کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

جامع البيان فى تفسير القرآن

الجزء الأول

مقدمة المؤلف

(القول فى البيان عن اتفاق معانى آي القرآن و معانى منطق من نزل بلسانه من وجه البيان و الدلالة على أن ذلك من الله جل و عز هو الحكمة البالغة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام) (القول فى البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب و ألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم) (القول فى اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب) القول فى البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة و ذكر الاخبار المروية بذلك القول فى الوجوه التي من قبلها يوصل الى معرفة تأويل القرآن ذكر بعض الاخبار التي رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى ذكر بعض الاخبار التي رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن و من كان يفسره من الصحابة ذكر بعض الاخبار التي غلط فى تأويلها منكر و القول فى تأويل القرآن ذكر الاخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير و من كان منهم مذموما علمه بذلك (القول فى تاويل أسماء القرآن و سوره و آيه) القول فى تأويل أسماء فاتحة الكتاب القول فى تأويل الاستعاذة
تفسير سورة الفاتحة تفسير سورة البقرة

جامع البيان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 48

تخب إلى النعمان حتى تناله‏

فدى لك من رب تليدى و طارفى‏

و الرجل المصلح للشي‏ء يدعى ربا. و منه قول الفرزدق بن غالب:

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت‏

سلاءها في أديم غير مربوب‏

يعني بذلك في أديم غير مصلح. و من ذلك قيل: إن فلانا يرب صنيعته عند فلان، إذا كان يحاول إصلاحها و إدامتها. و من ذلك قول علقمة بن عبدة:

فكنت امرأ أفضت إليك ربابتي‏

و قبلك ربتني فضعت ربوب‏

يعنى بقوله أفضت إليك: أي أوصلت إليك ربابتي، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك علي، فضيعوا أمري و تركوا تفقده. و هم الربوب و أحدهم رب؛ و المالك للشي‏ء يدعى ربه. و قد يتصرف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة. ف رب نا جل ثناؤه، السيد الذي لا شبه له، و لا مثل في سؤدده، و المصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، و المالك الذي له الخلق و الأَمر. و بنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ جاءت الرواية عن ابن عباس‏ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن سارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد:" يا محمد قل الحمد لله رب العالمين". قال ابن عباس: يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات كلهن و من فيهن، و الأَرضون كلهن و من فيهن و ما بينهن، مما يعلم و مما لا يعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شي‏ء.

القول في تأويل قوله تعالى: الْعالَمِينَ‏ قال أبو جعفر: و العالمون جمع عالم، و العالم جمع لا واحد له من لفظه، كالأَنام و الرهط و الجيش و نحو ذلك من الأَسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه. و العالم اسم لأَصناف الأَمم، و كل صنف منها عالم، و أهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن و ذلك الزمان، فالإِنس عالم و كل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. و الجن عالم، و كذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه. و لذلك جمع فقيل" عالمون"، و واحده جمع لكون عالم كل زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. و من ذلك قول العجاج:

فخندف هامة هذا العالم‏

فجعلهم عالم زمانه. و هذا القول الذي قلناه قول ابن عباس و سعيد بن جبير، و هو معنى قول عامة المفسرين. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس‏ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات و الأَرض و من فيهن و ما بينهن، مما يعلم و لا يعلم. و حدثني محمد بن سنان القزاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس‏ : رَبِّ الْعالَمِينَ‏ : الجن و الإِنس. و حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏ ، في قول الله جل و عز: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: رب الجن و الإِنس. و حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبير، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ، قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: الجن و الإِنس. و حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: ابن أدم، و الجن و الإِنس كل أمة منهم عالم على‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 49

حدته. و حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال:

الإِنس و الجن. و حدثنا أحمد بن إسحاق الأَهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد : بمثله. و حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة : رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: كل صنف: عالم. و حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية ، في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال: الإِنس عالم، و الجن عالم، و ما سوى ذلك ثمانية عشر الف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم و هو يشك من الملائكة على الأَرض، و للأَرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم و خمسمائة عالم، خلقهم لعبادته. و حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج‏ ، في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ قال:

الجن و الإِنس. القول في تأويل قوله تعالى‏

: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، في تأويل‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، فأغني ذلك عن إعادته في هذا الموضع. و لم يحتج إلى الإِبانة عن وجه تكرير الله ذلك في هذا الموضع، إذ كنا لا نرى أن‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ من فاتحة الكتاب آية القراءة، فيكون علينا لسائل مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، و قد مضى وصف الله عز وجل به نفسه في قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، مع قرب مكان إحدى الآَيتين من الأَخرى و مجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجة على خطأ دعوى من ادعى أن" بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب آية، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بمعنى واحد و لفظ واحد مرتين من غير فصل يفصل بينهما. و غير موجود في شي‏ء من كتاب الله آيتان متجاورتان مكررتان بلفظ واحد و معنى واحد، لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما، و إنما يأتي بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فصول تفصل بين ذلك، و كلام يعترض به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، و لا فاصل بين قول الله تبارك و تعالى اسمه‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ من‏ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، و قول الله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ، من‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ . فإن قال قائل: فإن" الحمد لله رب العالمين" فاصل بين ذلك. قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، و قالوا: إن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، و إنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين ملك يوم الدين. و استهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله:

