کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 874

شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ . و قد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله:

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) إلى أن قال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ . و قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ‏ ... إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ ففي هذه الآية، بيان عموم خلقه تعالى، و عموم علمه، و عموم حكمه بين عباده.

فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات، و علمه المحيط بكل شي‏ء، دال على حكمه بين عباده، و بعثهم، و علمه بأعمالهم، خيرها و شرها، و بمقادير جزائها، و خلقه دال على علمه‏ أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏ .

[47- 48] لما ذكر تعالى، أنه الحاكم بين عباده، و ذكر مقالة المشركين و شناعتها، كأن النفوس تشوفت إلى ما يفعل اللّه بهم يوم القيامة، أخبر أن لهم‏ سُوءِ الْعَذابِ‏ أي: أشده و أفظعه، كما قالوا أشد الكفر و أشنعه. و أنهم على- الفرض و التقدير- لو كان لهم ما في الأرض جميعا، من ذهبها، و فضتها، و لؤلؤها، و حيواناتها، و أشجارها، و زروعها، و جميع أوانيها، و أثاثها، و مثله معه، ثم بذلوه يوم القيامة ليفتدوا به من العذاب، و ينجوا منه، ما قبل منهم، و لا أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئا، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏ (89). وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‏ أي: يظنون من السخط العظيم، و المقت الكبير، و قد كانوا يحكمون لأنفسهم بغير ذلك.

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: الأمور التي تسوؤهم، بسبب صنيعهم و كسبهم. وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‏ من الوعيد و العذاب الذي نزل بهم، و ما حل عليهم من العقاب.

[49] يخبر تعالى عن حالة الإنسان و طبيعته، أنه حين يمسه ضر، من مرض، أو شدة، أو كرب. دَعانا ملحا في تفريج ما نزل به‏ ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ‏ أي: أعطيناه‏ نِعْمَةً مِنَّا فكشفنا ضره و أزلنا مشقته، عاد بربه كافرا، و لمعروفه منكرا. و قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ‏ أي: علم من اللّه، أني له أهل، و أني مستحق له، لأني كريم عليه، أو على علم مني، بطرق تحصيله. قال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يبتلي اللّه بها عباده، لينظر من يشكره ممن يكفره. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏ فلذلك يعدون الفتنة منحة. و يشتبه عليهم الخير المحض، بما قد يكون سببا للخير أو للشر.

[50] قال تعالى: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ أي: قولهم‏ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ‏ . فما زالت متوارثة عند المكذبين، لا يقرون بنعمة ربهم، و لا يرون له حقا. فلم يزل دأبهم، حتى أهلكوا، فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ حين جاءهم العذاب.

[51] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و السيئات في هذا الموضع: العقوبات، لأنها تسوء الإنسان و تحزنه. وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا فليسوا خيرا من أولئك و لم يكتب لهم براءة في الزبر.

و لما ذكر أنهم اغتروا بالمال، و زعموا بجهلهم، أنه يدل على حسن حال صاحبه:

[52] أخبرهم تعالى، أن رزقه، لا يدل على ذلك، و أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده، سواء كان صالحا أو طالحا وَ يَقْدِرُ الرزق. أي:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 875

يضيقه، على من يشاء، صالحا أو طالحا، فرزقه مشترك بين البرية. و الإيمان و العمل الصالح يخص به، خير البرية.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ أي: بسط الرزق و قبضه، لعلمهم أن مرجع ذلك، عائد إلى الحكمة و الرحمة، و أنه أعلم بحال عبيده. فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم؛ لأنه لو بسطه لبغوا في الأرض، فيكون تعالى مراعيا في ذلك، صلاح دينهم الذي هو مادة سعادتهم و فلاحهم، و اللّه أعلم.

