کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 964
فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو اللّه إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قوموا و انحروا، ثمّ احلقوا»، فو اللّه ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول اللّه أ تحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم أحدا كلمة، حتى تنحر بدنك، و تدعو حالقك، فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، و دعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، و جعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثمّ جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل اللّه عز و جل: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين، كانتا عنده في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، و الأخرى صفوان بن أمية، ثمّ رجع إلى المدينة. و في مرجعه أنزل اللّه عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول اللّه؟
فقال: «نعم»، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول اللّه، فما لنا؟ فأنزل اللّه عز و جل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. انتهى. و هذا آخر تفسير سورة الفتح و للّه الحمد، و صلّى اللّه على نبينا محمد و على آله و صحبه. نقلته من خط المفسر رحمه اللّه و عفا عنه، و كان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة سنة 1345 ه، و صلّى اللّه على نبينا محمد و آله و صحبه و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين. بقلم الفقير إلى ربه، سليمان بن حمد العبد اللّه البسام، غفر اللّه له و لوالديه و لجميع المسلمين آمين. و صلّى اللّه على محمد و على آله و صحبه أجمعين و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
تفسير سورة الحجرات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذا متضمن للأدب مع اللّه تعالى، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و التعظيم و الاحترام له، و إكرامه. فأمر اللّه عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان باللّه و رسوله، من امتثال أوامر اللّه، و اجتناب نواهيه، و أن يكونوا ماشين، خلف أوامر اللّه، متبعين لسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي اللّه و رسوله، فلا يقولوا حتى يقول، و لا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع اللّه و رسوله، و هو عنوان سعادة العبد و فلاحه، و بفواته تفوته السعادة الأبدية، و النعيم السرمدي. و في هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على قوله، فإنه متى.
استبانت سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وجب اتباعها، و تقديمها على غيرها، كائنا من كان. ثمّ أمر اللّه بتقواه عموما، و هي كما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 965
قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة اللّه ترجو ثواب اللّه، و أن تترك معصية اللّه على نور اللّه، تخشى عقاب اللّه. و قوله:
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ، أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع و الجهات. عَلِيمٌ بالظواهر و البواطن، و السوابق و اللواحق، و الواجبات و المستحيلات و الجائزات.
و في ذكر الاسمين الكريمين- بعد النهي عن التقدم بين يدي اللّه و رسوله، و الأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، و الآداب المستحسنة، و ترهيب عن ضده.
[2] ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ، و هذا أدب مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه فوق صوته، و لا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، و يخاطبه بأدب و لين، و تعظيم و تكريم، و إجلال و إعظام. و لا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزونه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، و وجوب الإيمان به، و الحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذورا، خشية أن يحبط عمل العبد و هو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب، و قبول الأعمال.
[3] ثمّ مدح من غض صوته عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، بأن اللّه امتحن قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها و اختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى. ثمّ وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر و المكروه، و حصول الأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا اللّه تعالى، و فيه حصول كلّ محبوب، و في هذا، دليل على أن اللّه يمتحن القلوب، بالأمر و النهي و المحن. فمن لازم أمر اللّه، و اتبع رضاه، و سارع إلى ذلك، و قدمه على هواه، تمحض و تمحص للتقوى، و صار قلبه صالحا، و من لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.
[4] نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب، الّذين وصفهم اللّه بالجفاء، و أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، قدموا وافدين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فوجدوه في بيته و حجرات نسائه، فلم يصبروا و يتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، أي: اخرج إلينا. فذمهم اللّه بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن اللّه الأدب مع رسوله و احترامه، كما أن من العقل استعمال الأدب.
[5] فأدب العبد، عنوان عقله، و أن اللّه مريد به الخير، و لهذا قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)، أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، و الإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات و المثلات.
[6] و هذا أيضا من الآداب الّتي على أولي الألباب التأدب بها و استعمالها، و هو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبإ، أي:
خبر أن يتثبتوا في خبره، و لا يأخذوه مجردا، فإن في ذلك خطرا كبيرا، و وقوعا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك و مقتضاه، فحصل من تلف النفوس و الأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت و التبين. فإن دلت الدلائل و القرائن على صدقه، عمل به و صدّق، و إن دلت على كذبه، كذّب، و لم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، و خبر الكاذب مردود، و خبر الفاسق متوقف فيه، و لهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 966
و لو كانوا فساقا.
