کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 913

إلّا حسنا و بهاء، و لا يزداد أهلها، إلّا اشتياقا إلى لذاتها و ودادا. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ‏ فيها أي: في الجنات‏ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ . فمهما أرادوا، فهو حاصل، و مهما طلبوا حصل، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ و هل فضل أكبر من الفوز برضا اللّه تعالى، و التنعم بقربه في دار كرامته؟

[23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ أي: هذه البشارة العظيمة، التي هي أكبر البشائر على الإطلاق، بشّر بها الرحيم الرحمن، على يد أفضل خلقه لأهل الإيمان و العمل الصالح، فهي أجلّ الغايات، و الوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏ أي: على تبليغي إياكم هذا القرآن و دعوتكم إلى أحكامه. أَجْراً فلست أريد أخذ أموالكم، و لا التولي عليكم و الترؤس، و لا غير ذلك من الأغراض‏ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ . يحتمل أن المراد: لا أسألكم عليه أجرا واحدا هو لكم، و عائد نفعه إليكم، و هو: أن تودوني و تحبوني في القرابة، أي لأجل القرابة. و يكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان، فإن مودة الإيمان بالرسول، و تقديم محبته على جميع المحاب، بعد محبة اللّه، فرض على كل مسلم. و هؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك، أن يحبوه، لأجل القرابة، لأنه صلّى اللّه عليه و سلم، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه. حتى إنه قيل: إنه ليس في بطون قريش أحد، إلّا و لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فيه قرابة. و يحتمل أن المراد إلّا مودة اللّه تعالى، الصادقة، و هي التي يصحبها التقرب إلى اللّه، و التوسل بطاعته، الدالة على صحتها و صدقها، و لهذا قال: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ أي: في التقرب إلى اللّه. و على كلا القولين، فهذا الاستثناء، دليل على أنه لا يسألكم عليه أجرا بالكلية، إلا أن يكون شيئا يعود نفعه إليهم. فهذا ليس من الأجر في شي‏ء، بل هو من الأجر منه لهم صلّى اللّه عليه و سلم، كقوله تعالى: وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) و قولهم: «ما لفلان عندك ذنب، إلّا أنه محسن إليك». وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً من صلاة، أو صوم، أو حج، أو إحسان إلى الخلق‏ نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً بأن يشرح اللّه صدره، و ييسر أمره، و يكون سببا للتوفيق لعمل آخر، و يزداد بها عمل المؤمن، و يرتفع عند اللّه، و عند خلقه، و يحصل له الثواب، العاجل و الآجل. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ يغفر الذنوب العظيمة و لو بلغت ما بلغت، عند التوبة منها، و يشكر على العمل القليل بالأجر الكثير. فبمغفرته يغفر الذنوب، و يستر العيوب، و بشكره يتقبل الحسنات، و يضاعفها، أضعافا كثيرة.

[24] يعني أم يقول المكذبون للرسول صلّى اللّه عليه و سلم، جرأة منهم و كذبا: افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فرموك بأشنع الأمور و أقبحها، و هو: الافتراء على اللّه، بادعاء النبوة و النسبة إلى اللّه ما هو بري‏ء منه، و هم يعلمون صدقك و أمانتك.

فكيف يتجرؤون على هذا الكذب الصراح؟ بل تجرؤوا بذلك على اللّه تعالى. فإنه قدح في اللّه، حيث مكّنك من هذه الدعوة العظيمة، المتضمنة- على موجب زعمهم- أكبر الفساد في الأرض، حيث مكّنه اللّه، من التصريح بالدعوة، ثمّ بنسبتها إليه، ثمّ يؤيده بالمعجزات الظاهرات، و الأدلة القاهرات، و النصر المبين، و الاستيلاء على من خالفه. و هو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها و مادتها، و هو أن يختم على قلب الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و لا يدخل إليه خير. و إذا ختم على قلبه، انحسم الأمر كله، و انقطع. فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول، و أقوى شهادة من اللّه له على ما قال، و لا يوجد شهادة أعظم منها و لا أكبر. و لهذا، من حكمته و رحمته، و سنته الجارية، أنه يمحو الباطل و يزيله، و إن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال. وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ‏ الكونية، التي لا تبدل و لا تغير، و وعده الصادق، و كلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحقّ، و تثبته في القلوب، و تبصر أولي الألباب. حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحقّ، أن يقيّض له الباطل ليقاومه. فإذا قاومه، صال عليه الحقّ ببراهينه و بيناته، فظهر من نوره و هداه، ما به يضمحل الباطل، و ينقمع، و يتبين بطلانه لكل أحد، و يظهر الحقّ كل الظهور لكل أحد. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها، و ما اتصفت به، من خير و شر، و ما أكنته و لم تبده.