[53] يخبر تعالى عباده المسرفين «أي: المكثرين من الذنوب» بسعة كرمه و يحثهم على الإنابة، قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: قُلْ‏ يا أيها الرسول و من قام مقامه، من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ‏ باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، و السعي في مساخط علّام الغيوب. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ‏ أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، و تقولوا قد كثرت ذنوبنا، و تراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها، و لا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك، مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، و لكن اعرفوا ربكم، بأسمائه الدالة على كرمه وجوده. و اعلموا إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً من الشرك، و القتل، و الزنا، و الربا، و الظلم، و غير ذلك من الذنوب الكبار و الصغار. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏ أي: وصفه المغفرة و الرحمة، و صفان لازمان، ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، و لم تزل آثارهما، سارية في الوجود، مالئة للموجود. تسح يداه من الخيرات، آناء الليل و النهار، و يوالي النعم و الفواضل على العباد في السر و الجهار، و العطاء أحب إليه من المنع، و الرحمة سبقت الغضب و غلبته. و لكن لمغفرته و رحمته و نيلهما أسباب، إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة و المغفرة، أعظمها و أجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح، و الدعاء، و التضرع، و التأله، و التعبد. فهلم إلى هذا السبب الأجلّ، و الطريق الأعظم.

[54] و لهذا أمر تعالى بالإنابة إليه، و المبادرة إليها فقال: وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ‏ بقلوبكم‏ وَ أَسْلِمُوا لَهُ‏ بجوارحكم. إذا أفردت الإنابة، دخلت فيها أعمال الجوارح، و إذا جمع بينهما، كما في هذا الموضع، كان المعنى ما ذكرنا. و في قوله: إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ‏ دليل على الإخلاص، و أنه من دون إخلاص، لا تفيد الأعمال الظاهرة و الباطنة، شيئا. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ‏ مجيئا لا يدفع‏ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ‏ . فكأنه قيل: ما هي الإنابة و الإسلام؟ و ما جزئياتهما و أعمالهما؟

[55] فأجاب تعالى بقوله: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏ مما أمركم من الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه، و خشيته، و خوفه، و رجائه، و النصح لعباده، و محبة الخير لهم، و ترك ما يضاد ذلك. و من الأعمال الظاهرة، كالصلاة، و الزكاة، و الحج، و الصدقة، و أنواع الإحسان، و نحو ذلك، مما أمر اللّه به، و هو: أحسن ما أنزل إلينا من ربنا. فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور و نحوها، هو المنيب المسلم. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ‏ ، و كل هذا حثّ على المبادرة، و انتهاز الفرصة.

[56] ثم حذرهم «و نصحهم» أَنْ‏ لا يستمروا على‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 876

غفلتهم، حتى يأتيهم يوم يندمون فيه، و لا تنفع الندامة.

«و لئلا» تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏ أي:

في جانب حقه. وَ إِنْ كُنْتُ‏ في الدنيا لَمِنَ السَّاخِرِينَ‏ في إتيان الجزاء، حتى رأيته عيانا.

[57] أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏ (57) و «لو» في هذا الموضع للتمني. أي: ليت أن اللّه هداني، فأكون متقيا له، فأسلم من العقاب، و أستحق الثواب. و ليست «لو» هنا شرطية، لأنها لو كانت شرطية، لكانوا محتجبين بالقضاء و القدر على ضلالهم، و هي حجة باطلة، و يوم القيامة تضمحل كل حجة باطلة.

[58] أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ‏ و تجزم بوروده‏ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏ . قال تعالى: إن ذلك غير ممكن و لا مفيد، و إن هذه أماني باطلة، لا حقيقة لها، إذ لا يتجدد للعبد لو ردّ، بيان بعد البيان الأول.

[59] بَلى‏ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي‏ الدالة على الحق، دلالة لا يمترى فيها. فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ‏ عن اتباعها وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ .

فسؤال الرد إلى الدنيا، نوع عبث، وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ‏ .

[60] يخبر تعالى، عن خزي الذين كذبوا عليه، و أن وجوههم تكون يوم القيامة مسودة كأنها الليل البهيم، يعرفهم بذلك أهل الموقف، فالحق أبلج واضح، كأنه الصبح. فكما سوّدوا وجه الحق بالكذب، سود اللّه وجوههم، جزاء من جنس عملهم. فلهم سواد الوجوه، و لهم العذاب الشديد في جهنم، و لهذا قال: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ‏ عن الحق، و عن عبادة ربهم، المفترين عليه؟ بلى، و اللّه، إن فيها لعقوبة و خزيا و سخطا، يبلغ من المتكبرين كل مبلغ، و يؤخذ الحق منهم بها. و الكذب على اللّه يشمل الكذب عليه، باتخاذ الشريك و الولد و الصاحبة، و الإخبار عنه بما لا يليق بجلاله، أو ادعاء النبوة، أو القول في شرعه بما لم يقله، و الإخبار بأنه قاله و شرعه.