[7] أي: و ليكن لديكم معلوما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهركم و هو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير، و ينصح لكم، و تريدون لأنفسكم من الشر و المضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، و لو يطيعكم في كثير من الأمر، لشق عليكم، و أعنتكم و لكن الرسول يرشدكم.
و اللّه تعالى يحبب إليكم الإيمان، و يزينه في قلوبكم، بما أودع في قلوبكم من محبة الحقّ و إيثاره، و بما نصب على الحقّ من الشواهد و الأدلة الدالة على صحته، و قبول القلوب و الفطر له، و بما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه.
و يكره إليكم الكفر و الفسوق، أي: الذنوب الصغار- بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، و عدم إرادة فعله، و بما نصبه من الأدلة و الشواهد على فساده و مضرته، و عدم قبول الفطر له، و بما يجعل اللّه في القلوب من الكراهة له.
أُولئِكَ الّذين زين اللّه الإيمان في قلوبهم، و حببه إليهم، و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان هُمُ الرَّاشِدُونَ ، أي: الّذين صلحت علومهم و أعمالهم، و استقاموا على الدين القويم، و الصراط المستقيم. و ضدهم الغاوون الّذين حبب إليهم الكفر و الفسوق و العصيان، و كره إليهم الإيمان، و الذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع اللّه على قلوبهم، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ، و لما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب أفئدتهم.
[8] و قوله: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً ، أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل اللّه عليهم و إحسانه، لا بحولهم و قوتهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، و لا تليق به، فيضع فضله، حيث تقتضيه حكمته.
[9] هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، و يقتل بعضهم بعضا، و أنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، و التوسط على أكمل وجه يقع به الصلح، و يسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها و نعمت، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ . أي: ترجع إلى ما حد اللّه و رسوله، من فعل الخير و ترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال. و قوله: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ هذا أمر بالصلح، و بالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، و لكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم و الحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد و الأغراض، الّتي توجب العدول عن العدل. وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، أي: العادلين في حكمهم بين الناس و في جميع الولايات الّتي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله و عياله في أداء حقوقهم. و في الحديث الصحيح: «المقسطون عند اللّه على منابر من نور:
الّذين يعدلون في حكمهم و أهليهم، و ما ولوا».
[10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ هذا عقد، عقده اللّه بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض و مغربها، الإيمان باللّه، و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب
تيسير الكريم الرحمن، ص: 967
له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، و يكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، آمرا بالأخوة الإيمانية: «لا تحاسدوا، و لا تناجشوا، و لا تباغضوا، و لا تدابروا، و كونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، و لا يخذله، و لا يكذبه» متفق عليه. و فيهما عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضهم بعضا» و شبك صلّى اللّه عليه و سلّم بين أصابعه. و لقد أمر اللّه و رسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، و مما يحصل به التآلف و التوادد، و التواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب و تباغضها و تدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، و ليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثمّ أمر بالتقوى عموما، و رتب على القيام بالتقوى و بحقوق المؤمنين، الرحمة، فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، و إذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا و الآخرة، و دل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. و في هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، و لهذا كان من أكبر الكبائر، و أن الإيمان و الأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر، الّتي دون الشرك، و على ذلك مذهب أهل السنة و الجماعة. و على وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، و على وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر اللّه، و على أنهم لو رجعوا لغير أمر اللّه، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه و التزامه، أنه لا يجوز ذلك، و أن أموالهم معصومة، لأن اللّه أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.
[11] و هذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بكل كلام، و قول، و فعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، و هو دال على إعجاب الساخر بنفسه. و عسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر، و هو الغالب و الواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلىء من مساوئ الأخلاق، متحلّ بكل خلق ذميم، متخلّ عن كلّ خلق كريم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم». ثمّ قال: وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، أي: لا يعب بعضكم على بعض، و اللمز بالقول، و الهمز بالفعل، و كلاهما منهيّ عنه حرام، متوعد عليه بالنار، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الآية. و سمى الأخ المسلم نفسا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هذا حالهم كالجسد الواحد، و لأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ، أي: لا يعير أحدكم أخاه، و يلقبه بلقب يكره أن يقال فيه، و هذا هو التنابز، و أما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ، أي:
بئسما تبدلتم عن الإيمان و العمل بشرائعه، و ما يقتضيه بالإعراض عن أوامره و نواهيه، باسم الفسوق و العصيان، الذي هو التنابز بالألقاب. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، و هذا هو الواجب على العبد، أن يتوب إلى اللّه تعالى، و يخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله و الاستغفار، و المدح مقابلة على ذمه. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، و تائب مفلح، و لا ثمّ غيرهما.