ملك يوم الدين فقالوا: إن قوله: ملك يوم الدين تعليم من الله عبده أن يصفه بالملك في قراءة من قرأ ملك، و بالملك في قراءة من قرأ" مالك". قالوا: فالذي هو أولى أن يكون مجاور وصفه بالملك أو الملك ما كان نظير ذلك من الوصف، و ذلك هو قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ، الذي هو خبر من ملكه جميع أجناس الخلق، و أن يكون مجاور وصفه بالعظمة و الألوهة ما كان له نظيرا في المعني من الثناء عليه، و ذلك قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ فزعموا أن ذلك لهم دليل على أن قوله‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ بمعنى التقديم قبل‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ، و إن كان في الظاهر مؤخرا. و قالوا: نظائر ذلك من التقديم الذي هو بمعنى التأخير و المؤخر الذي هو بمعنى التقديم في كلام العرب أفشى و في منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطية:

طاف الخيال و أين منك لماما

فارجع لزورك بالسلام سلاما

بمعنى طاف الخيال لماما و أين هو منك. و كما قال جل ثناؤه في كتابه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 50

الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما لم يجعل له عوجا، و ما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهد على صحة قول من أنكر أن تكون" بسم الله الرحمن الرحيم" من فاتحة الكتاب آية. القول في تأويل قوله تعالى:

ملك قال أبو جعفر: القراء مختلفون في تلاوة ملك يوم الدين، فبعضهم يتلوه:" ملك يوم الدين"، و بعضهم يتلوه:" مالك يوم الدين" و بعضهم يتلوه:

" مالك يوم الدين" بنصب الكاف. و قد استقصينا حكاية الرواية عمن روى عنه في ذلك قراءة في" كتاب القراءات"، و أخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، و العلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها. و لا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن الملك من" الملك" مشتق، و أن المالك من" الملك" مأخوذ. فتأويل قراءة من قرأ ذلك: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك و يدافعونه الانفراد بالكبرياء و العظمة و السلطان و الجبرية. فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأَذلة، و أن له دونهم و دون غيرهم الملك و الكبرياء و العزة و البهاء، كما قال جل ذكره و تقدست أسماؤه في تنزيله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة و صغار، و من دنياهم في المعاد إلى خسار. و أما تأويل قراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ فما: حدثنا به أبو كريب، قال:

حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قال: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و قال: وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ‏ ، و قال: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ قال أبو جعفر: و أولى التأويلين بالآية و أصح القراءتين في التلاوة عندي التأويل الأَول و هي قراءة من قرأ" ملك" بمعنى" الملك"؛ لأَن في الإِقرار له بالانفراد بالملك إيجابا لانفراده بالملك و فضيلة زيادة الملك على المالك، إذ كان معلوما أن لا ملك إلا و هو مالك، و قد يكون المالك لا ملكا. و بعد: فإن الله جل ذكره قد أخبر عباده في الآية التي قبل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ أنه مالك جميع العالمين و سيدهم، و مصلحهم و الناظر لهم، و الرحيم بهم في الدنيا و الآخرة؛ بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ فإذ كان جل ذكره قد أنبأهم عن ملكه إياهم كذلك بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ فأولى الصفات من صفاته جل ذكره، أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة و المجاورة، إذ كانت حكمته الحكمة التي لا تشبهها حكمة. و كان في إعادة وصفه جل ذكره بأنه مالك يوم الدين، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ مع تقارب الآيتين و تجاوز الصفتين. و كان في إعادة ذلك تكرار ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كرر منه فائدة به إليها حاجة. و الذي لم يحوه من صفاته جل ذكره ما قبل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ المعنى الذي في قوله: و" ملك يوم الدين"، و هو وصفه بأنه الملك. فبين إذا أن أولى القراءتين بالصواب و أحق التأويلين بالكتاب: قراءة من قرأه:" ملك يوم الدين"، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ بمعنى: أنه يملك الحكم بينهم و فصل القضاء متفردا به دون سائر خلقه. فإن ظن ظان أن قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 51