[61] و لما ذكر حالة المتكبرين، ذكر حالة المتقين فقال: وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ‏ أي: بنجاتهم، و ذلك لأن معهم آلة النجاة، و هي تقوى اللّه تعالى، التي هي العدة، عند كل هول و شدة. لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي:

العذاب الذي يسوؤهم‏ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ فنفى عنهم مباشرة العذاب و خوفه، و هذا غاية الأمان. فلهم الأمن التام، يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلام. فحينئذ، يأمنون من كل سوء و مكروه، و تجرى عليهم نضرة النعيم.

و يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ .

[62- 63] يخبر تعالى عن عظمته و كماله، الموجب لخسران من كفر به فقال: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ هذه العبارة و ما أشبهها، مما هو كثير في القرآن، تدل على أن جميع الأشياء- غير اللّه و أسمائه و صفاته- مخلوقة. ففيها رد على كل من قال، بقدم بعض المخلوقات، كالفلاسفة القائلين بقدم الأرض و السموات، و كالقائلين بقدم الأرواح، و نحو ذلك من أقوال أهل الباطل، المتضمنة تعطيل الخالق عن خلقه. و ليس كلام اللّه من الأشياء المخلوقة، لأن الكلام صفة المتكلم. و اللّه، تعالى بأسمائه و صفاته، أول ليس قبله شي‏ء. فأخذ أهل الاعتزال من هذه الآية و نحوها، أن كلام اللّه مخلوق، من أعظم الجهل. فإنه تعالى، لم يزل بأسمائه و صفاته، و لم يحدث صفة من صفاته،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 877

و لم يكن معطلا عنها، بوقت من الأوقات. و الشاهد من هذا، أن اللّه تعالى، أخبر عن نفسه الكريمة، أنه خالق لجميع العالم العلوي و السفلي، و أنه على كل شي‏ء وكيل. و الوكالة التامة، لا بد فيها من علم الوكيل، بما كان وكيلا عليه، و إحاطته بتفاصيله. و من قدرة تامة على ما هو وكيل عليه، ليتمكن من التصرف فيه، و من حفظ لما هو وكيل عليه، و من حكمة، و معرفة، بوجوه التصرفات، ليصرفها و يدبرها، على ما هو الأليق، فلا تتم الوكالة إلا بذلك كله، فما نقص من ذلك، فهو نقص فيها. و من المعلوم المتقرر، أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص، في أي صفة من صفاته. فإخباره بأنه على كل شي‏ء وكيل، يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء، و كمال قدرته على تدبيرها، و كمال تدبيره، و كمال حكمته، التي يضع بها الأشياء مواضعها. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: مفاتيحها، علما و تدبيرا، ف ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ (2). فلما بيّن من عظمته، ما يقتضي أن تمتلى‏ء القلوب له إجلالا و إكراما، ذكر حال من عكس القضية، فلم يقدره حق قدره فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ‏ الدالة على الحق اليقين، و الصراط المستقيم. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ خسروا، ما به تصلح القلوب، من التأله و الإخلاص للّه. و ما به تصلح الألسن، من إشغالها بذكر اللّه، و ما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه. و تعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب و الأبدان، و خسروا جنات النعيم، و تعرضوا عنها، بالعذاب الأليم.

[64] قُلْ‏ يا أيها الرسول، لهؤلاء الجاهلين، الذين دعوك إلى عبادة غير اللّه: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ‏ أي: هذا الأمر صدر من جهلكم، و إلا فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى، الكامل من جميع الوجوه، مسدي جميع النعم، هو المستحق للعبادة، دون من كان ناقصا من كل وجه، لا ينفع، و لا يضر، لم تأمروني بذلك.

[65] و ذلك لأن الشرك باللّه، محبط للأعمال، مفسد للأحوال، و لهذا قال: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ‏ من جميع الأنبياء. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏ ، هذا مفرد مضاف، يعم كل عمل. ففي نبوة جميع الأنبياء، أن الشرك محبط لجميع الأعمال، كما قال تعالى في سورة الأنعام- لما عد كثيرا من أنبيائه و رسله قال عنهم: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ (88). وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ‏ دينك و آخرتك. فبالشرك تحبط الأعمال، و يستحق العقاب و النكال.

