» كما يقول ذلك بعضكم لبعض، بل من شرفه و فضله و تميزه صلّى اللّه عليه و سلّم عن غيره، أن يقال: يا رسول اللّه، يا نبي اللّه.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً لما مدح المؤمنين بالله و رسوله، الّذين إذا كانوا معه على أمر جامع، لم يذهبوا حتى يستأذنوه، توعد من لم يفعل ذلك، و ذهب من غير استئذان. فهو و إن خفي عليكم بذهابه على وجه خفي و هو المراد بقوله‏ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي: يلوذون وقت تسللهم و انطلاقهم، بشي‏ء يحجبهم عن العيون، فاللّه يعلمهم و سيجازيهم على ذلك، أتم الجزاء، و لهذا توعدهم بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏ أي:

يذهبون إلى بعض شؤونهم عن أمر اللّه و رسوله، فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شؤونه؟ و إنّما ترك أمر اللّه، من دون شغل له. أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي: شرك و شر أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ .

[64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ملكا و عبيدا، يتصرف فيهم بحكمه القدري، و حكمه الشرعي.

قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏ أي: قد أحاط علمه، بما أنتم عليه، من خير، و شر، و علم جميع أعمالكم، أحصاها علمه، و جرى بها قلمه، و كتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون. وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏ أي: يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بجميع أعمالهم، دقيقها، و جليلها، إخبارا مطابقا، لما وقع منهم و يستشهد عليهم، أعضاءهم، فلا يعدمون منه فضلا، أو عدلا. و لما قيد علمه بأعمالهم، ذكر العموم بعد الخصوص، فقال: وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ . تم تفسير سورة النور و للّه الحمد و الشكر.

تفسير سورة الفرقان‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا بيان لعظمته الكاملة، و تفرده بالوحدانية من كل وجه، و كثرة خيراته و إحسانه، فقال: تَبارَكَ‏ أي:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 683

تعاظم، و كملت أوصافه، و كثرت خيراته، الَّذِي‏ من أعظم خيراته و نعمه، أن‏ نَزَّلَ الْفُرْقانَ‏ الفارق بين الحلال و الحرام، و الهدى و الضلال، و أهل السعادة من أهل الشقاوة. عَلى‏ عَبْدِهِ‏ محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الذي كمل مراتب العبودية، و فاق جميع المرسلين. لِيَكُونَ‏ ذلك الإنزال للفرقان على عبده‏ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ، ينذرهم بأس اللّه و نقمه، و يبين لهم، مواقع رضا اللّه من سخطه، حتى إن من قبل نذارته، و عمل بها، كان من الناجين في الدنيا و الآخرة، الّذين حصلت لهم السعادة الأبدية، و الملك السرمدي. فهل فوق هذه النعمة، و هذا الفضل و الإحسان، شي‏ء؟ فتبارك الذي هذا بعض إحسانه و بركاته.

[2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: له التصرف فيهما وحده، و جميع من فيهما، مماليك و عبيد له، مذعنون لعظمته، خاضعون لربوبيته، فقراء إلى رحمته، الذي‏ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏ . و كيف يكون له ولد، أو شريك، و هو المالك، و غيره مملوك، و هو القاهر، و غيره مقهور، و هو الغني بذاته، من جميع الوجوه، و المخلوقون، مفتقرون إليه، فقراء من جميع الوجوه؟ و كيف يكون له شريك في الملك، و نواصي العباد كلهم بيديه، فلا يتحركون أو يسكنون، و لا يتصرفون، إلا بإذنه، فتعالى اللّه عن ذلك، علوا كبيرا، فلم يقدره حق قدره، من قال فيه ذلك، و لهذا قال: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ شمل العالم العلوي، و العالم السفلي، من حيواناته، و نباتاته، و جماداته. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي: أعطى كل مخلوق منها، ما يليق به، و يناسبه من الخلق، و ما تقتضيه حكمته، من ذلك، بحيث صار كل مخلوق، لا يتصور العقل الصحيح، أن يكون بخلاف شكله، و صورته المشاهدة، بل كل جزء و عضو من المخلوق الواحد، لا يناسبه غير محله، الذي هو فيه. قال تعالى:

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ (3)، و قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ .

[3] و لما بين كماله و عظمته، و كثرة إحسانه، كان ذلك مقتضيا لأن يكون وحده، المحبوب المألوه، المعظم، المفرد بالإخلاص وحده، لا شريك له- ناسب أن يذكر بطلان عبادة ما سواه فقال: وَ اتَّخَذُوا إلى قوله: وَ لا نُشُوراً . أي: من أعجب العجائب، و أول الدليل على سفههم، و نقص عقولهم، بل أدل على ظلمهم، و جراءتهم على ربهم، أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة و بلغ من عجزها، أنها لا تقدر على خلق شي‏ء، بل هم مخلوقون، بل بعضهم مما عملته أيديهم. وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً أي: لا قليلا و لا كثيرا، لأنه نكرة في سياق النفي فتعم.

وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً أي: بعثا بعد الموت، فأعظم أحكام العقل، بطلان إلهيتها، و فسادها، و فساد عقل من اتخذها آلهة، و شركاء للخالق لسائر المخلوقات، من غير مشاركة له، في ذلك الذي بيده النفع و الضر، و العطاء و المنع، الذي يحيي و يميت، و يبعث من في القبور، و يجمعهم يوم النشور، و قد جعل لهم دارين، دار الشقاء، و الخزي، و النكال، لمن اتخذ معه آلهة أخرى، و دار الفوز و السعادة، و النعيم المقيم، لمن اتخذه وحده، معبودا.

[4] و لما قرر بالدليل القاطع الواضح، صحة التوحيد و بطلان ضده، قرر صحة الرسالة، و بطلان قول من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 684

عارضها و اعترضها فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى‏ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً . أي: و قال الكافرون باللّه، الذي أوجب لهم كفرهم، أن قالوا في القرآن و الرسول: إن هذا القرآن كذب، كذبه محمد، و إفك، افتراه على اللّه، و أعانه على ذلك قوم آخرون. فرد اللّه عليهم ذلك، بأن هذا مكابرة منهم، و إقدام على الظلم و الزور، الذي لا يمكن، أن يدخل عقل أحد، و هم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و كمال صدقه، و أمانته، و بره التام، و أنه لا يمكنه، لا هو، و لا سائر الخلق، أن يأتوا بهذا القرآن، الذي هو أجل الكلام و أعلاه، و أنه لم يجتمع بأحد يعينه، على ذلك، فقد جاؤوا بهذا القول ظلما و زورا.

[5] وَ من جملة أقاويلهم فيه، أن‏ قالُوا : هذا الذي جاء به محمد أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي: هذا قصص الأولين و أساطيرهم، التي تتلقاها الأفواه، و ينقلها كل أحد، استنسخها محمد فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا و هذا القول منهم، فيه عدة عظائم: منها: رميهم الرسول، الذي هو أبر الناس و أصدقهم، بالكذب، و الجرأة العظيمة. و منها: إخبارهم عن هذا القرآن، الذي هو أصدق الكلام و أعظمه، و أجله، بأنه كذب و افتراء. و منها: أن في ضمن ذلك، أنهم قادرون أن يأتوا بمثله، و أن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه، للخالق الكامل من كل وجه، بصفة من صفاته، و هي الكلام. و منها: أن الرسول، قد علمت حاله، و هم أشد الناس علما بها، أنه لا يكتب، و لا يجتمع بمن يكتب له، و هم قد زعموا ذلك.