[25] هذا بيان لكمال كرم اللّه تعالى، و سعة جوده، و تمام لطفه، إذ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصادرة عَنْ عِبادِهِ‏ حين‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 914

يقلعون عن ذنوبهم، و يندمون عليها، و يعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن اللّه يقبلها، بعد ما انعقدت سببا للهلاك، و وقوع العقوبات الدنيوية و الدينية. وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ‏ و يمحوها، و يمحو أثرها من العيوب، و ما اقتضته من العقوبات. و يعود التائب عنده كريما، كأنه ما عمل سوءا قط، و يحبه، و يوفقه لما يقرّبه إليه.

و لما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص و الصدق فيها، و قد تكون ناقصة عند نقصهما، و قد تكون فاسدة، إذا كان القصد منها، بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، و كان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلّا اللّه، ختم هذه الآية بقوله: وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ‏ .

[26] فاللّه تعالى، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه، و التوبة من التقصير، فانقسموا- بحسب الاستجابة له- إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله: وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ أي: يستجيبون لربهم، لما دعاهم إليه و ينقادون له، و يلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان و العمل الصالح، يحملهم على ذلك. فإذا استجابوا له، شكر اللّه لهم، و هو الغفور الشكور. وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏ توفيقا و نشاطا على العمل، و زادهم مضاعفة في الأجر، زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب و الفوز العظيم.

و أما غير المستجيبين للّه‏ وَ هم المعاندون‏ الْكافِرُونَ‏ به و برسله، فإنهم‏ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا و الآخرة.

[27] ثمّ ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ‏ أي: لغفلوا عن طاعة اللّه، و أقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم، و لو كان معصية و ظلما. وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ بحسب ما اقتضاه لطفه و حكمته‏ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ كما في بعض الآثار أن اللّه تعالى يقول: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الصحة، و لو أمرضته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا المرض و لو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير».

[28] وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏ أي: المطر الغزير الذي به يغيث البلاد و العباد. مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا و انقطع عنهم مدة، و ظنوا أنه لا يأتيهم، و أيسوا و عملوا لذلك الجدب أعمالا، فينزل اللّه الغيث‏ وَ يَنْشُرُ به‏ رَحْمَتَهُ‏ من إخراج الأقوات للآدميين، و بهائمهم، فيقع عندهم موقعا عظيما، و يستبشرون بذلك و يفرحون. وَ هُوَ الْوَلِيُ‏ الذي يتولى عباده، بأنواع التدبير، و يتولي القيام بمصالح دينهم و دنياهم. الْحَمِيدُ في ولايته و تدبيره، الحميد على ما له من الكمال، و ما أوصله إلى خلقه، من أنواع الأفضال.

[29] وَ مِنْ آياتِهِ‏ أي: و من أدلة قدرته العظيمة، و أنه سيحيي الموتى بعد موتهم. خَلْقُ‏ هذه‏ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ على عظمهما و سعتهما، الدال على قدرته، و سعة سلطانه، و ما فيهما من الإتقان و الإحكام، دال على حكمته و ما فيهما من المنافع و المصالح، دال على رحمته، و ذلك يدل على أنه المستحق لأنواع العبادة كلها، و أن إلهية ما سواه باطلة. وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أي: ما نشر في السموات و الأرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 915

مصالح و منافع لعباده. وَ هُوَ عَلى‏ جَمْعِهِمْ‏ أي: جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ . فقدرته و مشيئته، صالحان لذلك، و يتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق. و قد علم أنه قد تواترت أخبار المرسلين و كتبهم، بوقوعه.

[30] يخبر تعالى، أنه ما أصاب العباد من مصيبة، في أبدانهم، و أموالهم، و أولادهم، و فيما يحبون، و يكون عزيزا عليهم، إلّا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، و أن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، و لكن أنفسهم يظلمون‏ وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ . و ليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات، و لا عجزا.

