کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1016

مستقيم على أمر اللّه، و لهذا قال: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏ ، أي: الّذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، مع إيمانهم بعيسى، كلّ أعطاه اللّه على حسب إيمانه‏ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ‏ ، أي: مكذبون بمحمد، و خارجون عن الطاعة و الطريق المستقيم.

[28] و هذا الخطاب، يحتمل أنه خطاب لأهل الكتاب الّذين آمنوا بموسى و عيسى عليهما السّلام، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم، بأن يتقوا اللّه فيتركوا معاصيه، و يؤمنوا برسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم اللّه‏ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ‏ ، أي: نصيبين من الأجر. نصيب على إيمانهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و يحتمل أن يكون الأمر عاما يدخل فيه أهل الكتاب و غيرهم و هذا هو الظاهر، و أن اللّه أمرهم بالإيمان و التقوى الذي يدخل فيه جميع الدين، ظاهره و باطنه، و أصوله و فروعه، و أنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم، أعطاهم‏ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ‏ لا يعلم قدرهما و لا وصفهما إلا اللّه تعالى. أجر على الإيمان، و أجر على التقوى، و أجر على امتثال الأوامر، و أجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى.

وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏ ، أي: يعطيكم علما و هدى، و نورا تمشون به في ظلمات الجهل، و يغفر لكم السيئات. وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏ فلا يستغرب كثرة هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عم فضله أهل السماوات و الأرض، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين، و لا أقل من ذلك.

[29] و قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏ ، أي: بينا لكم فضلنا و إحساننا لمن آمن إيمانا عاما، و اتقى اللّه، و آمن برسوله، لأجل أن يكون عند أهل الكتاب علم، بأنهم لا يقدرون على شي‏ء من فضل اللّه، أي: لا يحجرون على اللّه، بحسب أهوائهم و عقولهم الفاسدة، فيقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ ، و يتمنون على اللّه الأماني الفاسدة. فأخبر اللّه تعالى المؤمنين برسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، المتقين للّه أن لهم كفلين من رحمته، و نورا، و مغفرة، رغما عن أنوف أهل الكتاب. و ليعلموا وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله‏ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏ الذي لا يقادر قدره. تم تفسير سورة الحديد- و للّه الحمد و المنة.

تفسير سورة المجادلة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار، اشتكته زوجته إلى اللّه، و جادلته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1017

حرمها على نفسه، بعد الصحبة الطويلة، و الأولاد، و كان هو رجلا شيخا كبيرا. فشكت حالها و حاله إلى اللّه، و إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كررت ذلك، و أبدت فيه و أعادت. فقال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، أي: تخاطبكما فيما بينكما. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ‏ لجميع الأصوات، في جميع الأوقات، على تفنن الحاجات. بَصِيرٌ يبصر دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. و هذا إخبار عن كمال سمعه و بصره، و إحاطتهما بالأمور الدقيقة و الجليلة، و في ضمن ذلك الإشارة بأن اللّه سيزيل شكواها و بلواها، و لهذا ذكر حكمها، و حكم غيرها على وجه العموم، فقال:

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ‏ . المظاهرة من الزوجة: أن يقول الرجل لزوجته: «أنت عليّ كظهر أمي»، أو غيرها من محارمه، أو:

«أنت عليّ حرام»، و كان المعتاد عندهم في هذا اللفظ «الظهر» و لهذا سماه اللّه «ظهارا» فقال:

[2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ‏ ، أي: كيف يتكلمون بهذا الكلام، الذي يعلمون أنه لا حقيقة له، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم؟ و لهذا عظم اللّه أمره، و قبحه، فقال: وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً ، أي: قولا شنيعا، و كذبا. وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ عمن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح.

