کتابخانه تفاسیر
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 175
بنياتهم و أحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم و يدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، و محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، و قوله سبحانه و تعالى: وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين و توهين كيد الكافرين و إبطال حيلهم، و قيل: المشار إليه القتل أو الرمي و المبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: وَ أَنَّ اللَّهَ إلخ من قبيل عطف البيان، و قيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. و جوز جعل اسم الإشارة مبتدأ محذوف الخبر و جعله منصوبا بفعل مقدر.
و قرأ ابن كثير و نافع و أبوبكر «موهّن» بالتشديد و نصب كيد. و قرأ حفص عن عاصم بالتخفيف و الإضافة و قرأ الباقون بالتخفيف و النصب إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة و قالوا: اللهم انصر أعلى الجندين و اهد الفئتين و أكرم الحزبين.
و في رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا ديننا القديم و دين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك و أرضى عندك فانصر أهله اليوم. و الأول مروي عن الكلبي و السدي، و المعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين و أهداهما فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ حيث نصر أعلاهما و أهداهما و قد زعمتم أنكم الأعلى و الأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك و الذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن حراب الرسول عليه الصلاة و السلام و معاداته فَهُوَ أي الإنهاء خَيْرٌ لَكُمْ من الحراب الذي ذقتم بسببه من القتل و الأسر، و مبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم وَ إِنْ تَعُودُوا أي إلى حرابه عليه الصلاة و السلام نَعُدْ لما شاهدتموه من الفتح وَ لَنْ تُغْنِيَ أي لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم التي تجمعونها و تستغيثون بها شَيْئاً من الإغناء أو المضار وَ لَوْ كَثُرَتْ تلك الفئة، و قرىء «و لن يغني» بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي و للفصل و نصب شيئا على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، و جملة و لو كثرت في موضع الحال وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي و لأن اللّه تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو و الأمر أن اللّه سبحانه معهم، و قرأ الأكثر «و إن» بالكسر على الاستئناف، قيل: و هي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل: القصد إعلاء أمر المؤمنين و توهين كيد الكافرين و كيت و كيت، و إن سنة اللّه تعالى جارية في نصر المؤمنين و خذلان الكافرين، و هذا و إن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، و يؤيدها قراءة ابن مسعود «و اللّه مع المؤمنين»، و روي عن عطاء.
و أبي بن كعب، و إليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، و المعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر و إن تنتهوا عن التكاسل و الرغبة عما يرغب فيه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين و إن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار و تهييج العدو و لن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن اللّه تعالى معكم بالنصر و الأمر أن اللّه سبحانه مع الكاملين في الإيمان، و يفهم كلام بعضهم أن الخطاب في تَسْتَفْتِحُوا و جاءَكُمُ للمؤمنين، و فيما بعده للمشركين و لا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا، و أيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا أي تتولوا، و قرىء بتشديد التاء عَنْهُ أي عن الرسول و أعيد الضمير إليه عليه الصلاة و السلام لأن المقصود طاعته صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذكر طاعة اللّه تعالى توطئة لطاعته و هي مستلزمة لطاعة اللّه تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى اللّه تعالى و رسوله «1» و قيل: الضمير للجهاد، و قيل: للأمر الذي دل عليه الطاعة، و التولي مجاز، و قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جمل حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي
(1) قوله «و رسوله» كذا بخطه و الأولى إسقاطها ا ه.
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 176
مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولوا عنه و الحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته و المواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم و إذعان، و قد يراد بالسماع التصديق، و قد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلا، و قوله سبحانه وَ لا تَكُونُوا تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر و النهي كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة و المنافقين الذين يدّعون السماع وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه و لا يفهمونه حق فهمه و الجملة في موضع الحال من ضمير قالوا، و المنفي سماع خاص لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير و تقريرا للنهي أثر تقرير، و الدواب جمع دابة، و المراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي إن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه و قضائه الصُّمُ الذين لا يسمعون الحق الْبُكْمُ الذين لا ينطقون به، و الجمع على المعنى، و وصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق و النطق به و حيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا.
و تقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، و قيل: التقديم لأن وصفهم بالصم أهم نظر إلى السابق و اللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور و يفهمه غيره و يهتدي إلى بعض مطالبه. أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية و سوء الحال، و بذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق و اتباع الهدى لَأَسْمَعَهُمْ سماع تدبر و تفهم و لوقفوا على الحق و آمنوا بالرسول عليه الصلاة و السلام و أطاعوه وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع تفهم و تدبر و قد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا و لم ينتفعوا به و ارتدوا بعد التصديق و القبول وَ هُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم، و الجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، و مما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين و نتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، و ثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم اللّه تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، و في المعنى و الجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا و ذلك لاختلاف الوسط. أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا و لو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. و الثاني أن يقدر و لو أسمعتهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. و الثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسيا متحد الوسط، إذ التقدير و لو علم اللّه تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، و لا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع و لأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالأسماع بعد نزول هذه الآية، و كذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير و لو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. و أما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، و ذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان و كبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية و لو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين و هو ممنوع و لو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم و التالي و إن كان الطرفان محالين لأن علم اللّه تعالى فيهم خيرا محال و المحال جاز أن يستلزم المحال و إن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال.
و اعترض على أصل السؤال بأن لفظ لَوْ لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني و إنما يستعمل في
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 177
القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشيء غيره، و لهذا لا يصرح باستثناء نقيص التالي، و على الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا و منع كونه منتجا لانتفاء شرائط الانتاج و كيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الانتاج و إن لم يكن مراده تعالى قياسيته و ذكر أن الحق قوله سبحانه: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتداء قوله تعالى:
لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا كلاما آخر على طريقة- لو لم يخف اللّه تعالى لم يعصه- و حاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله و المقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط و عدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير و أنهم ثابتون على التولي في الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر و في الثانية ادعائي فلا يكون على هيئة القياس.
و قال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل لَوْ لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب و الإنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي و الاعراض عن الشيء فرع تحققه و لم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء و عدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول و التحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء و حاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون لَوْ بمعناه المشهور، و يكون المقصود الاخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى و لا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية و اللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، و ما يقال:
من أن انتفاء التولي خير و قد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع و هو داء عضال و شر عظيم، و إنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له و لم يعرضوا و هذا كما يقال: لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة و القدرة ليس خيرا فيه و إن كان خيرا له ا ه. ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي هاهنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ و أوجب أن يحمل إما على لازم معناه و هو عدم الانتقاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه و هو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، و عن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك و نؤمن بك، فالمعنى و لو أسمعهم كلام قصي إلخ، و قيل: هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير و سويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه و لا نجيبه قاتلهم اللّه تعالى فقتلوا جميعا بأحد و كانوا أصحاب اللواء، و عن ابن جريج أنهم المنافقون و عن الحسن أنهم أهل الكتاب، و الجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير لَتَوَلَّوْا ، و جوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي و هم قوم عادتهم الاعراض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يريد بعده من الأوامر و تنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ بحسن الطاعة إِذا دَعاكُمْ أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة اللّه تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا لِما يُحْيِيكُمْ أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد و الأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم اللّه تعالى به بعد الذل و قواكم به بعد الضعف و منعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، و إطلاق ما ذكر على العقائد و الأعمال و كذا على الجهاد إما استعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب على المسبب، و قال القتبي: المراد به
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 178
الشهادة و هو مجاز أيضا، و قال قتادة: القرآن، و قال أبو مسلم: الجنة، و قال غير واحد: هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، و هو استعارة مشهورة ذكرها الأدباء و علماء المعاني.
و للزمخشري:
لا تعجبن لجهول حلته
فذاك ميت و ثوبه كفن
و استدل بالآية على وجوب إجابته صلّى اللّه عليه و سلّم إذا نادى أحدا و هو في الصلاة، و عن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، و حكى الروياني أنها لا تجب الصلاة بها، و قيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر و لو لم يحذره لهلك، و أيد القول بالوجوب بما
أخرجه الترمذي. و النسائي عن أبي هريرة «أنه صلّى اللّه عليه و سلّم مر على أبي بن كعب و هو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي.
قال: ألم تخبر فيما أوحي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال: بلى و لا أعود إن شاء اللّه تعالى، ثم إنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني،
و أنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلّى اللّه عليه و سلّم لا تقطع الصلاة، و قال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير و للمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، و فيه نظر وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ عطف على استجيبوا، و أصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء و انفصاله عن غيره، و باعتبار التغير قيل حال الشيء يحول و باعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، و هذا غير متصور في حق اللّه تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما و انفصال أحدهما عن الآخر، و ظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، و يجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، و لا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه و هو القرب، بل ادعي أنه الأنسب، و إرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن و قتادة، فالآية نظير قوله سبحانه: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16].
و فيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، و جوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب و تصفيتها، فمعنى يحول بينه و بين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها و هي التمكن من إخلاص القلب و معالجة أدوائه و علله ورده سليما كما يريد اللّه تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة و السلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة و شبه الموت بالحيلولة بين المرء و قلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، و إلى هذا ذهب الجبائي.
