کتابخانه تفاسیر
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 141
- يلاحظ أن هذه الأوامر و النواهي جاءت في سياق الخطاب لبني إسرائيل، ثم يلاحظ أن بقية المقطع كانت إما في تعليل صدور هذه الأوامر و النواهي، أو في دروس تعطى لهذه الأمة من خلال ذلك بما يعمق ضرورة الالتزام بهذه المعاني جميعا، ثم يلاحظ من خلال دراسة سورة البقرة، أن هذه الأوامر و النواهي أحد اثنين إما شىء قد طولبنا به من قبل، أو شىء سنطالب به فيما بعد:
فمثلا في مقدمة سورة البقرة و المقطعين بعدها عرفنا قضية الإيمان و الصلاة و الزكاة و عدم نقض الميثاق، و وصل ما أمر الله به أن يوصل. و عدم الإفساد في الأرض و ألا نبيع دين الله بشىء من الدنيا، و كل ذلك قد جاء بصيغة الأمر و النهي لبني إسرائيل هنا.
و سنرى فيما يأتي في السورة أمرا لنا بالاستعانة بالصبر و الصلاة، و تحذيرا لنا من كتمان شىء مما أنزل الله، و تعريفا لنا على البر، و كان ذلك مما صدرت فيه الأوامر و النواهي لبني إسرائيل، و من ثم ندرك أن هذا المقطع الذي يتوجه فيه الخطاب لبني إسرائيل هو بمثابة التهييج لنا على تنفيذ ما سبق، و بمثابة التأسيس لما سنطالب به فيما يأتي من السورة.
- كنا قلنا من قبل: إن المقطع الثالث يتألف: من مدخل و فصلين. المدخل و قد رأيناه، و الفصل الأول ينتهي في الآية (74). و هو يتألف من فقرتين الفقرة الأولى: لها صلة بقوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. و الفقرة الثانية: لها صلة بقوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
و الفصل الثاني له صلة بقوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
و هكذا نجد أن الفصلين اللاحقين للمدخل في هذا المقطع، إنما هما بمثابة تعليل لهذه الأوامر و النواهي التي صدرت لبني إسرائيل مع إعطاء الدروس للأمة الإسلامية خلال ذلك لتعرف أن لها الإمامة بحق، و أن عليها ألا تقع في خطأ السير في طريق المغضوب عليهم و الضالين. و لعل القارىء بهذا و بما مر أدرك الصلة بين هذا المقطع و ما قبله و ما بعده، و لا زال في هذا الموضوع كلام فلننتقل إلى الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع.
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 142
[الفصل الاول]
الفقرة الأولى من الفصل الأول:
تمتد هذه الفقرة من الآية (47) إلى نهاية الآية (62) و هذه هي:
[سورة البقرة (2): الآيات 47 الى 62]
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 144
كلمة في هذه الفقرة:
تقص علينا هذه الفقرة نماذج من نعم الله على بني إسرائيل: من تفضيلهم على عالم زمانهم، و من إنجائهم من فرعون، و من إنزال التوراة عليهم، و من قبول توبتهم من بعد ما عبدوا العجل، و من إحيائهم بعد ما أماتهم عقوبة لهم، و من تظليل الغمام على آبائهم و إنزال المن و السلوى، و من فتح بعض البلدان عليهم، و من سقيهم ماء بشكل معجز، و من إباحة لما طلبوه مما اشتهته أنفسهم. و لكن هذا التذكير بالنعم يأتي في طيه تذكير بمواقفهم الخائنة مع وجود هذه النعم. بل تستقر الفقرة على ذكر العقوبات الكبرى من ضرب الذلة و المسكنة عليهم، و رجوعهم بغضب الله، إلا من كان منهم مؤمنا يعمل الصالحات، و ذلك للإشعار بأنه لا أحد له دالة على الله إذا خالف. و ذلك درس لنا أيتها الأمة و توطئة لما سيأتي بعد من دروس أخرى؛ من خلالها يتعمق في نفوس هذه الأمة: أنه لا ينبغي أن يكون في قلوب أبنائها شعور بأي نوع من أنواع الأستاذية لليهود عليها فضلا عن غيرهم. نلحظ هذا من قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
و كان جل جلاله في الفاتحة علمنا أن ندعوه: ... غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
لقد كان بعض الذين لهم احتكاك ببعض الأديان السابقة، يرون لأهل هذه الأديان ميزة يظهر ذلك من بعض التعبيرات التي وردت على ألسنة بعض الأنصار رضوان الله عليهم، و يظهر ذلك في أن قريشا في بعض الأحوال سألت بعض أهل الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و يظهر ذلك في أن خديجة نفسها رضي الله عنها استفسرت عما حدث لرسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار بأن سألت ورقة بن نوفل، و إذ جاء الإسلام تقريرا للحق و تصحيحا لكل التصورات و المعتقدات الفاسدة و من جملتها معتقدات و تصورات أهل الكتاب، فلا بد من أن يحرر المسلمون من مشاعر التبعية للآخرين، و لا بد أن يربوا على الأستاذية للآخرين، و من ثم فإن هذا المقطع يخدم في جملة ما يخدم في هذا الشأن، و هذه الفقرة تضع أساسا في ذلك.
