کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 964

فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو اللّه إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قوموا و انحروا، ثمّ احلقوا»، فو اللّه ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول اللّه أ تحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم أحدا كلمة، حتى تنحر بدنك، و تدعو حالقك، فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، و دعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، و جعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثمّ جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل اللّه عز و جل: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ‏ حتى بلغ‏ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين، كانتا عنده في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، و الأخرى صفوان بن أمية، ثمّ رجع إلى المدينة. و في مرجعه أنزل اللّه عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول اللّه؟

فقال: «نعم»، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول اللّه، فما لنا؟ فأنزل اللّه عز و جل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏ الآية. انتهى. و هذا آخر تفسير سورة الفتح و للّه الحمد، و صلّى اللّه على نبينا محمد و على آله و صحبه. نقلته من خط المفسر رحمه اللّه و عفا عنه، و كان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة سنة 1345 ه، و صلّى اللّه على نبينا محمد و آله و صحبه و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين. بقلم الفقير إلى ربه، سليمان بن حمد العبد اللّه البسام، غفر اللّه له و لوالديه و لجميع المسلمين آمين. و صلّى اللّه على محمد و على آله و صحبه أجمعين و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

تفسير سورة الحجرات‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا متضمن للأدب مع اللّه تعالى، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و التعظيم و الاحترام له، و إكرامه. فأمر اللّه عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان باللّه و رسوله، من امتثال أوامر اللّه، و اجتناب نواهيه، و أن يكونوا ماشين، خلف أوامر اللّه، متبعين لسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي اللّه و رسوله، فلا يقولوا حتى يقول، و لا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع اللّه و رسوله، و هو عنوان سعادة العبد و فلاحه، و بفواته تفوته السعادة الأبدية، و النعيم السرمدي. و في هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على قوله، فإنه متى.

استبانت سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وجب اتباعها، و تقديمها على غيرها، كائنا من كان. ثمّ أمر اللّه بتقواه عموما، و هي كما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 965

قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة اللّه ترجو ثواب اللّه، و أن تترك معصية اللّه على نور اللّه، تخشى عقاب اللّه. و قوله:

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ‏ ، أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع و الجهات. عَلِيمٌ‏ بالظواهر و البواطن، و السوابق و اللواحق، و الواجبات و المستحيلات و الجائزات.

و في ذكر الاسمين الكريمين- بعد النهي عن التقدم بين يدي اللّه و رسوله، و الأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، و الآداب المستحسنة، و ترهيب عن ضده.

[2] ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ‏ ، و هذا أدب مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه فوق صوته، و لا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، و يخاطبه بأدب و لين، و تعظيم و تكريم، و إجلال و إعظام. و لا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزونه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، و وجوب الإيمان به، و الحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذورا، خشية أن يحبط عمل العبد و هو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب، و قبول الأعمال.

[3] ثمّ مدح من غض صوته عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، بأن اللّه امتحن قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها و اختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى. ثمّ وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر و المكروه، و حصول الأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا اللّه تعالى، و فيه حصول كلّ محبوب، و في هذا، دليل على أن اللّه يمتحن القلوب، بالأمر و النهي و المحن. فمن لازم أمر اللّه، و اتبع رضاه، و سارع إلى ذلك، و قدمه على هواه، تمحض و تمحص للتقوى، و صار قلبه صالحا، و من لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.

[4] نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب، الّذين وصفهم اللّه بالجفاء، و أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، قدموا وافدين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فوجدوه في بيته و حجرات نسائه، فلم يصبروا و يتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، أي: اخرج إلينا. فذمهم اللّه بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن اللّه الأدب مع رسوله و احترامه، كما أن من العقل استعمال الأدب.

[5] فأدب العبد، عنوان عقله، و أن اللّه مريد به الخير، و لهذا قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ (5)، أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، و الإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات و المثلات.

[6] و هذا أيضا من الآداب الّتي على أولي الألباب التأدب بها و استعمالها، و هو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبإ، أي:

خبر أن يتثبتوا في خبره، و لا يأخذوه مجردا، فإن في ذلك خطرا كبيرا، و وقوعا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك و مقتضاه، فحصل من تلف النفوس و الأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت و التبين. فإن دلت الدلائل و القرائن على صدقه، عمل به و صدّق، و إن دلت على كذبه، كذّب، و لم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، و خبر الكاذب مردود، و خبر الفاسق متوقف فيه، و لهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 966

و لو كانوا فساقا.