[31] وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ‏ أي: معجزين قدرة اللّه عليكم، بل أنتم عاجزون في الأرض، ليس عندكم امتناع عمّا ينفذه اللّه فيكم. وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍ‏ يتولاكم، فيحصل لكم المنافع‏ وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنكم المضار.

[32] أي: و من أدلة رحمته، و عنايته بعباده‏ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ من السفن، و المراكب البخارية، و الشراعية، التي هي من عظمها كَالْأَعْلامِ‏ و هي الجبال الكبار، التي سخر لها البحر العجاج، و حفظها من التطام الأمواج، و جعلها تحملكم، و تحمل أمتعتكم الكثيرة، إلى البلدان و الأقطار البعيدة، و سخر لها من الأسباب، ما كان معونة على ذلك.

[33- 34] ثمّ نبه على هذه الأسباب بقوله: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ‏ التي جعلها اللّه سببا لسيرها.

فَيَظْلَلْنَ‏ أي: الجواري «أي: السفن على اختلاف أنواعها» رَواكِدَ على ظهر البحر، لا تتقدم و لا تتأخر و لا ينتقض هذا، بالمراكب البخارية، فإن من شرط مشيها، وجود الريح. و إن شاء اللّه تعالى، أوبق الجواري، بما كسب أهلها، أي: أغرقها في البحر، و أتلفها، و لكنه يحلم، و يعفو عن كثير. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي: كثير الصبر على ما تكرهه نفسه و يشق عليها، فيكرهها عليه، من مشقة طاعة، أو ردع داع إلى معصية، أو ردع نفسه عند المصائب عن التسخط، شَكُورٍ . في الرخاء و عند النعم، يعترف بنعمة ربه و يخضع له، و يصرفها في مرضاته.

فهذا الذي ينتفع بآيات اللّه. و أما الذي لا صبر عنده، و لا شكر له عند نعم اللّه، فإنه معرض أو معاند، لا ينتفع بالآيات.

[35] ثمّ قال تعالى: وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ليبطلوها بباطلهم. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏ أي: لا ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة.

[36] هذا تزهيد في الدنيا، و ترغيب في الآخرة، و ذكر الأعمال الموصلة إليها فقال: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ من ملك و رياسة، و أموال، و بنين، و صحة، و عافية بدنية. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا لذة منغصة منقطعة. وَ ما عِنْدَ اللَّهِ‏ من الثواب الجزيل، و الأجر الجليل، و النعيم المقيم‏ خَيْرٌ من لذات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما وَ أَبْقى‏ لأنه نعيم لا مغص فيه و لا كدر، و لا انتقال. ثمّ ذكر لمن هذا الثواب فقال: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏ أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة و الباطنة و بين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل. فكل عمل لا يصحبه التوكل، فغير تام، و هو «أي: التوكل» الاعتماد بالقلب على اللّه. في جلب ما يحبه العبد، و دفع ما يكرهه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 916

مع الثقة به تعالى.

[37] وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ‏ و الفرق بين الكبائر و الفواحش- مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي: الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا و نحوه، و الكبائر، ما ليس كذلك، هذا عند الاقتران. و أما مع إفراد كل منهما عن الآخر يدخل فيه. وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏ أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق، و محاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، و حسن الخلق لهم، طبيعة. حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله، أو فعاله، كظموا ذلك الغضب، فلم ينفذوه، بل غفروه، و لم يقابلوا المسي‏ء إلّا بالإحسان و العفو و الصفح. فترتب على هذا العفو و الصفح، من المصالح، و دفع المفاسد في أنفسهم و غيرهم، شي‏ء كثير، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏ (35).

[38] وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ‏ أي: انقادوا لطاعته، و لبّوا دعوته، و صار قصدهم رضوانه، و غايتهم الفوز بقربه. و من الاستجابة للّه، إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة. فلذلك عطفها على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه و فضله فقال: وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي: ظاهرها و باطنها، فرضها و نفلها. وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ‏ من النفقات الواجبة، كالزكاة، و النفقة على الأقارب و نحوهم، و المستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.