[6] فلذلك رد عليهم ذلك بقوله: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: أنزله من أحاط علمه بما في السموات، و ما في الأرض، من الغيب و الشهادة، و الجهر و السر، لقوله: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏ (194). و وجه إقامة الحجة عليهم، أن الذي أنزله، هو المحيط علمه بكل شي‏ء فيستحيل و يمتنع، أن يقول مخلوق، و يتقول عليه، هذا القرآن، و يقول: هو من عند اللّه، و ما هو من عنده، و يستحل دماء من خالفه، و أموالهم، و يزعم أن اللّه قال له ذلك. و اللّه يعلم كل شي‏ء، و مع ذلك فهو يؤيده و ينصره على أعدائه، و يمكنه من رقابهم و بلادهم، فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن، إلا بعد إنكار علم اللّه. و هذا لا تقول به طائفة من بني آدم، سوى الفلاسفة الدهرية. و أيضا، فإن ذكر علمه تعالى العام، ينبههم، و يحضهم على تدبر القرآن، و أنهم لو تدبروا، لرأوا فيه، من علمه و أحكامه، ما يدل دلالة قاطعة، على أنه لا يكون إلا من عالم الغيب و الشهادة. و مع إنكارهم للتوحيد و الرسالة من لطف اللّه بهم، أنه لم يدعهم و ظلمهم، بل دعاهم إلى التوبة و الإنابة إليه، و وعدهم بالمغفرة و الرحمة، إن هم تابوا، و رجعوا فقال: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً أي: وصفه المغفرة، لأهل الجرائم و الذنوب، إذا فعلوا أسباب المغفرة، و هي: الرجوع عن معاصيه، و التوبة منها. رَحِيماً بهم، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، و قد فعلوا مقتضاها، و حيث قبل توبتهم بعد المعاصي، و حيث محا، ما سلف من سيئاتهم، و حيث قبل حسناتهم، و حيث أعاد الراجع إليه بعد شروده، و المقبل عليه بعد إعراضه، إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 685

[7] هذا من مقالة المكذبين للرسول، الذين قدحوا في رسالته، و هو: أنهم اعترضوا بأنه، هلا كان ملكا أو ملكا، أو يساعده ملك، ف: قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ‏ أي: ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما منهم و استهزاء.

يَأْكُلُ الطَّعامَ‏ و هذا من خصائص البشر، فهلا كان ملكا، لا يأكل الطعام، و لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر.

وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ‏ للبيع و الشراء، و هذا- بزعمهم- لا يليق بمن يكون رسولا، مع أن اللّه قال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ‏ . لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ‏ أي: هلا أنزل معه ملك يساعده و يعاونه. فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً و بزعمهم أنه غير كاف للرسالة، و لا بطوقه و قدرته القيام بها.

[8] أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: مال مجموع من غير تعب. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها فيستغني بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب الرزق. وَ قالَ الظَّالِمُونَ‏ حملهم على القول، ظلمهم لا اشتباه منهم. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً هذا، و قد علموا كمال عقله، و حسن حديثه، و سلامته من جميع المطاعن.

[9] و لما كانت هذه الأقوال منهم، عجيبة جدا، قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ‏ و هي: هل كان ملكا، و زالت عنه خصائص البشر؟ أو معه ملك، لأنه غير قادر على ما قال، أو أنزل عليه كنز، أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق، أو أنه كان مسحورا. فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا قالوا: أقوالا متناقضة، كلها جهل، و ضلال، و سفه، ليس في شي‏ء منها هداية، بل و لا في شي‏ء منها أدنى شبهة، تقدح في الرسالة. فبمجرد النظر إليها و تصورها، يجزم العاقل ببطلانها، و يكفيه عن ردها. و لهذا أمر تعالى بالنظر إليها، و تدبرها، و النظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة و الصدق؟ و لهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيه خيرا كثيرا في الدنيا فقال:

[10] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ‏ أي: خيرا مما قالوا، ثمّ فسره بقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مرتفعة مزخرفة، فقدرته و مشيئته، لا تقصر عن ذلك، و لكنه تعالى- لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد و الحقارة- أعطى منها أولياءه و رسله، ما اقتضته حكمته منها. و اقتراح أعدائهم بأنهم، هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا، ظلم و جراءة.