[7] أي: و ليكن لديكم معلوما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهركم و هو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير، و ينصح لكم، و تريدون لأنفسكم من الشر و المضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، و لو يطيعكم في كثير من الأمر، لشق عليكم، و أعنتكم و لكن الرسول يرشدكم.

و اللّه تعالى يحبب إليكم الإيمان، و يزينه في قلوبكم، بما أودع في قلوبكم من محبة الحقّ و إيثاره، و بما نصب على الحقّ من الشواهد و الأدلة الدالة على صحته، و قبول القلوب و الفطر له، و بما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه.

و يكره إليكم الكفر و الفسوق، أي: الذنوب الصغار- بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، و عدم إرادة فعله، و بما نصبه من الأدلة و الشواهد على فساده و مضرته، و عدم قبول الفطر له، و بما يجعل اللّه في القلوب من الكراهة له.

أُولئِكَ‏ الّذين زين اللّه الإيمان في قلوبهم، و حببه إليهم، و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان‏ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏ ، أي: الّذين صلحت علومهم و أعمالهم، و استقاموا على الدين القويم، و الصراط المستقيم. و ضدهم الغاوون الّذين حبب إليهم الكفر و الفسوق و العصيان، و كره إليهم الإيمان، و الذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع اللّه على قلوبهم، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ ، و لما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب أفئدتهم.

[8] و قوله: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً ، أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل اللّه عليهم و إحسانه، لا بحولهم و قوتهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ ، أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، و لا تليق به، فيضع فضله، حيث تقتضيه حكمته.

[9] هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، و يقتل بعضهم بعضا، و أنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، و التوسط على أكمل وجه يقع به الصلح، و يسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها و نعمت، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ‏ . أي: ترجع إلى ما حد اللّه و رسوله، من فعل الخير و ترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال. و قوله: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ‏ هذا أمر بالصلح، و بالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، و لكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم و الحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد و الأغراض، الّتي توجب العدول عن العدل. وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏ ، أي: العادلين في حكمهم بين الناس و في جميع الولايات الّتي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله و عياله في أداء حقوقهم. و في الحديث الصحيح: «المقسطون عند اللّه على منابر من نور:

الّذين يعدلون في حكمهم و أهليهم، و ما ولوا».

[10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ هذا عقد، عقده اللّه بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض و مغربها، الإيمان باللّه، و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 967

له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، و يكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، آمرا بالأخوة الإيمانية: «لا تحاسدوا، و لا تناجشوا، و لا تباغضوا، و لا تدابروا، و كونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، و لا يخذله، و لا يكذبه» متفق عليه. و فيهما عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضهم بعضا» و شبك صلّى اللّه عليه و سلّم بين أصابعه. و لقد أمر اللّه و رسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، و مما يحصل به التآلف و التوادد، و التواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب و تباغضها و تدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، و ليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثمّ أمر بالتقوى عموما، و رتب على القيام بالتقوى و بحقوق المؤمنين، الرحمة، فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏ ، و إذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا و الآخرة، و دل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. و في هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، و لهذا كان من أكبر الكبائر، و أن الإيمان و الأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر، الّتي دون الشرك، و على ذلك مذهب أهل السنة و الجماعة. و على وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، و على وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر اللّه، و على أنهم لو رجعوا لغير أمر اللّه، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه و التزامه، أنه لا يجوز ذلك، و أن أموالهم معصومة، لأن اللّه أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.

[11] و هذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن‏ لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ‏ بكل كلام، و قول، و فعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، و هو دال على إعجاب الساخر بنفسه. و عسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر، و هو الغالب و الواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلى‏ء من مساوئ الأخلاق، متحلّ بكل خلق ذميم، متخلّ عن كلّ خلق كريم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم». ثمّ قال: وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ‏ ، أي: لا يعب بعضكم على بعض، و اللمز بالقول، و الهمز بالفعل، و كلاهما منهيّ عنه حرام، متوعد عليه بالنار، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الآية. و سمى الأخ المسلم نفسا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هذا حالهم كالجسد الواحد، و لأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ‏ ، أي: لا يعير أحدكم أخاه، و يلقبه بلقب يكره أن يقال فيه، و هذا هو التنابز، و أما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ‏ ، أي:

بئسما تبدلتم عن الإيمان و العمل بشرائعه، و ما يقتضيه بالإعراض عن أوامره و نواهيه، باسم الفسوق و العصيان، الذي هو التنابز بالألقاب. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ ، و هذا هو الواجب على العبد، أن يتوب إلى اللّه تعالى، و يخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله و الاستغفار، و المدح مقابلة على ذمه. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، و تائب مفلح، و لا ثمّ غيرهما.