وَ أَمْرُهُمْ‏ الديني و الدنيوي‏ شُورى‏ بَيْنَهُمْ‏ أي: لا يستبد أحد منهم برأيه، في أمر من الأمور المشتركة بينهم، و هذا لا يكون إلّا فرعا عن اجتماعهم، و توالفهم، و تواددهم، و تحاببهم. فمن كمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور، التي تحتاج إلى إعمال الفكر و الرأي فيها، اجتمعوا لها، و تشاوروا، و بحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها و بادروها. و ذلك كالرأي في الغزو، و الجهاد، و تولية الموظفين لإمارة، أو قضاء، أو غيرهما.

و كالبحث في المسائل الدينية عموما، فإنها من الأمور المشتركة، و البحث فيها لبيان الصواب مما يحبه اللّه، و هو داخل في هذه الآية.

[39] وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ‏ أي: وصل إليهم من أعدائهم‏ هُمْ يَنْتَصِرُونَ‏ لقوتهم و عزتهم، و لم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان، و التوكل على اللّه، و اجتناب الكبائر و الفواحش الذي تكفر به الصغائر، و الانقياد التام، و الاستجابة لربهم، و إقامة الصلاة، و الإنفاق في وجوه الإحسان، و المشاورة في أمورهم، و القوة و الانتصار على أعدائهم. فهذه خصال الكمال قد جمعوها، و يلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، و انتفاء ضدها.

[40] ذكر اللّه في هذه الآية، مراتب العقوبات، و أنها على ثلاث مراتب: عدل، و فضل، و ظلم. فمرتبة العدل:

جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة و لا نقص. فالنفس بالنفس، و كل جارحة بالجارحة المماثلة لها، و المال يضمن بمثله.

و مرتبة الفضل: العفو و الإصلاح عن المسي‏ء، و لهذا قال: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏ يجزيه أجرا عظيما، و ثوابا كثيرا. و شرط اللّه في العفو و الإصلاح صلاحهما لحال الجاني، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه، و كانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في- هذه الحال- لا يكون مأمورا به. و في جعل أجر العافي على اللّه، ما يهيج على العفو، و أن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله اللّه به. فكما يحب أن يعفو اللّه عنه، فليعف عنهم، و كما يحب أن يسامحه اللّه، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. و أما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏ الّذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم.

[41] وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ‏ أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه‏ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ‏ أي: لا حرج عليهم في ذلك. و دلّ قوله: وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ‏ و قوله: وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ‏ أنه لا بد من إصابة البغي و الظلم و وقوعه. و أما إرادة البغي على الغير، و إرادة ظلمه من غير أن يقع منه شي‏ء، فهذا لا يجازى بمثله، و إنّما يؤدب تأديبا، يردعه عن قول، أو فعل صدر منه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 917

[42] إِنَّمَا السَّبِيلُ‏ أي: إنّما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ‏ و هذا شامل للظلم و البغي على الناس، في دمائهم، و أموالهم، و أعراضهم. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ أي:

موجع للقلوب و الأبدان، بحسب ظلمهم و بغيهم.

[43] وَ لَمَنْ صَبَرَ على ما يناله من أذى الخلق‏ وَ غَفَرَ لهم، بأن سمح لهم عمّا صدر منهم. إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: الأمور الّتي حث اللّه عليها و أكدها و أخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر و الحظوظ العظيمة، و من الأمور الّتي لا يوفق لها إلا أولو العزائم و الهمم، و ذوو الألباب و البصائر. فإن ترك الانتصار للنفس، بالقول أو الفعل، من أشق شي‏ء عليها. و الصبر على الأذى، و الصفح عنه، و مغفرته، و مقابلته بالإحسان، أشق و أشق. و لكنه يسير على من يسره اللّه عليه و جاهد نفسه على الاتصاف به، و استعان اللّه على ذلك. ثمّ إذا ذاق العبد حلاوته، و وجد آثاره، تلقاه برحب الصدر، و سعة الخلق، و التلذذ فيه.

[44] يخبر تعالى، أنه المنفرد بالهداية و الإضلال، و أنه‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ‏ بسبب ظلمه‏ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ‏ يتولى أمره و يهديه. وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ‏ مرأى و منظرا فظيعا، صعبا شنيعا، يظهرون الندم العظيم، و الحزن على ما سلف منهم‏ يَقُولُونَ هَلْ إِلى‏ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ‏ أي: هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنّا نعمل، و هذا طلب للأمر المحال، الذي لا يمكن.

