کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

جامع البيان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

مقدمة المؤلف

(القول فى البيان عن اتفاق معانى آي القرآن و معانى منطق من نزل بلسانه من وجه البيان و الدلالة على أن ذلك من الله جل و عز هو الحكمة البالغة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام) (القول فى البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب و ألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم) (القول فى اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب) القول فى البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة و ذكر الاخبار المروية بذلك القول فى الوجوه التي من قبلها يوصل الى معرفة تأويل القرآن ذكر بعض الاخبار التي رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى ذكر بعض الاخبار التي رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن و من كان يفسره من الصحابة ذكر بعض الاخبار التي غلط فى تأويلها منكر و القول فى تأويل القرآن ذكر الاخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير و من كان منهم مذموما علمه بذلك (القول فى تاويل أسماء القرآن و سوره و آيه) القول فى تأويل أسماء فاتحة الكتاب القول فى تأويل الاستعاذة
تفسير سورة الفاتحة تفسير سورة البقرة

جامع البيان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 44

فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. و أما ما خصهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم و الكرامة التي تقصر عنها الأَماني.

و أما القول الآخر في تأويله، فهو ما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال:

حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ ، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، و هو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، و البعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. و كذلك أسماؤه كلها. و هذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم، و إن كان لقوله و الرحمن من المعنى ما ليس لقوله" الرحيم"؛ لأَنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رق عليه، و معنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به. و القول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس؛ و إن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، و أن للرحيم تأويلا غير تأويل الرحمن. و القول الثالث في تأويل ذلك، ما: حدثني به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال:

حدثنا أبو الأَزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الخراساني‏ ، يقول: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم. و الذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة و هو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يسمى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره؛ و إنما تسمى بعض خلقه إما رحيما، أو يتسمى رحمن، فأما" رحمن رحيم"، فلم يجتمعا قط لأَحد سواه، و لا يجمعان لأَحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه و اسم غيره من خلقه، اختلف معناهما أو اتفقا. و الذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما. و قد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن و لم يكن ذلك في لغتها؛ و لذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه و سلم: وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا إنكارا منهم لهذا الاسم. كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ‏ يعني محمدا كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ‏ و هم مع ذلك به مكذبون، و لنبوته جاحدون. فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته و استحكمت لديهم معرفته. و قد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها

ألا قضب الرحمن ربي يمينها

و قال سلامة بن جندل الطهوي:

عجلتم علينا عجلتينا عليكم‏

و ما يشاء الرحمن يعقد و يطلق‏

و قد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، و قلت روايته لأَقوال السلف من‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 45

أهل التفسير، أن" الرحمن" مجازه" ذو الرحمة"، و" الرحيم" مجازه" الراحم". ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ و المعنى واحد، و ذلك لاتساع الكلام عندهم. قال و قد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان و نديم. ثم استشهد بقول برج بن مسهر الطافي:

و ندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت وقت تغورت النجوم‏

و استشهد بأبيات نظائر له في النديم و الندمان. ففرق بين معنى الرحمن و الرحيم في التأويل، لقوله:

الرحمن ذو الرحمة، و الرحيم: الراحم. و إن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الأَلفاظ. و لا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة و صح أنها له صفة، و أن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. و لا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الأَلفاظ و اتفاق المعاني؟ و لكن القول إذا كان على غير أصل معتمد عليه كان واضح عواره. و إن قال لنا قائل: و لم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، و اسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم؟ قيل: لأَن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يتبعوه صفاته و نعوته. و هذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته و صفته، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك، و كان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، و ذلك مثل" الله"، و" الرحمن" و" الخالق"؛ و اسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها التسمية بأسماء الله، و ذلك كالرحيم، و السميع، و البصير، و الكريم، و ما أشبه ذلك من الأَسماء؛ كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد و التمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله؛ لأَن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، و لا من جهة المعنى. و ذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود، و لا معبود غيره جل جلاله، و أن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، و إن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد و هو شقي، و بحسن و هو قبيح. أو لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه: أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ‏ فاستكبر ذلك من المقر به، و قال تعالى في خصوصية نفسه بالله و بالرحمن: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ثم ثنى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به، و إن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه؛ و ذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة، و غير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه؛ فلذلك جاء الرحمن ثانيا لاسمه الذي هو" الله". و أما اسمه الذي هو" الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. و الرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الأَمر على ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الأَسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأَسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو" الله" على اسمه الذي هو" الرحمن"، و اسمه الذي هو" الرحمن" على اسمه الذي هو" الرحيم". و قد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا، أنه من‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 46