دون الآخرة يوجب وصله بالنبإ عن نفسه أنه قد ملكهم في الآخرة على نحو ملكه إياهم في الدنيا بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ فقد أغفل و ظن خطأ؛ و ذلك أنه لو جاز لظان أن يظن أن قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ محصور معناه على الخبر عن ربوبية عالم الدنيا دون عالم الآخرة مع عدم الدلالة على أن معنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبر عن الرسول صلى الله عليه و سلم به منقول، أو بحجة موجودة في المعقول، لجاز لآخر أن يظن أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ دون سائر ما يحدث بعده في الأَزمنة الحادثة من العالمين، إذ كان صحيحا بما قد قدمنا من البيان أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده. فإن غبى عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا ذو غباء، فإن في قول الله جل ثناؤه:

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ‏ دلالة واضحة على أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي كان قبله و عالم الزمان الذي بعده. إذ كان الله جل ثناؤه قد فضل أمة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على سائر الأَمم الخالية، و أخبرهم بذلك في قوله:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏ الآية. فمعلوم بذلك أن بني إسرائيل في عصر نبينا، لم يكونوا مع تكذيبهم به صلى الله عليه و سلم أفضل العالمين، بل كان أفضل العالمين في ذلك العصر و بعده إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتبعون منهاجه، دون من سواهم من الأَمم المكذبة الضالة عن منهاجه. فإذ كان بينا فساد تأويل متأول لو تأول قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ أنه معني به: أن الله رب عالمي زمن نبينا محمد صلى الله عليه و سلم دون عالمي سائر الأَزمنة غيره، كان واضحا فساد قول من زعم أن تأويله: رب عالم الدنيا دون عالم الآخرة، و أن مالك يوم الدين استحق الوصل به ليعلم أنه في الآخرة من ملكهم و ربوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا. و يسأل زاعم ذلك الفرق بينه و بين متحكم مثله في تأويل قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ تحكم، فقال: أنه إنما عني بذلك أنه رب عالمي زمان محمد دون عالمي غيره من الأَزمان الماضية قبله و الحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول أنه عنى به عالم الدنيا دون عالم الآخرة من أصل أو دلالة. فلن يقول في أحدهما شيئا إلا الزم في الآخر مثله. و أما الزاعم أن تأويل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ أنه الذي يملك إقامة يوم الدين، فإن الذي الزمنا قائل هذا القول الذي قبله له لازم، إذ كانت إقامة القيامة إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك في الدار التي أعد الله لهم فيها ما أعد.

و هم العالمون الذين قد أخبر جل ذكره عنهم أنه ربهم في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و أما تأويل ذلك في قراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصبه بنيه النداء و الدعاء، كما قال جل ثناؤه:

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا بتأويل: يا يوسف أعرض عن هذا. و كما قال الشاعر من بني أسد، و هو شعر فيما يقال جاهلي:

إن كنت أزننتني بها كذبا

جزء، فلاقيت مثلها عجلا

يريد: يا جزء. و كما قال الآخر:

كذبتم و بيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصر و تحلب‏

يريد: يا بني شاب قرناها. و إنما أورطه في قراءه ذلك بنصب الكاف من" مالك" على المعنى الذي وصفت حيرته في توجيه قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ وجهته مع جره: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و خفضه، فطن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ فنصب:" مالك يوم الدين" ليكون‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ له خطابا، كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، و إياك نستعين. و لو كان علم تأويل أول السورة و أن" الحمد لله رب‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 52

العالمين"، أمر من الله عبده بقيل ذلك كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عباس: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم، عن الله: قل يا محمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و قل أيضا يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و كان عقل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، و تخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب؛ لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب و المخاطب، كقولهم للرجل: قد قلت لأَخيك: لو قمت لقمت، و قد قلت لأَخيك:

لو قام لقمت؛ لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و من نظير" مالك يوم الدين" مجرورا، ثم عوده إلى الخطاب ب" إياك نعبد" لما ذكرنا قبل، البيت السائر من شعر أبي كبير الهذلي:

يا لهف نفسي كان جلدة خالد

و بياض وجهك للتراب الأَعفر

فرجع إلى الخطاب بقوله:" و بياض وجهك"، بعد ما قد قضى الخبر عن خالد على معنى الخبر عن الغائب. و منه قول لبيد بن ربيعة:

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

و قد حملتك سبعا بعد سبعينا

فرجع إلى مخاطبة نفسه، و قد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب. و منه قول الله و هو أصدق قيل و أثبت حجة: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، و لم يقل:" و جرين بكم". و الشواهد من الشعر و كلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى، و فيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. فقراءة:" مالك يوم الدين" محظورة غير جائزة، لإِجماع جميع الحجة من القراء و علماء الأَمة على رفض القراءة بها. القول في تأويل قوله تعالى: يَوْمِ الدِّينِ‏ قال أبو جعفر:

و الدين في هذا الموضع بتأويل الحساب و المجازاة بالأَعمال، كما قال كعب بن جعيل:

إذا ما رمونا رميناهم‏

و دناهم مثل ما يقرضونا

و كما قال الآخر:

و اعلم و أيقن أن ملكك زائل‏

و اعلم بأنك ما تدين تدان‏

يعني ما تجزي تجازى. و من ذلك قول الله جل ثناؤه: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ‏ يعني بالجزاء وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ‏ يحصون ما تعملون من الأَعمال. و قوله تعالى: فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏ يعني غير مجزيين بأعمالكم و لا محاسبين. و للدين معان في كلام العرب غير معنى الحساب و الجزاء سنذكرها في أماكنها إن شاء الله. و بما قلنا في تأويل قوله: يَوْمِ الدِّينِ‏ جاءت الآثار عن السلف من المفسرين، مع تصحيح الشواهد لتأويلهم الذي تأولوه في ذلك. حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ : يَوْمِ الدِّينِ‏ قال: يوم حساب الخلائق هو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير و إن شرا فشر، إلا من عفا عنه، فالأَمر أمره. ثم قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، فال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن أبي مالك، و عن أبي صالح، عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، و عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم‏ : ملك يوم الدين: هو يوم الحساب.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 53

قال: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. و حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال:

حدثني حجاج، عن ابن جريج‏ : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ قال: يوم يدان الناس بالحساب. القول في تأويل قوله تعالى:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ قال أبو جعفر: و تأويل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ اللهم نخشع، و نذل، و نستكين، إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ ، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه و سلم: قل يا محمد: إياك نعبد، إياك نوحد و نخاف و نرجو يا ربنا لا غيرك. و ذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا، و إنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع، و نذل، و نستكين، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو و نخاف، و إن كان الرجاء و الخوف لا يكونان إلا مع ذلة؛ لأَن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، و أنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأَقدام و ذللته السابلة: معبدا. و من ذلك قول طرفة بن العبد:

تباري عتاقا ناجيات و أتبعت‏

وظيفا وظيفا فوق مور معبد

يعني بالمور: الطريق، و بالمعبد: المذلل الموطوء. و من ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد، و منه سمي العبد عبدا لذلته لمولاه. و الشواهد من أشعار العرب و كلامها على ذلك أكثر من أن تحصى، و فيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ قال أبو جعفر: و معنى قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و إياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك و طاعتنا لك و في أمورنا كلها لا أحد سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأَوثان دونك، و نحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة. كالذي: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس‏ : وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ قال: إياك نستعين على طاعتك و على أمورنا كلها. فإن قال قائل: و ما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته؟ أو جائز و قد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا و هو على قوله ذلك معان، و ذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟ قيل: إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه؛ و إنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته، دون ما قد تقضى و مضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. و جازت مسألة العبد ربه ذلك لأَن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأَداء ما كلفه من طاعته و افترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه، و لطف منه لطف له فيه؛ و ليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته و انصرافه عن محبته، و لا في بسطه فضله على بعضهم مع إجهاد العبد نفسه في محبته و مسارعته إلى طاعته، فساد في تدبير و لا جور في حكم، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله، و أمره عبده بمسألته عونه على طاعته. و في أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر

جامع البيان فى تفسير القرآن، ج‏1، ص: 54

أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه المعونة على فعله و على تركه. و لو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا؛ لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته، إذ كان على قولهم مع وجود الأَمر و النهي و التكليف حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك؛ بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. و لو كان الأَمر في ذلك على ما قالوا، لكن القائل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ إنما يسأل ربه أن لا يجور. و في إجماع أهل الإِسلام جميعا على تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك؛ و تخطئتهم قول القائل: اللهم لا تجر علينا، دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم، إن كان تأويل قول القائل عندهم: اللهم إنا نستعينك، اللهم لا تترك معونتنا التي ترككها جور منك. فإن قال قائل: و كيف قيل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ فقدم الخبر عن العبادة، و أخرت مسألة المعونة عليها بعدها؟ و إنما تكون العبادة بالمعونة، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل و العبادة بها. قيل: لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه، و كان محالا أن يكون العبد عابدا إلا و هو على العبادة معان، و أن يكون معانا عليها إلا و هو لها فاعل؛ كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها: قضيت حاجتي فأحسنت إلي، فقدمت ذكر قضائه حاجتك. أو قلت: أحسنت إلي فقضيت حاجتي، فقدمت ذكر الإِحسان على ذكر قضاء الحاجة؛ لأَنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا و هو إليك محسن، و لا محسنا إليك إلا و هو لحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك، و قوله: اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد. قال أبو جعفر: و قد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القيس:

و لو أن ما أسعى لأَدنى معيشة

كفاني و لم أطلب قليل من المال‏

صفحه بعد