[45] وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي: على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ‏ أي: ترى أجسامهم خاشعة للذل، الذي في قلوبهم. يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ‏ أي:

ينظرون إلى النار مسارقة و شزرا، من هيبتها و خوفها. وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا حين ظهرت عواقب الخلق، و تبين أهل الصدق من غيرهم: إِنَّ الْخاسِرِينَ‏ على الحقيقة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حيث فوتوا على أنفسهم جزيل الثواب، و حصلوا على أليم العقاب و فرّق بينهم و بين أهليهم، فلم يجتمعوا بهم، آخر ما عليهم.

أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ‏ أنفسهم بالكفر و المعاصي‏ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ‏ أي: في سوائه و وسطه، منغمرون لا يخرجون منه أبدا، و لا يفتر عنهم، و هم فيه مبلسون.

[46] وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏ كما كانوا في الدنيا يمنون أنفسهم بذلك. ففي القيامة يتبين لهم و لغيرهم، أن أسبابهم الّتي أملوها تقطعت، و أنه حين جاءهم عذاب اللّه، لم يدفع عنهم. وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ‏ تحصل به هدايته، فهؤلاء ضلوا حين زعموا في شركائهم النفع، و دفع الضر، فتبين حينئذ ضلالهم.

[47] يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، و اجتناب ما نهى عنه، و بالمبادرة بذلك، و عدم التسويف. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ‏ القيامة الذي إذا جاء، لا يمكن رده و استدراك الفائت. و ليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه؛ فيفوت ربه، و يهرب منه. بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة، من خلفهم، و نودوا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ‏ (33). و ليس للعبد في ذلك اليوم، نكير لما اقترفه و أجرمه، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه. و هذه الآية و نحوها، فيها ذم الأمل، و الأمر بانتهاز الفرصة في‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 918

كل عمل يعرض للعبد. فإن للتأخير آفات.

[48] فَإِنْ أَعْرَضُوا عمّا جئتم به بعد البيان التام‏ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظ أعمالهم، و تسأل عنها. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ‏ فإذا أديت ما عليك، فقد وجب أجرك على اللّه، سواء استجابوا أم أعرضوا، و حسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم و كبيرها، ظاهرها و باطنها. ثمّ ذكر تعالى حالة الإنسان، و أنه إذا أذاقه رحمة، من صحة بدن، و رزق رغد، و جاه و نحوه‏ فَرِحَ بِها أي: فرح فرحا مقصورا عليها، لا يتعداها، و يلزم من ذلك، طمأنينته بها، و إعراضه عن المنعم. وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي:

مرض، أو فقر، أو نحوهما بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي: طبيعته كفران النعمة السابقة، و التسخط لما أصابه، من السيئة.

[49- 50] هذه الآية، فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، و نفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، و التدبير لجميع الأمور. حتى أن تدبيره تعالى، من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب لولادة الأولاد، فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء. فمن الخلق من يهب له إناثا، و منهم من يهب له ذكورا. و منهم من يزوجه، أي: يجمع له ذكورا و إناثا. و منهم من يجعله عقيما، لا يولد له.

إِنَّهُ عَلِيمٌ‏ بكل شي‏ء قَدِيرٌ على كل شي‏ء، فيتصرف بعلمه و إتقانه الأشياء، بقدرته في مخلوقاته.

[51] لما قال المكذبون لرسل اللّه، الكافرون باللّه: لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ من كبرهم و تجبرهم، رد اللّه عليهم بهذه الآية الكريمة، و بيّن أن تكليمه تعالى، لا يكون إلا لخواص خلقه، للأنبياء و المرسلين، و صفوته من العالمين، و أنه يكون على أحد هذه الأوجه. إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً بأن يلقي الوحي في قلب الرسول، من غير إرسال ملك، و لا مخاطبة منه شفاها. أَوْ يكلمه منه شفاها لكن‏ مِنْ وَراءِ حِجابٍ‏ كما حصل لموسى بن عمران، كليم الرحمن. أَوْ يكلمه اللّه بواسطة الرسول الملكي‏ يُرْسِلَ رَسُولًا كجبريل أو غيره من الملائكة. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ‏ أي: بإذن ربه، لا بمجرد هواه‏ ما يَشاءُ . إِنَّهُ‏ تعالى‏ عَلِيٌ‏ الذات على الأوصاف، عظيمها على الأفعال، قد قهر كل شي‏ء، و دانت له المخلوقات. حَكِيمٌ‏ في وضعه كل شي‏ء موضعه، من المخلوقات و الشرائع.