أسماء الله التي منع التسمي بأسماء الله بها لعباده. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن‏ ، قال: التسمي بأسماء الله الرحمن اسم ممنوع. مع أن في إجماع الأَمة من منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن و غيره. القول في تأويل فاتحة الكتاب‏

قال أبو جعفر: معنى: الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما نعبد من دونه، و دون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد و لا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، و تمكين جوارح أجسام المكلفين لأَداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق و غذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه، و مع ما نبههم عليه و دعاهم إليه من الأَسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربنا الحمد على ذلك كله أولا و أخرا. و بما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره و تقدست أسماؤه: الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ جاء الخبر عن ابن عباس و غيره: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال:

حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد:" قل يا محمد: الحمد لله". قال ابن عباس:

الحمد لله: هو الشكر، و الاستخذاء لله، و الإِقرار بنعمته و هدايته و ابتدائه، و غير ذلك. و حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير و كانت له صحبة قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: " إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك". قال: الحكم بن عمير و قد قيل إن قول القائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ ثناء على الله بأسمائه و صفاته الحسنى، و قوله:" الشكر لله" ثناء عليه بنعمه و أياديه. و قد روي عن كعب الأَحبار أنه قال:" الحمد لله" ثناء على الله. و لم يبين في الرواية عنه من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك. حدثنا يونس بن عبد الأَعلى الصدفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب‏ قال: من قال:" الحمد لله" فذلك ثناء على الله. و حدثني علي بن الحسن الخراز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأَسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه و سلم‏ قال:" ليس شي‏ء أحب إليه الحمد من الله تعالى، و لذلك اثنى على نفسه فقال: الحمد لله". قال أبو جعفر: و لا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل: الحمد لله شكرا بالصحة. فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا، أن الحمد لله قد ينطق به في موضع الشكر، و أن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لأَن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا، فيخرج من قول القائل" الحمد لله" مصدر" أشكر"، لأَن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه و غير لفظه. فإن قال لنا قائل: و ما وجه إدخال الأَلف و اللام في الحمد؟ و هلا قيل: حمدا لله رب العالمين قيل: إن لدخول الأَلف و اللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل" حمدا"، بإسقاط الأَلف و اللام؛ و ذلك أن دخولهما في الحمد منبئ على أن معناه: جميع المحامد و الشكر الكامل لله. و لو أسقطتا منه لما دل إلا على أن حمد قائل ذلك لله، دون المحامد كلها. إذ كان معنى قول القائل:" حمدا لله" أو" حمد لله": أحمد الله حمدا، و ليس التأويل في قول القائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ تاليا سورة أم القرآن أحمد الله، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته و إنعامه‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 47

على خلقه، بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كف‏ء لها في الدين و الدنيا و العاجل و الآجل. و لذلك من المعنى، تتابعت قراءة القراءة و علماء الأَمة على رفع الحمد من: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدا. و لو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي محيلا معناه و مستحقا العقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك و هو عالم بخطئه و فساد تأويله. فإن قال لنا قائل: و ما معنى قوله: الحمد لله؟ أحمد الله نفسه جل ثناؤه فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك كما قال و وصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و هو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما. قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه؛ و لكنه جل ذكره حمد نفسه و أثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده و فرض عليهم تلاوته، اختبارا منه لهم و ابتلاء، فقال لهم: قولوا و الحمد لله رب العالمين" و قولوا:" إياك نعبد و إياك نستعين"؛ فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ مما علمهم جل ذكره أن يقولوه و يدينوا له بمعناه. و ذلك موصول بقوله‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و كأنه قال: قولوا هذا و هذا. فإن قال: و أين قوله:" قولوا" فيكون تأويل ذلك ما ادعيت؟ قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة و لم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت، حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، و لا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولا أو تأويل قول، كما قال الشاعر:

و أعلم أنني لا أكون رمسا

إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم‏

فقال المخبرون لهم وزير

قال أبو جعفر: يريد بذلك: فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط" الميت"، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك. و كذلك قول الآخر:

و رأيت زوجك في الوغى‏

متقلدا سيفا و رمحا

و قد علم أن الرمح لا يتقلد، و إنما أراد: و حاملا رمحا. و لكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. و قد يقولون للمسافر إذا ودعوه: مصاحبا معافى، يحذفون سر و اخرج؛ إن كان معلوما معناه و إن أسقط ذكره. فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ لما علم بقوله جل و عز: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ما أراد بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف. و قد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تفسير قول الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ عن ابن عباس، و أنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: الحمد لله رب العالمين. و بينا أن جبريل إنما علم محمدا ما أمر بتعليمه إياه. و هذا الخبر ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: رَبِ‏ قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو" الله" في" بسم الله"، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع. و أما تأويل قوله" رب"، فإن الرب في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى ربا، و من ذلك قول لبيد بن ربيعة:

و أهلكن يوما رب كندة و ابنه‏

و رب معد بين خبت و عرعر

يعني رب كندة: سيد كندة. و منه قول نابغة بني ذبيان:

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 48

تخب إلى النعمان حتى تناله‏

فدى لك من رب تليدى و طارفى‏

و الرجل المصلح للشي‏ء يدعى ربا. و منه قول الفرزدق بن غالب:

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت‏

سلاءها في أديم غير مربوب‏

يعني بذلك في أديم غير مصلح. و من ذلك قيل: إن فلانا يرب صنيعته عند فلان، إذا كان يحاول إصلاحها و إدامتها. و من ذلك قول علقمة بن عبدة:

فكنت امرأ أفضت إليك ربابتي‏

و قبلك ربتني فضعت ربوب‏

يعنى بقوله أفضت إليك: أي أوصلت إليك ربابتي، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك علي، فضيعوا أمري و تركوا تفقده. و هم الربوب و أحدهم رب؛ و المالك للشي‏ء يدعى ربه. و قد يتصرف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة. ف رب نا جل ثناؤه، السيد الذي لا شبه له، و لا مثل في سؤدده، و المصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، و المالك الذي له الخلق و الأَمر. و بنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ جاءت الرواية عن ابن عباس‏ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن سارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد:" يا محمد قل الحمد لله رب العالمين". قال ابن عباس: يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات كلهن و من فيهن، و الأَرضون كلهن و من فيهن و ما بينهن، مما يعلم و مما لا يعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شي‏ء.

القول في تأويل قوله تعالى: الْعالَمِينَ‏ قال أبو جعفر: و العالمون جمع عالم، و العالم جمع لا واحد له من لفظه، كالأَنام و الرهط و الجيش و نحو ذلك من الأَسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه. و العالم اسم لأَصناف الأَمم، و كل صنف منها عالم، و أهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن و ذلك الزمان، فالإِنس عالم و كل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. و الجن عالم، و كذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه. و لذلك جمع فقيل" عالمون"، و واحده جمع لكون عالم كل زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. و من ذلك قول العجاج:

فخندف هامة هذا العالم‏

فجعلهم عالم زمانه. و هذا القول الذي قلناه قول ابن عباس و سعيد بن جبير، و هو معنى قول عامة المفسرين. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس‏ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات و الأَرض و من فيهن و ما بينهن، مما يعلم و لا يعلم. و حدثني محمد بن سنان القزاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس‏ : رَبِّ الْعالَمِينَ‏ : الجن و الإِنس. و حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏ ، في قول الله جل و عز: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: رب الجن و الإِنس. و حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبير، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ، قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: الجن و الإِنس. و حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: ابن أدم، و الجن و الإِنس كل أمة منهم عالم على‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 49