[12] نهى اللّه عز و جل عن كثير من الظن السيّ‏ء بالمؤمنين، حيث قال: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ‏ ، و ذلك كالظن الخالي من الحقيقة و القرينة، و كظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، و الأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، و يفعل ما لا ينبغي. و في ذلك أيضا إساءة الظن بالمسلم، و بغضه، و عداوته المأمور بخلافها منه. وَ لا تَجَسَّسُوا ، أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، و لا تتبعوها، و دعوا المسلم على حاله، و استعملوا التغافل عن زلاته، الّتي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و الغيبة كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ذكرك أخاك بما يكره و لو كان فيه». ثمّ ذكر مثلا منفرا عن الغيبة، فقال: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ‏ ، شبه أكل لحمه ميتا، المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، خصوصا إذا كان ميتا، فاقد الروح، فكذلك، فلتكرهوا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 968

غيبته و أكل لحمه حيّا. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ‏ ، و التواب: الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثمّ يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، و قبل منهم التوبة، و في هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، و أنها من الكبائر، لأن اللّه شبهها بأكل لحم الميت، و ذلك من الكبائر.

[13] يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، و جنس واحد، و كلهم من ذكر و أنثى، و يرجعون جميعهم إلى آدم و حواء، و لكن اللّه تعالى بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و فرقهم، و جعلهم شعوبا و قبائل، أي: قبائل صغارا و كبارا، و ذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنه لو استقل كلّ واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر و التعاون و التوارث، و القيام بحقوق الأقارب، و لكن اللّه جعلهم شعوبا و قبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور و غيرها مما يتوقف على التعارف، و لحوق الأنساب، و لكن الكرم بالتقوى. فأكرمهم عند اللّه أتقاهم، و هو أكثرهم طاعة، و انكفافا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة و قوما، و لا أشرفهم نسبا. و لكن اللّه تعالى عليم خبير، يعلم منهم من يقوم بتقوى اللّه، ظاهرا و باطنا، فيجازي كلّا بما يستحق. و في هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة، لأن اللّه جعلهم شعوبا و قبائل لأجل ذلك.

[14] يخبر تعالى عن مقالة بعض الأعراب الّذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخولا من غير بصيرة، و لا قيام بما يجب و يقتضيه الإيمان، أنهم مع هذا ادعوا و قالوا: آمنا، أي: إيمانا كاملا، مستوفيا لجميع أموره، فأمر اللّه رسوله، أن يرد عليهم، فقال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، أي: لا تدّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهرا و باطنا، كاملا. وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، أي: دخلنا في الإسلام، و اقتصروا على ذلك. وَ السبب في ذلك، أنه‏ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏ و إنما أسلمتم خوفا أو رجاء أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم. و في قوله: وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏ ، أي: وقت هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيرا منهم منّ اللّه عليهم بالإيمان الحقيقي، و الجهاد في سبيل اللّه. وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ بفعل خير، أو ترك شر لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، أي: لا ينقصكم منها مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها، أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيرا و لا كبيرا. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ ، أي: غفور لمن تاب إليه و أناب، رحيم به، حيث قبل توبته.

[15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ‏ ، أي: على الحقيقة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ ، أي: من جمعوا بين الإيمان باللّه و رسوله، و الجهاد في سبيله. فإن من جاهد الكفار، دل ذلك على الإيمان التام في قلبه؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام، و الإيمان، و القيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى و أحرى؛ و لأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه. و شرط تعالى في الإيمان عدم الريب، أي: الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر اللّه بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه. و قوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏ ، أي: الّذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 969

الجميلة، فإن الصدق دعوى عظيمة في كلّ شي‏ء يحتاج صاحبه إلى حجة و برهان. و أعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، و الفوز الأبدي، و الفلاح السرمدي، فمن ادعاه و قام بواجباته و لوازمه، فهو الصادق المؤمن حقا، و من لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه، و ليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا اللّه تعالى.