[3] وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ، اختلف العلماء في معنى العود، فقيل: معناه العزم على جماع من ظاهر منها، و أنه بمجرد عزمه، تجب عليه الكفارة المذكورة، و يدل على هذا أن اللّه تعالى ذكر في الكفارة، أنها تكون قبل المسيس، و ذلك إنّما يكون بمجرد العزم، و قيل: معناه حقيقة الوطء، و يدل عليه أن اللّه قال: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ، و الذي قالوا إنّما هو الوطء. و على كلّ من القولين (ف) إذا وجد العود، صار كفارة هذا التحريم تحرير رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كما قيدت في آية القتل، ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من العيوب الضارة بالعمل.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ، أي: يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته الّتي ظاهر منها، حتى يكفر برقبة. ذلِكُمْ‏ الحكم الذي ذكرناه لكم، تُوعَظُونَ بِهِ‏ ، أي: يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب و الترهيب، فالذي يريد أن يظاهر، إذا ذكر أن عليه عتق رقبة، كف نفسه عنه. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازي كلّ عامل بعمله.

[4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة يعتقها، بأن لم يجدها، أ و لم يجد ثمنها (ف) عليه صيام‏ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ‏ الصيام‏ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً . إما أن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم، كما هو قول كثير من المفسرين. و إما أن يطعم كلّ مسكين مدّ برّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطر كما هو قول طائفة أخرى. ذلِكَ‏ الحكم الذي بيناه لكم، و وضحناه‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ و ذلك بالتزام هذا الحكم و غيره من الأحكام و العمل به. فإن التزام أحكام اللّه، و العمل بها من الإيمان، بل هي المقصودة، و يزداد بها الإيمان، و يكمل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1018

و ينمو. وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ‏ الّتي تمنع من الوقوع فيها، فيجب أن لا تتعدى و لا يقصر عنها. وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ و في هذه الآيات عدة أحكام: منها: لطف اللّه بعباده، و اعتناؤه بهم، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة، و أزالها، و رفع عنها البلوى، بل رفع البلوى بحكمه العام، عن كلّ من ابتلي بمثل هذه القضية. و منها: أن الظهار مختص بتحريم الزوجة، لأن اللّه قال: مِنْ نِسائِهِمْ‏ . فلو حرم أمته، لم يكن ظهارا بل هو من جنس تحريم الطيبات، كالطعام و الشراب، تجب فيه كفارة اليمين فقط. و منها: أن لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار، كما لا يصح طلاقها، سواء نجّز ذلك، أو علّقه. و منها: أن الظهار محرم، لأن اللّه سماه‏ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً . و منها: تنبيه اللّه على الحكم و حكمته، لأن اللّه قال: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ‏ . و منها: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته و يدعوها باسم محارمه، كقوله:

«يا أمي»، «يا أختي» و نحو ذلك، لأن ذلك يشبه المحرم.

و منها: أن الكفارة إنّما تجب بالعود لما قال المظاهر، على اختلاف القولين السابقين، لا بمجرد الظهار. و منها: أنه يجزى‏ء في كفارة الرقبة، الصغير و الكبير، و الذكر و الأنثى، لإطلاق الآية في ذلك. و منها: أنه يجب إخراجها إذا كانت عتقا أو صياما، قبل المسيس، كما قيده اللّه. بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس و الوطء في أثنائها.

منها: أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، و علم أنه لا يمكّن من ذلك إلا بعد الكفارة، بادر إلى إخراجها. و منها: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا، فلو جمع طعام ستين مسكينا، و دفعه لواحد أو أكثر من ذلك، دون الستين لم يجز، لأن اللّه قال: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً .

[5] محادة اللّه و رسوله: مخالفتهما و معصيتهما خصوصا في الأمور الفظيعة، كمحادة اللّه و رسوله بالكفر، معاداة أولياء اللّه. و قوله: كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ ، أي: أذلوا و أهينوا، كما فعل بمن قبلهم، جزاء وفاقا.

ليس لهم حجة على اللّه، فإن اللّه قد قامت حجته البالغة على الخلق، و قد أنزل من الآيات البينات، و البراهين ما عين الحقائق، و يوضح المقاصد، فمن اتبعها و عمل عليها، فهو من المهتدين الفائزين. وَ لِلْكافِرِينَ‏ بها عَذابٌ مُهِينٌ‏ أي: يهينهم و يذلهم. فكما تكبروا عن آيات اللّه، أهانهم اللّه و أذلهم.