[12] نهى اللّه عز و جل عن كثير من الظن السيّء بالمؤمنين، حيث قال: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، و ذلك كالظن الخالي من الحقيقة و القرينة، و كظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، و الأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، و يفعل ما لا ينبغي. و في ذلك أيضا إساءة الظن بالمسلم، و بغضه، و عداوته المأمور بخلافها منه. وَ لا تَجَسَّسُوا ، أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، و لا تتبعوها، و دعوا المسلم على حاله، و استعملوا التغافل عن زلاته، الّتي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و الغيبة كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ذكرك أخاك بما يكره و لو كان فيه». ثمّ ذكر مثلا منفرا عن الغيبة، فقال: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ، شبه أكل لحمه ميتا، المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، خصوصا إذا كان ميتا، فاقد الروح، فكذلك، فلتكرهوا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 968
غيبته و أكل لحمه حيّا. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ، و التواب: الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثمّ يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، و قبل منهم التوبة، و في هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، و أنها من الكبائر، لأن اللّه شبهها بأكل لحم الميت، و ذلك من الكبائر.
[13] يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، و جنس واحد، و كلهم من ذكر و أنثى، و يرجعون جميعهم إلى آدم و حواء، و لكن اللّه تعالى بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و فرقهم، و جعلهم شعوبا و قبائل، أي: قبائل صغارا و كبارا، و ذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنه لو استقل كلّ واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر و التعاون و التوارث، و القيام بحقوق الأقارب، و لكن اللّه جعلهم شعوبا و قبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور و غيرها مما يتوقف على التعارف، و لحوق الأنساب، و لكن الكرم بالتقوى. فأكرمهم عند اللّه أتقاهم، و هو أكثرهم طاعة، و انكفافا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة و قوما، و لا أشرفهم نسبا. و لكن اللّه تعالى عليم خبير، يعلم منهم من يقوم بتقوى اللّه، ظاهرا و باطنا، فيجازي كلّا بما يستحق. و في هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة، لأن اللّه جعلهم شعوبا و قبائل لأجل ذلك.
[14] يخبر تعالى عن مقالة بعض الأعراب الّذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخولا من غير بصيرة، و لا قيام بما يجب و يقتضيه الإيمان، أنهم مع هذا ادعوا و قالوا: آمنا، أي: إيمانا كاملا، مستوفيا لجميع أموره، فأمر اللّه رسوله، أن يرد عليهم، فقال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، أي: لا تدّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهرا و باطنا، كاملا. وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، أي: دخلنا في الإسلام، و اقتصروا على ذلك. وَ السبب في ذلك، أنه لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ و إنما أسلمتم خوفا أو رجاء أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم. و في قوله: وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ، أي: وقت هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيرا منهم منّ اللّه عليهم بالإيمان الحقيقي، و الجهاد في سبيل اللّه. وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بفعل خير، أو ترك شر لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، أي: لا ينقصكم منها مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها، أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيرا و لا كبيرا. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، أي: غفور لمن تاب إليه و أناب، رحيم به، حيث قبل توبته.
[15] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ، أي: على الحقيقة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أي: من جمعوا بين الإيمان باللّه و رسوله، و الجهاد في سبيله. فإن من جاهد الكفار، دل ذلك على الإيمان التام في قلبه؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام، و الإيمان، و القيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى و أحرى؛ و لأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه. و شرط تعالى في الإيمان عدم الريب، أي: الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر اللّه بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه. و قوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، أي: الّذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم
تيسير الكريم الرحمن، ص: 969
الجميلة، فإن الصدق دعوى عظيمة في كلّ شيء يحتاج صاحبه إلى حجة و برهان. و أعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، و الفوز الأبدي، و الفلاح السرمدي، فمن ادعاه و قام بواجباته و لوازمه، فهو الصادق المؤمن حقا، و من لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه، و ليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا اللّه تعالى.