[11] و لما كانت تلك الأقوال، التي قالوها، معلومة الفساد، و أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحقّ، و لا لاتباع البرهان، و إنّما صدرت منهم تعنتا و ظلما، و تكذيبا بالحق، قالوا ما في قلوبهم من ذلك، و لهذا قال: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ، و المكذب المتعنت، الذي ليس له قصد في اتباع الحقّ، لا سبيل إلى هدايته، و لا حيلة في مجادلته و إنّما له حيلة واحدة، و هي نزول العذاب به، فلهذا قال: وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي: نارا عظيمة، قد اشتد سعيرها، و تغيظت على أهلها، و اشتد زفيرها.

[12] إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: قبل وصولهم، و وصولها إليهم‏ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً عليهم‏ وَ زَفِيراً تقلق منهم الأفئدة، و تتصدع القلوب، و يكاد الواحد منهم، يموت خوفا منها، و ذعرا، قد غضبت عليهم، لغضب خالقها، و قد زاد لهبها، لزيادة كفرهم و شرهم.

[13] وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ‏ أي: وقت عذابهم، و هم في وسطها، جمع في مكان بين ضيق المكان، و تزاحم السكان و تقرينهم بالسلاسل و الأغلال. فإذا وصلوا لذلك المكان النحس، و حبسوا في أشر حبس‏ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً دعوا على أنفسهم بالثبور، و الخزي و الفضيحة، و علموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق، حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، و ليس ذلك الدعاء و الاستغاثة بنافعة لهم، و لا مغنية من عذاب اللّه.

[14] بل يقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه، ما أفادكم إلا الهم، و الغم، و الحزن.

[15] لما بين جزاء الظالمين، ناسب أن بذكر جزاء المتقين فقال: قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ إلى‏ وَعْداً مَسْؤُلًا . أي:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 686

قل لهم- مبينا لسفاهة رأيهم، و اختيارهم الضار على النافع- أَ ذلِكَ‏ الذي وضعت لكم من العذاب‏ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ‏ التي زادها تقوى اللّه، فمن قام بالتقوى، فاللّه قد وعده إياها. كانَتْ لَهُمْ جَزاءً على تقواهم‏ وَ مَصِيراً موئلا يرجعون إليها، و يستقرون فيها، و يخلدون دائما أبدا.

[16] لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ‏ أي: ما يطلبون و تتعلق بهم أمانيهم و مشيئتهم، من المطاعم، و المشارب اللذيذة، و الملابس الفاخرة، و النساء الجميلات، و القصور العاليات، و الجنات، و الحدائق المرجحنة و الفواكه، التي تسر ناظريها و آكليها، من حسنها، و تنوعها، و كثرة أصنافها، و الأنهار التي تجري في رياض الجنة، و بساتينها، حيث شاؤوا يصرفونها، و يفجرونها أنهارا من ماء غير آسن، و أنهارا من لبن لم يتغير طعمه، و أنهارا من خمر لذة للشاربين و أنهارا من عسل مصفى، و روائح طيبة، و مساكن، مزخرفة، و أصوات شجية، تأخذ من حسنها، بالقلوب، و مزاورة الإخوان، و التمتع بلقاء الأحباب. و أعلى من ذلك كله، التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم، و سماع كلامه، و الحظوة بقربه، و السعادة برضاه، و الأمن من سخطه، و استمرار هذا النعيم و دوامه، و زيادته على ممر الأوقات، و تعاقب الآنات‏ كانَ‏ دخولها و الوصول إليها عَلى‏ رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا يسأله إياها، عباده المتقون بلسان حالهم، و لسان مقالهم، فأي الدارين المذكورتين، خير و أولى بالإيثار؟ و أي العاملين، عمال دار الشقاء، أو عمال دار السعادة، أولى بالفضل و العقل، و الفخر، يا أولي الألباب؟ لقد وضح الحقّ، و استنار السبيل، فلم يبق للمفرط عذر، في تركه الدليل، فنرجوك يا من قضيت على أقوام بالشقاء، و أقوام بالسعادة، أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى و زيادة.

و نستعيذ بك اللهم، من حالة الأشقياء، و نسألك المعافاة منها.

[17] يخبر تعالى عن حالة المشركين و شركائهم يوم القيامة، و تبرّيهم منهم، و بطلان سعيهم فقال: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ‏ أي: المكذبين المشركين‏ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ‏ اللّه مخاطبا للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ‏ هل أمرتموهم بعبادتكم، و زينتم لهم ذلك، أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟

[18] قالُوا سُبْحانَكَ‏ نزهوا اللّه عن شرك المشركين به، و برؤوا أنفسهم من ذلك. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أي: لا يليق بنا، و لا يحسن منا، أن نتخذ من دونك من أولياء، نتولاهم، و نعبدهم، و ندعوهم، فإذا كنا محتاجين و مفتقرين إلى عبادتك، و متبرّين من عبادة غيرك، فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا لا يكون. أو، سبحانك‏ أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ و هذا كقول المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ‏ الآية. و قال تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏ (41)، وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ‏ (6). فلما نزهوا أنفسهم، أن يدعوا لعبادة غير اللّه، أو يكونوا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 687

أضلوهم، ذكروا السبب الموجب لإضلال المشركين فقالوا:

وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ‏ في لذات الدنيا و شهواتها، و مطالبها النفسية. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ اشتغالا في لذات الدنيا، و انكبابا على شهواتها، فحافظوا على دنياهم، و ضيعوا دينهم‏ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً أي: بائرين لا خير فيهم، و لا يصلحون لصالح، لا يصلحون إلا للهلاك و البوار، فذكروا المانع من اتباعهم الهدى، و هو التمتع في الدنيا، الذي صرفهم عن الهدى. و عدم المقتضى للهدى، و هو:

أنهم لا خير فيهم، فإذا عدموا المقتضى، و وجد المانع، فلا نشاء من شر و هلاك، إلا وجدته فيهم.

[19] فلما تبرؤوا منهم، قال اللّه توبيخا و تقريعا للمعاندين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ‏ إنهم أمروكم بعبادتهم، و رضوا فعلكم و أنهم شفعاء لكم عند ربكم، كذبوكم في ذلك الزعم، و صاروا من أكبر أعدائكم، فحق عليكم العذاب. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً للعذاب عنكم بفعلكم، أو بفداء، أو غير ذلك، وَ لا نَصْراً لعجزكم، و عدم ناصركم. هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين، كما رأيت، أسوأ حكم، و شر مصير. و أما المعاند منهم، الذي عرف الحقّ و صدف عنه، فقال في حقه: وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ‏ بترك الحقّ ظلما و عنادا نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً لا يقادر قدره، و لا يبلغ أمره.

[20] ثمّ قال تعالى جوابا لقول المكذبين: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ‏ «1» فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام، و ما جعلناهم ملائكة، فلك فيهم أسوة. و أما الغنى و الفقر، فهو فتنة، و حكمة من اللّه تعالى، كما قال: وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الرسول فتنة للمرسل إليهم، و اختبار للمطيعين من العاصين، و الرسل فتناهم بدعوة الخلق، و الغني فتنة للفقير، و الفقر فتنة للغني، و هكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار، دار الفتن و الابتلاء و الاختبار. و القصد من تلك الفتنة أَ تَصْبِرُونَ‏ فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة، فيثيبكم مولاكم، أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً يرى و يعلم أحوالكم و يصطفي من يعلمه يصلح لرسالته، و يختصه بتفضيله، و يعلم أعمالكم فيجازيكم عليها، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[21] أي: قال المكذبون للرسول، المكذبون بوعد اللّه و وعيده، الّذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد، و لا رجاء لقاء الخالق. لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا أي: هلا نزلت الملائكة، تشهد لك بالرسالة، و تؤيدك عليها، أو تنزل رسلا مستقلين، أو نرى ربنا، فيكلمنا، و يقول: هذا رسولي فاتبعوه؟ و هذا معارضة للرسول، بما ليس بمعارض، بل بالتكبر و العلو و العتو. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ‏ حيث اقترحوا هذا الاقتراح، و تجرؤوا هذه الجرأة، فمن أنتم يا فقراء، و يا مساكين. حتى تطلبوا رؤية اللّه، و تزعموا أن الرسالة، متوقف ثبوتها على ذلك؟ و أي كبر أعظم من هذا؟ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي: قسوا و صلبوا عن الحقّ، قساوة عظيمة، فقلوبهم أشد من الأحجار،