[6] يقول اللّه تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ‏ ، أي: يوم يبعث اللّه الخلق‏ جَمِيعاً فيقومون من أجداثهم سريعا فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من خير و شر، لأنه علم ذلك، و أَحْصاهُ اللَّهُ‏ ، أي: كتبه في اللوح المحفوظ، و أمر ملائكة الكرام الحفظة بكتابته. هذا وَ العاملون قد نَسُوهُ‏ ، أي: نسوا ما عملوه و اللّه أحصى ذلك. وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ على الظواهر و السرائر، و الخبايا و الخفايا، و لهذا أخبر عن سعة علمه و إحاطته بما في السماوات و الأرض من دقيق و جليل.

[7] و أنه‏ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ، و المراد بهذه المعية: معية العلم و الإحاطة، بما تناجوا به و أسروه فيما بينهم، و لهذا قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ .

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1019

[8- 9] ثم قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ‏ ، إلى:

تُحْشَرُونَ‏ . النجوى هي: التناجي بين اثنين فأكثر، و قد تكون في الخير، و تكون في الشر. فأمر اللّه المؤمنين أن يتناجوا بالبر، و هو: اسم جامع لكل خير و طاعة، و قيام بحق اللّه، و حق عباده، و التقوى، و هي- هنا-: اسم جامع لترك جميع المحارم و المآثم. فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي، فلا تجده مناجيا و متحدثا، إلا بما يقربه إلى اللّه، و يباعده من سخطه. و الفاجر يتهاون بأمر اللّه و يناجي بالإثم و العدوان، و معصية الرسول، كالمنافقين الّذين هذا دأبهم و حالهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلم. قال تعالى: وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏ ، أي: يسيئون الأدب في تحيتهم لك. وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ‏ ، أي: يسرون فيها ما ذكر عالم الغيب و الشهادة عنهم، و هو قولهم: لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ‏ . و معنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك، و يستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم، أن ما يقولونه غير محذور. و قال تعالى في بيان أنه يمهل و لا يهمل: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، أي: تكفيهم جهنم، الّتي جمعت كلّ عذاب و شقاء عليهم، تحيط بهم، و يعذبون بها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، أي: المرجع و المآل: جهنم. و هؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين، يظهرون الإيمان، و يخاطبون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا، و هم كذبة في ذلك، و إما أناس من أهل الكتاب، الّذين سلموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قالوا: «السام عليك يا محمد» يعنون: الموت.

[10] يقول تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى‏ ، أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر و الخديعة و طلب السوء، مِنَ الشَّيْطانِ‏ ، الذي كيده ضعيف. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، هذا غاية هذا المكر و مقصوده. وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏ فإن اللّه وعد المؤمنين بالكفاية، و النصر على الأعداء، و قال تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏ .

فأعداء اللّه و رسوله و المؤمنين، مهما تناجوا و مكروا فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم، و لا يضر المؤمنين إلا شي‏ء قدره اللّه و قضاه. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏ ، أي: ليعتمدوا عليه، و يثقوا بوعده، فإن من توكل على اللّه كفاه كيد الأعداء، و كفاه أمر دينه و دنياه.

[11] هذا أدب من اللّه لعباده، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، و احتاج بعضهم، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. و ليس ذلك بضار للفاسح شيئا، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه، و الجزاء من جنس العمل، فإن من فسح لأخيه، فسح اللّه له، و من وسع لأخيه، وسع اللّه عليه. وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا ، أي: ارتفعوا و تنحوا عن مجالسكم، لحاجة تعرض.

فَانْشُزُوا أي: فبادورا للقيام لتحصيل تلك المصلحة. فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم و الإيمان، و اللّه تعالى يرفع أهل العلم و الإيمان، درجات بحسب ما خصهم به من العلم و الإيمان. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر. و في هذه الآية فضيلة العلم و أن زينته و ثمرته التأدب بآدابه، و العمل بمقتضاه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1020

[12] يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم تأديبا لهم، و تعليما، و تعظيما للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين و أطهر. أي: بذلك يكثر خيركم و أجركم، و تحصل لكم الطهارة من الأدناس، الّتي من جملتها ترك احترام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و الأدب معه بكثرة المناجاة الّتي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته، صار هذا ميزانا، لمن كان حريصا على العلم و الخير، فلا يبالي بالصدقة. و من لم يكن له حرص و لا رغبة في الخير، و إنّما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد للصدقة. و أما الذي لا يجد الصدقة، فإن اللّه لم يضيق عليه الأمر، بل عفا عنه و سامحه، و أباح له المناجاة بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها.