تفسير الفقرة:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ يتجه الخطاب مرة ثانية إلى بني إسرائيل بذكر النعم التي أنعمها على آبائهم و أسلافهم. وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ : أي فضلهم على سائر الأمم من أهل زمانهم بإرسال الرسل منهم و إنزال
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 145
الكتب عليهم. قال أبو العالية في تفسيرها: «بما أعطوا من الملك و الرسل و الكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما» أقول: هذا فهم بعض أهل التفسير لظاهر التفضيل، و القرآن قد أطلق التفضيل و من ثم فقد يكون التفضيل لهم على غيرهم مع اشتراك غيرهم معهم في مثل ما ذكر من الأسباب. و تفضيلهم على العالمين من أعظم نعمه عليهم، و لكنه خص بالأمر بالتذكر، بعد الأمر بتذكر النعم، لأهمية ذلك، فالعقلية اليهودية منطبع فيها أن اليهود شعب الله المختار مهما فعلوا و مهما أساءوا و مهما أفسدوا، و أن هذه صفة أبدية لهم مهما كفروا و مهما عصوا، و لذلك فإنه يذكر بهذه النعمة ابتداء بين يدي تعداد النعم الذي في طياته التأنيب على الانحراف، ليستقر ذلك على العقوبة الأبدية لهم إن لم يراجعوا أنفسهم في الولوج في حمى الأمة المرحومة أبدا، إن ذكر ذلك على انفراد كما قلنا له أهميته الخاصة.
و بعد هذا التذكير المجمل بالنعم و بالتفضيل يتجه الخطاب إليهم بالتذكير بالآخرة .. وَ اتَّقُوا يَوْماً. أي: يوم القيامة الذي من صفاته: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً. أي: لا يغني أحد عن أحد، فلا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من الحقوق التي لزمتها وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة فهو كقوله تعالى في سورة المدثر: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فهذا أبلغ رد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، و على النصارى الذين يزعمون أن عيسى يحمل عنهم خطاياهم، و على أمثالهم، ممن كفر بعد إيمان. و تشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة من المؤمنين مردود بالنصوص كما سنرى لأن المنفي شفاعة الكفار وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ : أي لا يقبل منها فداء، فالعدل هنا الفدية و البدل وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا أحد يعينهم و لا أحد يغضب لهم فينصرهم و ينقذهم من عذاب الله، قال ابن جرير: «يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع و لا يقبل منهم عدل و لا فدية، بطلت هنالك المحاباة، و اضمحلت الرشا و الشفاعات، و ارتفع من القوم التناصر و التعاون و صار الحكم إلى الجبار، العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء و النصراء، فيجزي بالسيئة مثلها و بالحسنة أضعافها. أقول: و في تذكيرهم باليوم الآخر و بعض قوانينه الصارمة بعد أمرهم بتذكر النعم و تفضيلهم إشعار لهم أنهم مكلفون و محاسبون، و أن ذلك يقتضي منهم شكرا لا بطرا، و طاعة لا معصية، قياما بحق الله لا فرارا منه. و هذا يدلنا على أن السياق ... سياق تذكير و تأنيب و دعوة، و هي في النهاية إعطاء دروس لهذه الأمة، ألا تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى.