[16] فإثباته و نفيه من باب تعليم اللّه بما في القلب، و هو سوء أدب، و ظن باللّه، و لهذا قال: قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ (16) و هذا شامل للأشياء كله، الّتي من جملتها ما في القلوب من الإيمان و الكفران، و البر و الفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله، و يجازي عليه، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر. هذه حالة من أحوال من ادّعى لنفسه الإيمان، و ليس به، فإنه إما أن يكون ذلك تعليما، و قد علم أنه عالم بكل شي‏ء، و إما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنّة على رسوله، و أنهم قد بذلوا و تبرعوا بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، و هذا تجمّل بما لا يجمل، و فخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله، فإن المنة للّه تعالى عليهم.

[17] فكما أنه تعالى هو المانّ عليهم بالخلق و الرزق، و النعم الظاهرة و الباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، و منته عليهم بالإيمان، أفضل من كلّ شي‏ء، و لهذا قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ (17).

[18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، أي: الأمور الخفية فيها، الّتي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، و مهامه القفار، و ما جنّه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، و حبّات الرمال، و مكنونات الصدور، و خبايا الأمور. وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ‏ . وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ ، يحصي عليكم أعمالكم، و يوفيكم إياها، و يجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة، و حكمته البالغة. تم تفسير سورة الحجرات بعون اللّه و منّه و جوده و كرمه، و الحمد للّه.

تفسير سورة ق‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يقسم تعالى بالقرآن المجيد، أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات، و المجد: سعة الأوصاف و عظمتها. و أحق كلام يوصف بذلك، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين و الآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، و من الألفاظ أجزلها، و من المعاني أعمها و أحسنها، و هذا موجب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 970

لكمال اتباعه و سرعة الانقياد له، و شكر اللّه على المنة به.

[2] و لكن أكثر الناس، لا يقدر نعم اللّه قدرها، و لهذا قال تعالى: بَلْ عَجِبُوا ، أي: المكذبون للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ منهم، أي: ينذرهم ما يضرهم، و يأمرهم بما ينفعهم، و هو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، و معرفة أحواله و صدقه. فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل، من تعجب منه. فَقالَ الْكافِرُونَ‏ ، أي: الّذين حملهم كفرهم و تكذيبهم، لا نقص بذكائهم و آبائهم. هذا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ‏ ، أي: مستغرب، و هم في هذا الاستغراب، بين أمرين: إما صادقون في استغرابهم و تعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، و ضعف عقولهم.

بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، و بمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، و بمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ و هل تعجبه إلا دليل على زيادة جهله و ظلمه؟ و إما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم و أشنعه.

[3] ثمّ ذكر وجه تعجبهم، فقال: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)، فقاسوا قدرة من هو على كلّ شي‏ء قدير، الكامل من كلّ وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز. من جميع الوجوه، و قاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شي‏ء عليم.

[4] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ‏ ، أي: من أجسادهم مدة مقامهم في البرزخ، و قد أحصي في كتابه. وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ، أي: محفوظ عن التغيير و التبديل، بكل ما يجري عليهم في حياتهم، أو مماتهم، و هذا الاستدلال بكمال سعة علمه- الّتي لا يحيط بها إلا هو- على قدرته على إحياء الموتى.

[5] أي: بَلْ‏ كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد و تكذيب، فقد كَذَّبُوا بِالْحَقِ‏ الذي هو أعلى أنواع الصدق‏ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ‏ ، أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شي‏ء، و لا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، و تارة مجنون، و تارة شاعر. و كذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه، ما اقتضاه رأيه الفاسد، و هكذا كلّ من كذب بالحقّ، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجه و لا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة. كما أن من اتبع الحقّ و صدق به، قد استقام أمره، و اعتدل سبيله، و صدق فعله قيله.

[6] لما ذكر تعالى حالة المكذبين، و ما ذمهم به، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية، كي يعتبروا، و يستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه، فقال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ‏ ، أي: لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة و شد رحل، بل هو في غاية السهولة. فينظروا كَيْفَ بَنَيْناها قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مزينة بالنجوم الخنس، و الجواري الكنس، الّتي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن و الملاحة، لا ترى فيها عيبا، و لا فروجا، و لا خلالا، و لا إخلالا. قد جعلها اللّه سقفا لأهل الأرض، و أودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.

صفحه بعد