[13] ثمّ لما رأى تعالى شفقة المؤمنين، و مشقة الصدقات عليهم، عند كلّ مناجاة، سهل الأمر عليهم، و لم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة و بقي التعظيم للرسول و الاحترام بحاله، لم ينسخ؛ لأن هذا من باب المشروع لغيره، ليس مقصودا لنفسه و إنّما المقصود هو الأدب مع الرسول و الإكرام له. و أمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها، فقال: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ، أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، و لا يكفي هذا فإنه ليس من شرط الأمر، أن يكون هينا على العبد، و لهذا قيده بقوله: وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏ ، أي: عفا لكم عن ذلك. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بأركانها و شروطها، و جميع حدودها، و لوازمها. وَ آتُوا الزَّكاةَ المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها.

و هاتان العبادتان، هما أم العبادات البدنية و المالية، فمن قام بهما على الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق اللّه، و حقوق عباده، و لهذا قال بعده: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ ، و هذا أشمل ما يكون من الأوامر. فيدخل في ذلك طاعة اللّه و طاعة رسوله بامتثال أوامرهما، و اجتناب نواهيهما، و تصديق ما أخبرا به، و الوقوف عند حدود الشرع. و العبرة في ذلك على الإخلاص و الإحسان، فلهذا قال: وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ فيعلم تعالى أعمالهم، و على أي وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.

[14] يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الّذين يتولون الكافرين، من اليهود و النصارى و غيرهم ممن غضب اللّه عليهم، و نالوا من لعنة اللّه أوفى نصيب، و أنهم ليسوا من المؤمنين و لا من الكافرين، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ . فليسوا مؤمنين ظاهرا و باطنا لأن باطنهم مع الكفار، و لا مع الكفار ظاهرا و باطنا لأن ظاهرهم مع المؤمنين، و هذا وصفهم الذي نعتهم اللّه به، و الحال أنهم يحلفون على الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، و الحال أنهم ليسوا مؤمنين. فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن اللّه أعد لهم عذابا شديدا، لا يقادر قدره، و لا يعلم وصفه، و إنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما يسخط اللّه، و يوجب لهم العقوبة و اللعنة.

[16] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، أي: ترسا و وقاية، يتقون بها من لوم اللّه و رسوله و المؤمنين، فبسبب ذلك، صدوا أنفسهم و غيرهم‏ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ عن سبيل اللّه، و هو الصراط الذي من سلكه، أفضى به إلى جنات النعيم، و من صدّ عنه، فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ‏ حيث إنهم لما استكبروا عن‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1021

الإيمان باللّه، و الانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب السرمدي، الذي لا يفتّر عنهم ساعة، و لا هم ينظرون.

[17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، أي: لا تدفع عنهم شيئا من العذاب، و لا تحصل لهم قسطا من الثواب. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، الّذين لا يخرجون عنها. هُمْ فِيها خالِدُونَ‏ و من عاش على شي‏ء، مات عليه.

[18] فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين، و يحلفون لهم أنهم مؤمنين، فإذا كان يوم القيامة و بعثهم اللّه جميعا، حلفوا للّه كما حلفوا للمؤمنين، و يحسبون في حلفهم هذا أنهم على شي‏ء، لأن كفرهم، و نفاقهم، و عقائدهم الباطلة، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا، حتى غرتهم و ظنوا أنهم على شي‏ء يعتد به، و يعلق عليه الثواب، و هم كاذبون في ذلك. و من المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب و الشهادة.

[19] و هذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم، و زين لهم أعمالهم، و أنساهم ذكر اللّه، و هو العدو المبين، الذي لا يريد بهم إلا الشر، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ . أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ ، الّذين خسروا دينهم و دنياهم و أهليهم.