[66] ثم قال: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك، و أخبر عن شناعته، أمره بالإخلاص فقال: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: أخلص له العبادة، وحده لا شريك له. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏ اللّه، على توفيق اللّه تعالى. فكما أنه يشكر على النعم الدنيوية، كصحة الجسم و عافيته، و حصول الرزق و غير ذلك. كذلك يشكر و يثنى عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، و التقوى، بل نعم الدين، هي النّعم على الحقيقة. و في تدبر أنها من اللّه تعالى و الشكر للّه عليها، سلامة من آفة العجب، التي تعرض لكثير من العاملين، بسبب جهلهم. و إلا، فلو عرف العبد حقيقة الحال، لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر.

[67] يقول تعالى: و ما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره، و لا عظموه حق تعظيمه، بل فعلوا ما يناقض ذلك، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه و أفعاله. فأوصافه ناقصة من كل وجه، و أفعاله، ليس عنده نفع و لا ضر، و لا عطاء، و لا منع، و لا يملك من الأمر شيئا. فسووا هذا المخلوق الناقص، بالخالق الرب العظيم، الذي- من عظمته الباهرة، و قدرته القاهرة- أن جميع الأرض يوم القيامة، قبضة للرحمن، و أن السموات- على سعتها و عظمتها- مطويات بيمينه. فلم يعظمه حق تعظيمه، من سوّى به غيره، و هل أظلم ممن فعل ذلك؟ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏ أي: تنزه، و تعاظم عن شركهم به.

[68] لما خوفهم تعالى عن عظمته، خوفهم بأحوال يوم القيامة، و رغّبهم و رهّبهم فقال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ و هو قرن عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، و من أطلعه اللّه على علمه من خلقه. فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛

تيسير الكريم الرحمن، ص: 878

أحد الملائكة المقربين، و أحد حملة عرش الرحمن. فَصَعِقَ‏ أي: غشي عليه أو مات، على اختلاف القولين. مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏ أي: كلهم، لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها و عظمها، و ما يعلمون أنها مقدمة له.

إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ‏ ممن ثبّته اللّه عند النفخة، فلم يصعق، كالشهداء أو بعضهم، و غيرهم. و هذه النفخة الأولى، نفخة الصعق، و نفخة الفزع. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ‏ نفخة أُخْرى‏ نفخة البعث‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ‏ أي: قد قاموا من قبورهم، لبعثهم و حسابهم، قد تمت منهم الخلقة الجسدية و الأرواح، و شخصت أبصارهم‏ يَنْظُرُونَ‏ ماذا يفعل اللّه بهم.

[69] وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة و تضمحل، و هو كذلك.

فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور، و القمر يخسف، و النجوم تنتشر، و يكون الناس في ظلمة، فتشرق الأرض عند ذلك بنور ربها، عند ما يتجلّى و ينزل للفصل بينهم. و في ذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة. و ينشئهم نشأة، يقوون على أن لا يحرقهم نوره، و يتمكنون أيضا من رؤيته، و إلا، فنوره تعالى عظيم، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه. وَ وُضِعَ الْكِتابُ‏ أي: كتاب الأعمال و ديوانه، وضع و نشر، ليقرأ ما فيه من الحسنات و السيئات، كما قال تعالى: وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49). و يقال للعامل من تمام العدل و الإنصاف:

اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14). وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ‏ ليسألوا عن التبليغ، و عن أممهم، و يشهدوا عليهم. وَ الشُّهَداءِ من الملائكة، و أعضاء الإنسان و الأرض. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ‏ أي: العدل التام و القسط العظيم؛ لأنه حساب صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة، و من هو محيط بكل شي‏ء. و كتابه الذي هو اللوح المحفوظ، محيط بكل ما عملوه. و الحفظة الكرام، و الذين لا يعصون ربهم، قد كتبت عليهم ما عملوه. و أعدل الشهداء، قد شهدوا على ذلك الحكم. فحكم بذلك من يعلم مقادير الأعمال و مقادير استحقاقها للثواب و العقاب. فيحصل حكم يقر به الخلق، و يعترفون للّه بالحمد و العدل، و يعرفون به من عظمته، و علمه، و حكمته و رحمته، ما لم يخطر بقلوبهم، و لا تعبر عنه ألسنتهم، و لهذا قال:

[70] وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ‏ (70).