و للأسف فإن الكثيرين من أبناء أمتنا واقعون فيما وقع فيه اليهود في سيرهم الطويل كما
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 146
سنرى،
ثم بعد الأمر بتذكر النعم و تذكر التفضيل و بعد الأمر بتوقي عذاب اليوم الآخر تتجه الفقرة إلى تذكيرهم بنعم الله الكبرى عليهم واحدة فواحدة، و كل نعمة تذكر، يصدر التذكير بها بقوله تعالى وَ إِذْ فيكون التقدير: و اذكروا إذ، فحيثما وردت إِذْ فيما يأتي فإنها أمر بتذكر نعمة. و من ثم فما بقي من الفقرة فهو أمر بتذكر النعم تفصيلا بعد الأمر بتذكرها إجمالا و الملاحظ أن بعض النعم التي ذكروا بها كانت من نوع قبول التوبة بعد انحراف خطير يذكر، و أن بعضها ذكر و ذكر ما رافقه من انحراف، فكان ذلك كله تمهيدا لاستحقاقهم العقوبة الأبدية لهم و هي:
وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ : و التي لا مخرج لهم منها إلا بمتابعة محمد صلى الله عليه و سلم، و في ذلك كله دروس لهذه الأمة تحذرها من أن تفعل ما فعلوا:
يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ خلصتكم و أنقذتكم من أيدي فرعون و قومه، و قد كانوا يوردونكم و يذيقونكم و يولونكم سوء العذاب بذبح الأبناء و إبقاء البنات للخدمة، و في ذلك تعريض العرض للفتنة و في ذلك محنة عظيمة لكم فتذكروا الخلاص منها. (و الآل) بمعنى: الأهل، و خص استعماله بأولي الخطر، كالملوك و أشباههم، و فرعون علم على من ملك مصر قديما ككسرى لملك الفرس، و سامه بمعنى: أولاه. و سوء العذاب: أشده و أفظعه. و البلاء: يطلق على النعمة و النقمة على حسب تقدير اشتقاقه، و ههنا يصلح للوجهين فإن أشير به إلى صنع فرعون كان المراد به المحنة، و إن أشير به إلى الإنجاء كان نعمة، و جمهور المفسرين على أن البلاء هنا المراد به المحنة.
2- وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أمروا بتذكر هذه النعم استقلالا، مع أنها جزء من نعمة الخروج من مصر، لما في كل منها من نعمة عظيمة، يذكرهم تعالى كيف أنه بعد أن أنقذهم من آل فرعون و خرجوا مع موسى خرج فرعون في طلبهم ففرق الله بهم البحر فخلصهم منهم و حجز بينهم و بينه و أغرقه مع من معه و بنو إسرائيل ينظرون، ليكون ذلك أشفى لصدورهم و أبلغ لإهانة عدوهم. و معنى فَرَقْنا فصلنا بين بعض و بعض حتى صارت فيه مسالك لكم
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 147
و قد بقي يوم الإنجاء مشهورا عند بني إسرائيل يعظمونه. فقد روى البخاري و مسلم و النسائي و ابن ماجه و الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله- عز و جل- فيه بني إسرائيل من عدوهم؛ فضامه موسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر بصومه.
يذكرهم تعالى قائلا: و اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، و كان ذلك بعد خلاصهم من فرعون و إنجائهم من البحر.
و الضمير في مِنْ بَعْدِهِ يعود على موسى و التقدير من بعد ذهابه إلى الطور إذ اتخذوا العجل إلها و عبدوه. فههنا ذكرهم بنعمة العفو عنهم على فظاعة الجرم الذي ارتكبوه و هم حديثو عهد بالخروج و معجزاته.
4- وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. الكتاب: التوراة و الفرقان: ما يفرق بين الحق و الباطل، و هو هنا: إما الآيات التي أعطيها موسى كالعصا و اليد، أو الشرع الفارق بين الحلال و الحرام؛ فهذه نعمة رابعة أنعمها عليهم أنه أنزل عليهم كتابا ليهتدوا بهديه.
في هذه الآية توبة الله على بني إسرائيل من عبادة العجل، فلم تقبل التوبة إلا بأن قتل بعضهم بعضا، و مع شدة هذا فإن الله يمن عليهم أن تاب عليهم و قبل توبتهم، و البارىء هو: الخالق الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، و التواب هو: المفضال بقبول التوبة مرة بعد مرة و لو كثرت الذنوب و اسم الرحيم في هذا السياق يشير إلى معنى: أن رحمته من السعة بحيث يعفو عن الذنب و إن عظم إذا تاب صاحبه، و أي ذنب أعظم من الشرك؟