[20- 21] هذا وعد و وعيد، وعيد لمن حادّ اللّه و رسوله بالكفر و المعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، و لا راية له منصورة. و وعد، لمن آمن به، و برسله، و اتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب اللّه المفلحين، أن لهم الفتح و النصر و الغلبة، في الدنيا و الآخرة، و هذا وعد لا يخلف، و لا يغيّر، فإنه من الصادق القوي العزيز، الذي لا يعجزه شي‏ء يريده.

[22] يقول تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ ، أي: لا يجتمع هذا و هذا، فلا يكون العبد مؤمنا باللّه و اليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملا على مقتضى إيمانه و لوازمه، من محبة من قام بالإيمان و موالاته، و بغض من لم يقم به و معاداته، و لو كان أقرب الناس إليه. و هذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته، و المقصود منه. و أهل هذا الوصف هم الّذين كتب اللّه في قلوبهم الإيمان، أي: رسمه و ثبّته، و غرسه غرسا، لا يتزلزل، و لا تؤثر فيه الشبه و الشكوك. و هم الّذين قواهم اللّه بروح منه، أي: بوحيه و معرفته و مدده الإلهي، و إحسانه الرباني. و هم الّذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، و لهم جنات النعيم في دار القرار، الّتي فيها كلّ ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و تختار، و لهم أفضل النعيم و أكبره، و هو أن اللّه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، و يرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، و وافر المثوبات، و جزيل الهبات، و رفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، و لا وراءه نهاية. و أما من يزعم أنه يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و هو مع ذلك موادّ لأعداء اللّه، محب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعميّ، لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئا، و لا يصدق صاحبها. تم تفسير سورة المجادلة- و الحمد للّه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1022

تفسير سورة الحشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ هذه السورة تسمى «سورة بني النصير» و هم طائفة كبيرة من اليهود، في جانب المدينة، وقت بعثة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و هاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فهادن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم طوائف اليهود، الّذين هم جيرانه في المدينة. فلما كان بعد وقعة بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و كلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين، الّذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا، حتى نقضي حاجتك. فخلا بعضهم ببعض، و سوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتأمروا على قتله صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، فيصعد، فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فو اللّه ليخبرن بما هممتم به، و إنه لنقض للعهد الذي بيننا و بينه. و جاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما عموا به. فنهض مسرعا، فتوجّه إلى المدينة، و لحقه أصحابه، فقالوا: نهضت، و لم نشعر بك. فأخبرهم بما همت يهود به. و بعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أن اخرجوا من المدينة و لا تساكنوني بها، و قد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه». فأقاموا أياما يتجهزون، و أرسل إليهم المنافق عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول: (أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، و تنصركم قبيلة قريظة و حلفاؤكم من غطفان). و طمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، و بعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، و نهضوا إليهم، و علي بن أبي طالب يحمل اللواء. و أقاموا على حصونهم يرمون بالنبال و الحجارة. و اعتزلتهم قريظة، و خانهم ابن أبي، و حلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قطع نخلهم و حرّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم و ذراريهم، و أن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، الأموال و السلاح. و كانت بنو النضير خالصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لنوائبه، و مصالح المسلمين، و لم يخمسها، لأن اللّه فاءها عليه، و لم يوجف المسلمون عليها، بخيل و لا ركاب، و أجلاهم إلى خيبر، و فيهم حيي بن أخطب كبيرهم، و استولى على أرضهم و ديارهم، و قبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، و خمسين بيضة، و ثلاثمائة و أربعين سيفا. هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.

[1] فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات و الأرض، تسبح بحمد ربها، و تنزهه عما لا يليق بجلاله، و تعبده، و تخضع لعظمته، لأنه العزيز الذي قد قهر كلّ شي‏ء، فلا يمتنع عليه شي‏ء، و لا يستعصي عليه عسير. الحكيم في خلقه و أمره، فلا يخلق شيئا عبثا، و لا يشرع ما لا مصلحة فيه، و لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته.

صفحه بعد