حدته. و حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال:

الإِنس و الجن. و حدثنا أحمد بن إسحاق الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد : بمثله. و حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة : رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: كل صنف: عالم. و حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية ، في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: الإِنس عالم، و الجن عالم، و ما سوى ذلك ثمانية عشر الف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم و هو يشك من الملائكة على الأَرض، و للأَرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم و خمسمائة عالم، خلقهم لعبادته. و حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج‏ ، في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال:

الجن و الإِنس. القول في تأويل قوله تعالى‏

: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، في تأويل‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، فأغني ذلك عن إعادته في هذا الموضع. و لم يحتج إلى الإِبانة عن وجه تكرير الله ذلك في هذا الموضع، إذ كنا لا نرى أن‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ من فاتحة الكتاب آية القراءة، فيكون علينا لسائل مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، و قد مضى وصف الله عز وجل به نفسه في قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، مع قرب مكان إحدى الآَيتين من الأَخرى و مجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجة على خطأ دعوى من ادعى أن" بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب آية، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بمعنى واحد و لفظ واحد مرتين من غير فصل يفصل بينهما. و غير موجود في شي‏ء من كتاب الله آيتان متجاورتان مكررتان بلفظ واحد و معنى واحد، لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما، و إنما يأتي بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فصول تفصل بين ذلك، و كلام يعترض به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، و لا فاصل بين قول الله تبارك و تعالى اسمه‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ من‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، و قول الله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، من‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ . فإن قال قائل: فإن" الحمد لله رب العالمين" فاصل بين ذلك. قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، و قالوا: إن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، و إنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين ملك يوم الدين. و استهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله:

ملك يوم الدين فقالوا: إن قوله: ملك يوم الدين تعليم من الله عبده أن يصفه بالملك في قراءة من قرأ ملك، و بالملك في قراءة من قرأ" مالك". قالوا: فالذي هو أولى أن يكون مجاور وصفه بالملك أو الملك ما كان نظير ذلك من الوصف، و ذلك هو قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ، الذي هو خبر من ملكه جميع أجناس الخلق، و أن يكون مجاور وصفه بالعظمة و الألوهة ما كان له نظيرا في المعني من الثناء عليه، و ذلك قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ فزعموا أن ذلك لهم دليل على أن قوله‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ بمعنى التقديم قبل‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ، و إن كان في الظاهر مؤخرا. و قالوا: نظائر ذلك من التقديم الذي هو بمعنى التأخير و المؤخر الذي هو بمعنى التقديم في كلام العرب أفشى و في منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطية:

طاف الخيال و أين منك لماما

فارجع لزورك بالسلام سلاما

بمعنى طاف الخيال لماما و أين هو منك. و كما قال جل ثناؤه في كتابه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 50

الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما لم يجعل له عوجا، و ما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهد على صحة قول من أنكر أن تكون" بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب آية. القول في تأويل قوله تعالى:

ملك قال أبو جعفر: القراء مختلفون في تلاوة ملك يوم الدين، فبعضهم يتلوه:" ملك يوم الدين"، و بعضهم يتلوه:" مالك يوم الدين" و بعضهم يتلوه:

" مالك يوم الدين" بنصب الكاف. و قد استقصينا حكاية الرواية عمن روى عنه في ذلك قراءة في" كتاب القراءات"، و أخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، و العلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها. و لا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن الملك من" الملك" مشتق، و أن المالك من" الملك" مأخوذ. فتأويل قراءة من قرأ ذلك: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك و يدافعونه الانفراد بالكبرياء و العظمة و السلطان و الجبرية. فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأَذلة، و أن له دونهم و دون غيرهم الملك و الكبرياء و العزة و البهاء، كما قال جل ذكره و تقدست أسماؤه في تنزيله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة و صغار، و من دنياهم في المعاد إلى خسار. و أما تأويل قراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ فما: حدثنا به أبو كريب، قال:

صفحه بعد