و قال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه و يغير مقاصده و يلهمه رشده و يزيغ عن الصراط السوي قلبه و يبدله بالأمن خوفا و بالذكر نسيانا، و ذلك كمن حال بين شخص و متاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه و هذا كما
في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة و قد سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن إكثاره الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا و قلبه بين أصبعين من أصابع اللّه تعالى فمن شاء أقام و من شاء أزاغ،
و يؤيد هذا التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال: سألت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة و السلام: يحول بين المؤمن و الكفر و يحول بين الكافر و الهدى.
و لعل ذلك منه عليه الصلاة و السلام اقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة و الشقاوة و إلا فهذا من
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 179
فروع التمكن الذي أشرنا إليه و لا يختص أمره بما ذكر، و قد حال سبحانه بين العدلية و بين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، و بين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إلخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان و يسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، و كلّ ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان و وفقتم للطاعة فاستجيبوا للّه و للرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار و طلب الحياة الأبدية و اغتنموا تلك الفرصة و اعلموا أن اللّه تعالى قد يحول بين المرء و قلبه بأن يحول بينه و بين الإيمان و بينه و بين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، و تلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها و لا تكفروها لئلا أزيلها عنكم ا ه.
و لا يخفى ما فيه من التكليف، و قيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال و الجهاد و كانوا في غاية الضعف و القلة خافت قلوبهم و ضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل اللّه تعالى إذا دعيتم و اعلموا أن اللّه يحول بين المرء و قلبه فيبدل الأمن خوفا و الجبن جرأة. و قرىء «بين المرّ» بتشديد الراء على حذف الهمزة و نقل حركتها إليها و إجراء الوصل مجرى الوقف وَ أَنَّهُ أي اللّه عز و جل أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته و طاعة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و بالغوا في الاستجابة، و قيل: المعنى أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا و لا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلوا الأمر إليه عز شأنه و لا تحدثوا أنفسكم بمخالفته.
و زعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده و الشقي من أضله و أن القلوب بيده يقلبها كيفما يشاء و يخلق فيها الدواعي و العقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة و إما للنار لا يتركون مهملين معطلين، و أنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور و ليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه.
[سورة الأنفال (8): الآيات 25 الى 40]
وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 180
وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمّه و غيره و المراد بالفتنة الذنب و فسر بنحو إقرار المنكر و المداهنة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و افتراق الكلمة و ظهور البدع و التكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، و المصيب على هذا هو الأثر كالشآمة و الوبال، و حينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، و جوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، و كذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر و لا التزام استخدام و لا نافية، و الجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، و اعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب و لو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها و لا تختص بالظالمين منكم و هو كما ترى، و أجيب بأن أصل الكلام و اتقوا فتنة لا تصيبكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، و سمي الأمر لأن المعاملة معه لفظا و فيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة و لا عن الأمر و ظاهر التعبير يقتضيه، و قال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام و عدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي إن تدن يأكلك و في نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم. و اعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا و لا ذاك و إنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلي مضمون الأمر أو نقيضه، و أجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم و إن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، و ما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة
روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج5، ص: 181
لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم و لغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا.
و قال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، و أجيب بأنه هنا «1» طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي و هو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه و إن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد و هو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، و على تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، و أنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي- بلا- يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ [النمل: 18] و قال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، و وجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي و في حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، و لا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان و جنوده كذلك، و جوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، و اعترض بأن فيه شذوذا لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، و قد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني و كذا بعض النحاة جوز ذلك، و قد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
و قال أبو البقاء و غيره: يحتمل أن تكون لا ناهية و الجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام و اختلط
جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة و نحوها إلا بتقدير القول، و قد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، و ليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، و من الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، و أن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي و اللّه لا تصيبن خاصة بل تعم، و حينئذ يظهر أمر التأكيد، و أيد ذلك بقراءة عليّ كرم اللّه تعالى وجهه. و زيد بن ثابت و أبيّ و ابن مسعود و الباقر و الربيع و أبو العالية «لتصيبن» فإن الظاهر فيها القسمية، و قيل: إن الأصل- لا- الا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم و اللّه، و قال بعضهم: أن «لا» في القراءة المتواترة هي اللام و الألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمى
و من ذم الرجال بمنتزاح
و كلا القولين لا يعول عليه، و يحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر و تأكيده، و هو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، و المعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و من على تقدير كون لا ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعريض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظلم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية و ذلك شيء لا يراد. و أما على الوجوه الأخر من كون لا نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه و تعالى: لا تُصِيبَنَ صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا