کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم

الجزء الحادي عشر

فهرس المجلد الحادي عشر من روح المعاني

الجزء الثاني عشر

الفهرس

الجزء الثالث عشر

فهرس المجلد الثالث عشر من روح المعاني

الجزء الرابع عشر

فهرس المجلد الرابع عشر من روح المعاني

الجزء الخامس عشر

فهرس المجلد الخامس عشر من روح المعاني

الجزء السادس عشر

الفهارس العامة

فهرس الآيات المفسرة

تفسير سورة البقرة تفسير سورة آل عمران تفسير سورة النساء تفسير سورة المائدة تفسير سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة يوسف تفسير سورة الرعد تفسير سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر تفسير سورة النحل تفسير سورة الإسراء تفسير سورة الكهف تفسير سورة مريم تفسير سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة القصص تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة تفسير سورة الأحزاب تفسير سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة ص تفسير سورة الزمر تفسير سورة المؤمن تفسير سورة فصلت تفسير سورة الشورى تفسير سورة الزخرف تفسير سورة الدخان تفسير سورة الجاثية تفسير سورة الأحقاف تفسير سورة محمد صلى الله عليه و سلم تفسير سورة الفتح تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق تفسير سورة الذاريات تفسير سورة الطور تفسير سورة و النجم تفسير سورة القمر تفسير سورة الرحمن عز و جل تفسير سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف تفسير سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم تفسير سورة الحاقة تفسير سورة المعارج تفسير سورة نوح تفسير سورة الجن تفسير سورة المزمل تفسير سورة المدثر تفسير سورة القيامة تفسير سورة الإنسان تفسير سورة المرسلات تفسير سورة النبأ تفسير سورة النازعات تفسير سورة عبس تفسير سورة التكوير تفسير سورة الانفطار تفسير سورة المطففين تفسير سورة الانشقاق تفسير سورة البروج تفسير سورة الطارق تفسير سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد تفسير سورة الشمس تفسير سورة الليل تفسير سورة الضحى تفسير سورة الشرح تفسير سورة التين تفسير سورة العلق تفسير سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة تفسير سورة التكاثر تفسير سورة العصر تفسير سورة الهمزة تفسير سورة الفيل تفسير سورة قريش تفسير سورة الماعون تفسير سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون تفسير سورة النصر تفسير سورة تبت تفسير سورة الإخلاص تفسير سورة الفلق تفسير سورة الناس

فهرس آيات الشواهد

سورة الفاتحة سورة البقرة سورة آل عمران سورة النساء سورة المائدة سورة الأنعام سورة الأعراف سورة الأنفال سورة التوبة سورة يونس سورة هود سورة يوسف سورة الرعد سورة إبراهيم سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف سورة مريم سورة طه سورة الأنبياء سورة الحج سورة المؤمنون سورة النور سورة الفرقان سورة الشعراء سورة النمل سورة القصص سورة العنكبوت سورة الروم سورة لقمان سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ سورة فاطر سورة يس سورة الصافات سورة ص سورة الزمر سورة غافر سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد سورة الفتح سورة الحجرات سورة ق سورة الذاريات سورة الطور سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة سورة الحديد سورة المجادلة سورة الحشر سورة الممتحنة سورة الصف سورة الجمعة سورة المنافقون سورة التغابن سورة الطلاق سورة التحريم سورة الملك سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن سورة المزمل سورة المدثر سورة القيامة سورة النبأ سورة المرسلات سورة الإنسان سورة النازعات سورة عبس سورة التكوير سورة الانفطار سورة المطففين سورة الانشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى سورة الغاشية سورة الفجر سورة البلد سورة الشمس سورة الليل سورة الضحى سورة الشرح سورة التين سورة العلق سورة القدر سورة البينة سورة الزلزلة سورة العاديات سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر سورة الهمزة سورة الفيل سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر سورة الكافرون سورة النصر سورة المسد سورة الإخلاص سورة الفلق سورة الناس

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم


صفحه قبل

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 309

و التكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير و التأكيد، و لذلك كرر قوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ‏ ، و قيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ‏ إلخ. أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة و فيما مر ما يفتريه الأحبار، و يؤيده الفصل بينهما.

أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏ أي الحرام من سحته إذا استأصلته، و سمي الحرام سحتا- عند الزجاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال و البوار، و قال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، و قال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، و المراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، و روي ذلك عن ابن عباس و الحسن.

و

أخرج عبد بن حميد و غيره عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول اللّه و ما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم»

و

أخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد اللّه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: هدايا الأمراء سحت»

و أخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه: أ رأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا، و لكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه و منزلة، و يكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية، و

أخرج عبد بن حميد عن علي كرم اللّه تعالى وجهه‏ أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر، و أخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك،

و

أخرج ابن مردويه و الديلمي عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: ست خصال من السحت:

رشوة الإمام- و هي أخبث ذلك كله- و ثمن الكلب و عسب الفحل و مهر البغي و كسب الحجام و حلوان الكاهن»،

و عدّ ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه في رواية ابن منصور و البيهقي عنه أشياء أخر.

قيل: و لعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، و

جاء من طرق عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم‏ «أنه لعن الراشي و المرتشي و الرائش الذي يمشي بينهما».

و لتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا- ظل اللّه تعالى على الخليقة و مجدد نظام رسوم الشريعة و الحقيقة- السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان اللّه تعالى- حيثما كان في السنة الرابعة و الخمسين بعد الألف و المائتين- بمؤاخذة المرتشي و أخويه على أتم وجه، و حد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء،

فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ، و النجش بالصدقة، و السحت بالهدية، و القتل بالموعظة يقتلون البري‏ء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما».

هذا و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب «السحت» بضمتين، و هما لغتان- كالعنق و العنق.

و قرى‏ء «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين‏ فَإِنْ جاؤُكَ‏ خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح‏ فَإِنْ جاؤُكَ‏ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات‏ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ‏ بما أراك اللّه تعالى‏ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏ غير مبال بهم و لا مكترث، و هذا كما ترى تخيير له صلّى اللّه عليه و سلّم بين الأمرين، و هو معارض لقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ‏ و تحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، و روي ذلك عن ابن عباس، و إليه ذهب أكثر السلف: قالوا: إنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة و السلام بإجراء الأحكام عليهم، و مثله لا يقال من قبل الرأي، و قيل: إن هذه الآية فيمن لم‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 310

يعقد له ذمة، و الأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، و أثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، و روي هذا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أيضا.

و قال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع و المواريث و سائر العقود إلا في بيع الخمر و الخنزير فإنهم يقرون عليه، و يمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، و لا يرجمون لأنهم غير محصنين، و خبر الرجم السابق سبق توجيهه، و اختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه: يقرون عليها، و خالفه- في بعض ذلك- محمد و زفر، و ليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها و ترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، و تمام التفصيل في الفروع‏ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ‏ بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلّى اللّه عليه و سلّم بينهما، و تقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم و لم تحكم بينهم فعادوك و قصدوا ضررك‏ فَلَنْ يَضُرُّوكَ‏ بسبب ذلك‏ شَيْئاً من الضرر فإن اللّه تعالى يحفظك من ضررهم‏ وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به، و هو ما تضمنه القرآن و اشتملت عليه شريعة الإسلام، و ما روي عن علي كرم اللّه تعالى وجهه من أنه قال:- لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم- إن صح يراد منه لازم المعنى‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏ أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه و يعظم شأنهم‏ وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ‏ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، و الحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، و تنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق و إنما هو لطلب الأهون، و إن لم يكن ذلك حكم اللّه تعالى بزعمهم فقوله سبحانه:

وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل‏ يُحَكِّمُونَكَ‏ ، و قوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ‏ حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف و كون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد- كما قال السمين- على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة- مرفوعا بالظرف المصدر بالواو- محل نظر، و لعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، و إن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجي‏ء الحال من المبتدأ عن سيبويه.

و قيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، و أنثت التوراة معاملة لها- بعد التعريب- معاملة الأسماء العربية الموازنة لها- كموماة و دوداة- ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ‏ عطف على‏ يُحَكِّمُونَكَ‏ داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، و إن كان محلا للتعجب و الاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، و ثُمَ‏ للتراخي في الرتبة، و جوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا و يتولوا، و الأول أولى، و قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ‏ أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد و التعجب، و قوله عز و جل: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏ تذييل مقرر لفحوى ما قبله، و وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي‏ وَ ما أُولئِكَ‏ الموصوفون بما ذكر بِالْمُؤْمِنِينَ‏ بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا و عن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك و به، و قيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و بحكمه أصلا.

و قيل: المعنى- و ما أولئك بالكاملين في الإيمان- تهكما بهم‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه‏ فِيها هُدىً‏ أي إرشاد للناس إلى الحق‏ وَ نُورٌ

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 311

أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم و أظلم- قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه-.

و قال الزجاج: فِيها هُدىً‏ أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم‏ وَ نُورٌ أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة و السلام حق، و لعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، و يندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم، و إطلاق النور على ما في التوراة مجاز، و لعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك، و قد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم- بناء على ما قال الزجاج- باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلّى اللّه عليه و سلّم، و حينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا، و الظرف خبر مقدم، و هُدىً‏ مبتدأ، و الجملة حال من‏ التَّوْراةَ أي كائنا فيها ذلك، و كذا جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ‏ في قول إلا أنها حال مقدرة، و الأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة و سمو طبقتها، و المراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة و السلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، و كان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي.

و أخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم و من قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، و على هذا بني الاستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، و تقديم الجار و المجرور على الفاعل لما مر غير مرة، و المراد يحكم بأحكامها النبيون‏ الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين- كما قيل- على سبيل المدح، و الظاهر لهم، و نظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، و الإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء و متبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؛ فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه- و اللّه تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، و لينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها، و على هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، و بعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، و كذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7]، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره، و بعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، و إلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! و هم- عند ربهم- كما في الخبر، ثم قال جل و علا: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك- و اللّه تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، و لقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، و حسان الناظم في مدحه عليه الصلاة و السلام بقوله:

ما إن مدحت محمدا بمقالتي‏

لكن مدحت مقالتي بمحمد

و الإسلام- و إن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة اللّه تعالى بما يجب له و يستحيل عليه و يجوز في حكمه- إلا أن النبوة أشرف و أجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة؛ فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز و في كلام العرب الفصيح، و هو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:

شمس ضحاها هلال ليلتها

در مقاصيرها زبرجدها

فنزل عن الشمس إلى الهلال، و عن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته و مزقت أديم صنعته؟ فعلينا

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 312

أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، و اللّه تعالى الموفق للصواب انتهى.

و في المفتاح: و التخليص إشارة إلى ما ذكره، و إيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا و التعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح- بل في الأفصح- ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، و من ذلك‏ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* [الفاتحة: 1 و غيرها] حيث كان متضمنا نكتة، و قال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه، و يمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة و لا يخرم، و لا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خارج عن هذا المسلك انتهى، و فيه تأمل، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، و نهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم‏ لِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر- كما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه- و المراد بهم اليهود- كما قال الحسن- و الجار إما متعلق- بيحكم- أي يحكمون فيما بينهم، و اللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، و إما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه، و إما للإشعار بكمال رضاهم به و انقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين، و قيل: من باب‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] و إما متعلق- بأنزلنا- و لعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر، و قيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، و حذف لدلالة الكلام عليه، و تكون الجملة حينئذ معترضة، و على هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم، و قيل: الجار متعلق- بهدى و نور- و فيه فصل بين المصدر و معموله، و قيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي‏ هُدىً وَ نُورٌ كائنان لهما، و كلام الزجاج يحتمل هذا و ما قبله‏ وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ أي العباد و العلماء قاله قتادة، و قال مجاهد:

الرَّبَّانِيُّونَ‏ العلماء الفقهاء و هم فوق الأحبار، و عن ابن زيد الرَّبَّانِيُّونَ‏ الولاة، وَ الْأَحْبارُ العلماء، و الواحد:

حبر بالفتح و الكسر، قال الفراء: و أكثر ما سمعت فيه الكسر، و هو مأخوذ من التحبير و التحسين، فإن العلماء يحبرون العلم و يزينونه و يبينونه، و من ذلك الحبر- بكسر الحاء لا غير- لما يكتب به، و هذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها، و توسيط المحكوم لهم- كما قال شيخ الإسلام- بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها، و حمل الناس على ما فيها هم النبيون، و إنما الربانيون و الأحبار خلفاء و نواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين و هو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير و التبديل على الإطلاق، و لا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشي‏ء منها، و الجار متعلق «بيحكم»، و ما موصولة، و ضمير الجمع عائد إلى الربانيين و الأحبار، و قوله تعالى:

مِنْ كِتابِ اللَّهِ‏ بيان- لما- و في الإبهام و البيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا و إضافة، و فيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها و العمل بما فيها، و الباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي و يحكم الربانيون و الأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه‏ مِنْ كِتابِ اللَّهِ‏ حسبما وصاهم به أنبياؤهم و سألوهم أن يحفظوه، و ليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، و توهم بعضهم أن ما بمعنى أمر، و مِنْ‏ لتبيين مفعول محذوف- لاستحفظوا- و التقدير بسبب أمر اسْتُحْفِظُوا به‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 313

شيئا مِنْ كِتابِ اللَّهِ‏ و هو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب اللّه تعالى، و قيل: الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغني عن تقدير العائد، و حينئذ لا يتأتى القول بأن‏ مِنْ‏ بيان لها، و من الناس من جوز كون‏ بِمَا بدلا من بها، و أعيد الجار لطول الفصل و هو جائز أيضا و إن لم يطل، و منهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين و من عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذ هو اللّه تعالى، و حديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك، و قيل: إن‏ الرَّبَّانِيُّونَ‏ فاعل بفعل محذوف، و الباء صلة له، و الجملة معطوفة على ما قبلها، أي و يحكم الربانيون و الأحبار بحكم كتاب اللّه تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ عطف على‏ اسْتُحْفِظُوا و معنى‏ شُهَداءَ رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير و التبديل بوجه من الوجوه، أو شُهَداءَ عليه أنه حق.

و رجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون‏ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير و تحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، و هو كما ترى ليس فيه مزيد معنى، و إرجاع ضمير كانُوا للنبيين مما لا يكاد يجوز، و قيل: عطف على‏ يَحْكُمُ‏ المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون و الأحبار بكتاب اللّه تعالى.

و كانوا شهداء عليه، و يجوز على هذا- بلا خفاء- أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه، و أمر التعدي بعلى سهل، و لعل المراد به شي‏ء وراء الحكم، و قيل: الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين و ما عطف عليه، و العطف إما على‏ اسْتُحْفِظُوا أو على‏ يَحْكُمُ‏ و توهم عبارة البعض- حيث قال و بسبب كونهم شهداء- أن العطف على- ما- الموصولة فيؤوّل‏ كانُوا بالمصدر، و كأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، و أما العطف على كتاب اللّه بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى، و إرجاع ضمير عَلَيْهِ‏ إلى حكم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات، و هو و إن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر و لا قرينة عليه، و لعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، و بالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ‏ خطاب لرؤساء اليهود و علمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه و السدي و الكلبي، و يتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة، و الفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ‏ كائنا من كان، و اقتدوا في مراعاة أحكام التوراة و حفظها بمن قبلكم من النبيين و الربانيين و الأحبار، و لا تعدلوا عن ذلك و لا تحرفوا خشية من أحد وَ اخْشَوْنِ‏ في ترك أمري فإن النفع و الضر بيدي، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي‏ أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها و تأخذوا لأنفسكم‏ ثَمَناً قَلِيلًا من الرشوة و الجاه و سائر الحظوظ الدنيوية، فإنه و إن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر، و ذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين و هو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي.

و عن ابن مسعود- و هو الوجه كما في الكشف- أنه عام، و الفاء على الوجهين فصيحة أي و حين عرفتم ما كان عليه النبيون و الأحبار، و ما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف و التبديل للرشوة و الخشية، فلا تخشوا الناس و لا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين، و الذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا، و قد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ‏ من الأحكام‏ فَأُولئِكَ‏ إشارة إلى‏ مِنْ‏ و الجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها، و هو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: هُمُ الْكافِرُونَ‏ و يجوز أن‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 314

يكون‏ هُمُ‏ ضمير فصل، و الْكافِرُونَ‏ هو الخبر، و الجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير و تحذير عن الإخلال به أشد تحذير، و احتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، و وجه الاستدلال بها أن كلمة مِنْ‏ فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل اللّه تعالى، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم و عامل بما أنزل اللّه تعالى، و أجيب بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم و إن كان شاملا لفعل القلب و الجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب و هو التصديق، و لا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل اللّه تعالى، و أيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس، و لا شك أن من لم يحكم بشي‏ء مما أنزل اللّه تعالى لا يكون إلا غير مصدق و لا نزاع في كفره، و أيضا أخرج ابن منصور و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال: إنما أنزل اللّه تعالى- و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون و الظالمون و الفاسقون- في اليهود خاصة، و أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ‏ إلخ ليس في أهل الإسلام منها شي‏ء هي في الكفار، و أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة و ابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، و لعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فلإنكارهم ذلك وصفوا- بالكافرين- و لوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا- بالظالمين- و لخروجهم عن الحق وصفوا- بالفاسقين- أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم و أحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، و تارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، و أخرج أبو حميد و غيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة و الثانية في اليهود و الثالثة في النصارى، و يلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود و النصارى إلا أنه قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد و التغليظ، و الكافر إذا وصف بالفسق و الظلم أشعر بعتوه و تمرده فيه.

و يؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر، و الوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود و غيرهم، و هو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين، و اختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، و المراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين، و ذلك بحملهما على الفسق و الظلم الكاملين، و ما أخرجه الحاكم و صححه و عبد الرزاق و ابن جرير عن حذيفة رضي اللّه تعالى عنه- أن الآيات الثلاث ذكرت عنده، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة و لهم كل مرة، كلا و اللّه لتسلكن طريقهم قدّ الشراك- يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم، و يحتمل أن يكون كما قيل: ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين، و

روي الأول عن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهما إلا أنه قال: كفر ليس ككفر الشرك و فسق ليس كفسق الشرك و ظلم ليس كظلم الشرك.

هذا و قد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ* أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي و اطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ‏ بمحو الصفات و الفناء في الذات‏ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏ أي لكي تفوزوا بالمطلوب، و قيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه و عظيم رحمته و هو على حد قوله:

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي‏

فليس إلى معن سواه شفيع‏

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ‏ أي ما في الجهة السفلية جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ الكبرى‏ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ‏ لأنه سبب زيادة الحجاب و البعد و لا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏3، ص: 315

من المعارف و الحقائق النورية وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ أي المتناول من الأنفس و المتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة و سكين الرياضة جَزاءً بِما كَسَبا من تناول ما لا يحل تناوله لها نَكالًا أي عقوبة من اللّه عز و جل‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ‏ و وساوس شيطان النفس‏ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ‏ و هم القوى النفسانية لَمْ يَأْتُوكَ‏ أي ينقادوا لكم، أو سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ‏ يسنون السنن السيئة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ‏ و هي التعينات الإلهية مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ‏ فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة- كمن يؤوّل القرآن و الأحاديث على وفق هواه- و ليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا للّه تعالى، و قصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، و نحن نبرأ إلى اللّه عز و جل من ذلك فإنه كفر صريح، و إنما نقول: المراد هو الظاهر و به تعبد اللّه تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عطاء: من يحجبه اللّه تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه‏ أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏ أي بالمراقبة و المراعاة، و قال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد و الغش، و حسن الظن بجماعة المسلمين‏ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏ و هو ما يأكلونه بدينهم‏ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ‏ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم‏ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏ إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم‏ وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي داوهم على ما يستحقون و يقتضيه داؤهم، و الكلام في باقي الآيات ظاهر و اللّه تعالى الموفق.

وَ كَتَبْنا عطف على‏ أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ و المعنى قدرنا و فرضنا عَلَيْهِمْ‏ أي على الذين هادوا، و في مصحف أبيّ و أنزلنا على بني إسرائيل‏ فِيها أي في التوراة، و الجار متعلق بكتبنا، و قيل: بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، و قيل: صفة لمصدر محذوف أي‏ كَتَبْنا كتابة مبينة فِيها . أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏ أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق، و يقدر في كل مما في قوله تعالى: وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِ‏ ما يناسبه كالفق‏ء و الجذع و الصلم و القلع، و منهم من قدر الكون المطلق، و قال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين و نحو ذلك.

و قرأ الكسائي: الْعَيْنَ‏ و ما عطف عليه بالرفع، و وجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى- كتبنا عليهم أن النفس بالنفس- قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، و جعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم و هو غير مقيس، و قيل: إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية، و يكون هذا ابتداء تشريع و بيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، و قيل: إنه مندرج فيه أيضا على هذا، و التقدير و كذلك- العين بالعين- إلخ لتتوافق القراءتان.

و قال الخطيب: لا عطف، و الاستئناف بمعناه المتبادر منه، و الكلام جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟

فقال سبحانه: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ‏ إلخ، و قيل: إن العين و كذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار و المجرور الواقع خبرا، و الجار و المجرور بعدها حال مبينة للمعنى، و ضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل و لا تأكيد، و هو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.

صفحه بعد