[71] لما ذكر تعالى حكمه بين عباده، الذين جمعهم في خلقه، و رزقه، و تدبيره، و اجتماعهم في الدنيا، و اجتماعهم في موقف القيامة، فرقهم تعالى عند جزائهم، كما افترقوا في الدنيا بالإيمان و الكفر، و التقوى و الفجور، فقال: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ‏ أي: سوقا عنيفا، يضربون بالسياط الموجعة، من الزبانية الغلاظ الشداد، إلى شر محبس، و أفظع موضع، و هي: جهنم التي قد جمعت كل عذاب، و حضرها كل شقاء، و زال عنها كل سرور، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى‏ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) أي: يدفعون إليها دفعا، و ذلك لامتناعهم من دخولها. و يساقون إليها زُمَراً أي: فرقا متفرقة، كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها، و تشاكل سعيها،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 879

يلعن بعضهم بعضا، و يبرأ بعضهم من بعض، حَتَّى إِذا جاؤُها أي: و صلوا إلى ساحتها فُتِحَتْ‏ لهم أي:

لأجلهم‏ أَبْوابُها لقدومهم و قرى لنزولهم. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها مهنئين لهم بالشقاء الأبدي، و العذاب السرمدي، و موبخين لهم على الأعمال، التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏ أي: من جنسكم تعرفونهم و تعرفون صدقهم، و تتمكنون من التلقي عنهم؟ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ‏ التي أرسلهم اللّه بها، الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين. وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: و هذا يوجب عليكم اتباعهم و الحذر من عذاب هذا اليوم، باستعمال تقواه، و قد كانت حالكم بخلاف هذه الحال؟ قالُوا مقرين بذنبهم، و أن حجة اللّه قامت عليهم: بَلى‏ قد جاءتنا رسل ربنا، بآياته و بيناته، و بينوا لنا غاية التبيين و حذرونا من هذا اليوم.

وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ‏ أي: بسب كفرهم، و جبت عليهم كلمة العذاب، التي هي لكل من كفر بآيات اللّه، و جحد ما جاء به المرسلون، فاعترفوا بذنبهم و قيام الحجة عليهم.

[72] قِيلَ‏ لهم على وجه الإهانة و الإذلال‏ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ‏ كل طائفة تدخل من الباب الذي يناسبها، و يوافق عملها. خالِدِينَ فِيها أبدا، لا يظعنون عنها، و لا يفتر عنهم العذاب ساعة، و لا ينظرون.

فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏ أي: بئس المقر، النار مقرهم، و ذلك لأنهم تكبروا على الحق، فجازاهم اللّه من جنس عملهم، بالإهانة، و الذال، و الخزي.

[73] ثم قال عن أهل الجنة: وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ‏ بتوحيده، و العمل بطاعته، سوق إكرام و إعزاز، يحشرون وفدا على النجائب. إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة، التي تناسب عملها، و تشاكله. حَتَّى إِذا جاؤُها أي: وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة، و المنازل الأنيقة، و هبّ عليهم ريحها و نسيمها، و آن خلودها و نعيمها. وَ فُتِحَتْ‏ لهم‏ أَبْوابُها فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تهنئة لهم و ترحيبا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏ أي: سلام عليكم من كل آفة و شر حال. طِبْتُمْ‏ أي: طابت قلوبكم بمعرفة اللّه و محبته، و خشيته، و ألسنتكم بذكره، و جوار حكم بطاعته. (ف) بسبب طيبكم ادخلوها خالِدِينَ‏ لأنها الدار الطيبة، و لا يليق بها إلا الطيبون. و قال في النار فُتِحَتْ أَبْوابُها و في الجنة وَ فُتِحَتْ‏ بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها، من غير إنظار و لا إمهال. و ليكون فتحها في وجوههم، و على وصولهم، لحرها، و أشد لعذابها. و أما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها و لا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، و مع ذلك، فيحتاجون لدخولها إلى الشفاعة عند أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها. بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى يشفع، فيشفعه اللّه تعالى.

و في الآيات، دليل على أن النار و الجنة، لهما أبواب، تفتح و تغلق، و أن لكل منهما خزنة. و هما الداران الخالصتان، اللتان لا يدخل فيهما، إلا من استحقهما، بخلاف سائر الأمكنة و الدور.