(1) في الأصل: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ‏ أي الآية [8] من سورة الفرقان و هذا خطأ، و المثبت- من القرآن- هو الموافق للآية [20]، فتأمل.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 688

و أصلب من الحديد، لا تلين للحق، و لا تصغي للناصحين، فلذلك لم ينجح فيهم وعظ و لا تذكير، و لا اتبعوا الحقّ، حين جاءهم النذير، بل قابلوا أصدق الخلق و أنصحهم، و آيات اللّه البينات، بالإعراض و التكذيب، فأي عتو أكبر من هذا العتو؟ و لذلك، بطلت أعمالهم، و اضمحلت، و خسروا أشد الخسران.

[22] يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ‏ و ذلك أنهم لا يرونها، مع استمرارهم، على جرمهم و عنادهم، إلا لعقوبتهم، و حلول البأس بهم. فأول ذلك عند الموت، إذا تنزلت عليهم الملائكة، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏ . ثمّ في القبر، حيث يأتيهم منكر و نكير، فيسألانهم، عن ربهم، و نبيهم، و دينهم، فلا يجيبون جوابا ينجيهم، فيحلون بهم النقمة، و تزول عنهم بهم الرحمة، ثمّ يوم القيامة، حين تسوقهم الملائكة إلى النار، ثمّ يسلمونهم لخزنة جهنم، الّذين يتولون عذابهم، و يباشرون عقابهم. فهذا الذي اقترحوه، و هذا الذي طلبوه، إن استمروا على إجرامهم لا بد أن يروه و يلقوه. و حينئذ يتعوذون من الملائكة، و يفرون، و لكن لا مفر لهم. وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ‏ (33).

[23] وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ‏ أي: أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم، و تعبوا فيها. فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي: باطلا مضمحلا، قد خسروه، و حرموا أجره، و عوقبوا عليه، و ذلك لفقده الإيمان، و صدروه عن مكذب للّه و رسله، فالعمل الذي يقبله اللّه، هو ما صدر من المؤمن المخلص، المصدق للرسل المتبع، لهم فيه.

[24] أي: في ذلك اليوم الهائل، كثير البلابل‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الّذين آمنوا باللّه، و عملوا صالحا، و اتقوا ربهم‏ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا من أهل النار وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا أي: مستقرهم في الجنة، و راحتهم التي هي القيلولة، هو المستقر النافع، و الراحة التامة، لاشتمال ذلك، على تمام النعيم، الذي لا يشوبه كدر. بخلاف أصحاب النار، فإن جهنم مستقرهم‏ ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً و هذا من باب استعمال أفعل التفضيل، فيما ليس في الطرف الآخر منه شي‏ء، لأنه لا خير في مقيل أهل النار و مستقرهم، كقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏ .

[25] يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة، و ما فيه من الشدة و الكروب، و مزعجات القلوب فقال: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ‏ و ذلك الغمام الذي ينزل اللّه فيه، من فوق السموات، فتنفطر له السموات، و تشقق، و تنزل الملائكة كل سماء، فيقفون صفا صفا، إما صفا واحدا محيطا بالخلائق، و إما كل سماء، يكونون صفا، ثمّ السماء التي تليها صفا و هكذا. القصد أن الملائكة- على كثرتهم و قوتهم- ينزلون محيطين بالخلق، مذعنين لأمر ربهم، لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من اللّه، فما ظنك بالآدمي الضعيف، خصوصا، الذي بارز مالكه بالعظائم، و أقدم على مساخطه، ثمّ قدم عليه بذنوب و خطايا، لم يتب منها، فيحكم فيه الملك الخلاق، بالحكم الذي لا يجور، و لا يظلم مثقال ذرة، و لهذا قال: وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً لصعوبته الشديدة، و تعسر أموره عليه، بخلاف المؤمن، فإنه يسير عليه، خفيف الحمل. يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً (86).

صفحه بعد