[52] وَ كَذلِكَ‏ حين أوحينا إلى الرسل قبلك‏ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا و هو: هذا القرآن الكريم، سماه روحا، لأن الروح يحيا به الجسد، و القرآن تحيا به القلوب و الأرواح، و تحيا به مصالح الدنيا و الدين، لما فيه من الخير الكثير، و العلم الغزير. و هو محض منة اللّه على رسوله و عباده المؤمنين، من غير سبب منهم، و لهذا قال: ما كُنْتَ تَدْرِي‏ أي: قبل نزوله عليك‏ مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ‏ أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، و لا إيمان و عمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميا، لا تخط و لا تقرأ. فجاءك هذا الكتاب الذي‏ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يستضيئون به في ظلمات الكفر و البدع، و الأهواء المردية، و يعرفون به الحقائق، و يهتدون به إلى الصراط المستقيم. وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ أي: تبينه لهم و توضحه، و ترغبهم فيه، و تنهاهم عن ضده، و ترهبهم منه ثمّ فسّر الصراط المستقيم فقال:

[53] صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ‏ أي: الصراط الذي نصبه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 919

اللّه لعباده، و أخبرهم أنه موصل إليه و إلى دار كرامته. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي: ترجع جميع أمور الخير و الشر، فيجازي كلّا بعمله، إن خيرا فخير، و إن شراّ فشر.

سورة الزخرف‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1- 2] هذا قسم بالقرآن، فأقسم بالكتاب المبين، و أطلق، و لم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا و الدين و الآخرة.

[3- 5] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا هذا هو المقسوم عليه، أنه جعل بأفصح اللغات و أوضحها، و أبينها، و هذا من بيانه. و ذكر الحكمة في ذلك فقال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏ ألفاظه و معانيه لتيسرها و قربها من الأذهان.

وَ إِنَّهُ‏ أي: هذا الكتاب‏ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا أي:

في الملأ الأعلى في أعلى الرتب و أفضلها لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ‏ أي: لعلي في قدره، و شرفه، و محله، حكيم فيما يشتمل عليه، من الأوامر، و النواهي، و الأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة، و العدل، و الميزان. ثمّ أخبر تعالى أن حكمته و فضله، تقتضي أن لا يترك عباده هملا، لا يرسل إليهم رسولا، و لا ينزل عليهم كتابا، و لو كانوا مسرفين ظالمين فقال: أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي: أ فنعرض عنكم، و نترك إنزال الذكر إليكم و نضرب عنكم صفحا، لأجل إعراضكم، و عدم انقيادكم؟ بل ننزل عليكم الكتاب، و نوضح لكم فيه كل شي‏ء. فإن آمنتم به و اهتديتم، فهو من توفيقكم، و إلّا، فقد قامت عليكم الحجة و كنتم على بيّنة من أمركم.

[6] يقول تعالى: إن هذه سنتنا في الخلق، أن لا نتركهم هملا. وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ‏ (6) يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له. و لم يزل التكذيب موجودا في الأمم.

[7] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‏ (7) جحدا لما جاء به، و تكبرا على الحقّ.

[8] فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ‏ أي: من هؤلاء بَطْشاً أي:

قوة، و أفعالا و آثارا في الأرض. وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ‏ أي: مضت أمثالهم، و أخبارهم، و بينا لكم منها، ما فيه عبرة و مزدجر عن التكذيب.

[9] يخبر تعالى عن المشركين، أنك‏ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ‏ (9) أي: اللّه وحده لا شريك له، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، بظواهر الأمور، و بواطنها، و أوائلها، و أواخرها. فإذا كانوا مقرين بذلك، فكيف يجعلون له الولد، و الصاحبة، و الشريك؟ و كيف يشركون به، من لا يخلق، و لا يرزق، و لا يميت، و لا يحيي؟.

صفحه بعد