[74] وَ قالُوا عند دخولهم فيها، و استقرارهم، حامدين ربهم على ما أولاهم، و منّ عليهم، و هداهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ‏ أي: وعدنا الجنة على ألسنة رسله، إن آمنّا و صلحنا، فوفّى لنا بما وعدنا، و أنجز لنا ما منّانا. وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ‏ أي: أرض الجنة نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: ننزل منها أي مكان شئنا، و نتناول منها، أي نعيم أردنا، ليس ممنوعا عنّا شي‏ء نريده. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ‏ الذين اجتهدوا بطاعة ربهم، في زمن قليل منقطع، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا. و هذه الدار، التي تستحق المدح على الحقيقة، التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه. و رضيها الجواد الكريم لهم نزلا، و بنى أعلاها و أحسنها، و غرسها بيده، و حشاها من رحمته و كرامته، ما ببعضه يفرح الحزين، و يزول الكدر، و يتم الصفاء.

[75] وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ أيها الرائي ذلك اليوم العظيم‏ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ‏ أي: قد قاموا في خدمة ربهم، و اجتمعوا حول عرشه، خاضعين لجلاله، معترفين بكماله، مستغرقين بجماله. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 880

أي: ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله، مما نسب إليه المشركون، و ما لم ينسبوا. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ‏ أي: بين الأولين و الآخرين من الخلق‏ بِالْحَقِ‏ الذي لا اشتباه فيه و لا إنكار، ممن عليه الحق. وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ لم يذكر القائل من هو، ليدل ذلك على أن جميع الخلق، نطقوا بحمد ربهم، و حكمته على ما قضى به على أهل الجنة، و أهل النار، حمد فضل و إحسان، و حمد عدل و حكمة.

سورة غافر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يخبر تعالى عن كتابه العظيم، و أنه صادر و منزل من اللّه، المألوه المعبود، لكماله، و انفراده بأفعاله.

[2] الْعَزِيزِ الذي قهر بعزته كل مخلوق‏ الْعَلِيمِ‏ بكل شي‏ء.

[3] غافِرِ الذَّنْبِ‏ للمذنبين‏ وَ قابِلِ التَّوْبِ‏ من التائبين. شَدِيدِ الْعِقابِ‏ على من تجرأ على الذنوب، و لم يتب منها ذِي الطَّوْلِ‏ أي: التفضل و الإحسان الشامل. فلما قرر ما قرر من كماله، و كان ذلك موجبا لأن يكون وحده المألوه، الذي تخلص له الأعمال قال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ . و وجه المناسبة بذكر نزول القرآن من اللّه، الموصوف بهذه الأوصاف، أن هذه الأوصاف، مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن، من المعاني. فإن القرآن: إما إخبار عن أسماء اللّه، و صفاته، و أفعاله؛ و هذه أسماء، و أوصاف، و أفعال. و إما إخبار عن نعمه العظيمة، و آلائه الجسيمة، و ما يوصل إلى ذلك من الأوامر. فذلك يدل عليه قوله: ذِي الطَّوْلِ‏ . و إما إخبار عن نقمه الشديدة، و عمّا يوجبها و يقتضيها من المعاصي، فذلك يدل عليه‏ شَدِيدِ الْعِقابِ‏ . و إما دعوة للمذنبين إلى التوبة و الإنابة، و الاستغفار فذلك يدل عليه قوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ‏ . و إما إخبار بأنه وحده، المألوه المعبود، و إقامة الأدلة العقلية و النقلية على ذلك، و الحث عليه، و النهي عن عبادة ما سوى اللّه و إقامة الأدلة العقلية و النقلية على فسادها، و الترهيب منها، فذلك يدل عليه قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ . و إما إخبار عن حكمه الجزائي العدل، و ثواب المحسنين، و عقاب العاصين، فهذا يدل عليه قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ . فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات.

[4] يخبر تبارك و تعالى أنه‏ ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا و المراد بالمجادلة هنا، المجادلة لرد آيات اللّه، و مقابلتها بالباطل فهذا من صنيع الكفار. و أما المؤمنون، فيخضعون للحق، ليدحضوا به الباطل. و لا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، و يظن أن إعطاء اللّه إياه في الدنيا، دليل على محبته له، و أنه على الحق، لهذا قال:

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي: ترددهم فيها، بأنواع التجارات و المكاسب. بل الواجب على العبد، أن يعتبر الناس بالحق، و ينظر إلى الحقائق الشرعية، و يزن بها الناس، و لا يزن الحق بالناس، كما عليه من لا علم و لا عقل له.

صفحه بعد