[16] فإثباته و نفيه من باب تعليم اللّه بما في القلب، و هو سوء أدب، و ظن باللّه، و لهذا قال: قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) و هذا شامل للأشياء كله، الّتي من جملتها ما في القلوب من الإيمان و الكفران، و البر و الفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله، و يجازي عليه، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر. هذه حالة من أحوال من ادّعى لنفسه الإيمان، و ليس به، فإنه إما أن يكون ذلك تعليما، و قد علم أنه عالم بكل شيء، و إما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنّة على رسوله، و أنهم قد بذلوا و تبرعوا بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، و هذا تجمّل بما لا يجمل، و فخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله، فإن المنة للّه تعالى عليهم.
[17] فكما أنه تعالى هو المانّ عليهم بالخلق و الرزق، و النعم الظاهرة و الباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، و منته عليهم بالإيمان، أفضل من كلّ شيء، و لهذا قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17).
[18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ، أي: الأمور الخفية فيها، الّتي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، و مهامه القفار، و ما جنّه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، و حبّات الرمال، و مكنونات الصدور، و خبايا الأمور. وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ . وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، يحصي عليكم أعمالكم، و يوفيكم إياها، و يجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة، و حكمته البالغة. تم تفسير سورة الحجرات بعون اللّه و منّه و جوده و كرمه، و الحمد للّه.
تفسير سورة ق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقسم تعالى بالقرآن المجيد، أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات، و المجد: سعة الأوصاف و عظمتها. و أحق كلام يوصف بذلك، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين و الآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، و من الألفاظ أجزلها، و من المعاني أعمها و أحسنها، و هذا موجب
تيسير الكريم الرحمن، ص: 970
لكمال اتباعه و سرعة الانقياد له، و شكر اللّه على المنة به.
[2] و لكن أكثر الناس، لا يقدر نعم اللّه قدرها، و لهذا قال تعالى: بَلْ عَجِبُوا ، أي: المكذبون للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ منهم، أي: ينذرهم ما يضرهم، و يأمرهم بما ينفعهم، و هو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، و معرفة أحواله و صدقه. فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل، من تعجب منه. فَقالَ الْكافِرُونَ ، أي: الّذين حملهم كفرهم و تكذيبهم، لا نقص بذكائهم و آبائهم. هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أي: مستغرب، و هم في هذا الاستغراب، بين أمرين: إما صادقون في استغرابهم و تعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، و ضعف عقولهم.
بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، و بمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، و بمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ و هل تعجبه إلا دليل على زيادة جهله و ظلمه؟ و إما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم و أشنعه.
[3] ثمّ ذكر وجه تعجبهم، فقال: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)، فقاسوا قدرة من هو على كلّ شيء قدير، الكامل من كلّ وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز. من جميع الوجوه، و قاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شيء عليم.
[4] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ، أي: من أجسادهم مدة مقامهم في البرزخ، و قد أحصي في كتابه. وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ، أي: محفوظ عن التغيير و التبديل، بكل ما يجري عليهم في حياتهم، أو مماتهم، و هذا الاستدلال بكمال سعة علمه- الّتي لا يحيط بها إلا هو- على قدرته على إحياء الموتى.
[5] أي: بَلْ كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد و تكذيب، فقد كَذَّبُوا بِالْحَقِ الذي هو أعلى أنواع الصدق لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، و لا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، و تارة مجنون، و تارة شاعر. و كذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه، ما اقتضاه رأيه الفاسد، و هكذا كلّ من كذب بالحقّ، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجه و لا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة. كما أن من اتبع الحقّ و صدق به، قد استقام أمره، و اعتدل سبيله، و صدق فعله قيله.
[6] لما ذكر تعالى حالة المكذبين، و ما ذمهم به، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية، كي يعتبروا، و يستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه، فقال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ، أي: لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة و شد رحل، بل هو في غاية السهولة. فينظروا كَيْفَ بَنَيْناها قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مزينة بالنجوم الخنس، و الجواري الكنس، الّتي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن و الملاحة، لا ترى فيها عيبا، و لا فروجا، و لا خلالا، و لا إخلالا. قد جعلها اللّه سقفا لأهل الأرض، و أودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.