کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 11
خطبة الكتاب
(بسم اللّه الرحمن الرحيم) ربّ يسّر و أعن الحمد للّه الذي شرّفنا على الأمم بالقرآن المجيد، و دعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر الرشيد، و قوّم به نفوسنا بين الوعد و الوعيد، و حفظه من تغيير الجهول و تحريف العنيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
أحمده على التوفيق للتحميد، و أشكره على التحقيق في التوحيد، و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة يبقى ذخرها على التأبيد، و أن محمّدا عبده و رسوله أرسله إلى القريب و البعيد، بشيرا للخلائق و نذيرا، و سراجا في الأكوان منيرا، و وهب له من فضله خيرا كثيرا، و جعله مقدّما على الكلّ كبيرا، و لم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا، و نهى أن يدعى باسمه تعظيما له و توقيرا، و أنزل عليه كلاما قرّر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» . فصلّى اللّه عليه و على آله و أصحابه و أتباعه و أزواجه و أشياعه، و سلّم تسليما كثيرا.
و بعد؛ لمّا كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أو في الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، و إني نظرت في جملة من كتب التفسير، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، و صغير لا يستفاد كل المقصود منه، و المتوسّط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، و ربما أهمل فيه المشكل، و شرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، و وسمته ب «زاد المسير في علم التفسير».
و قد بالغت في اختصار لفظه، فاجتهد- وفّقك اللّه- في حفظه، و اللّه المعين على تحقيقه، فما زال جائدا بتوفيقه.
فصل في فضل علم التفسير
(1) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ، عن ابن مسعود قال: كنا نتعلّم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العشر، فلا (1) صحيح. أخرجه الطبري 82 من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ...
فذكره. و السلمي أحد تلامذة ابن مسعود، فهو المراد، و كأنه أراد أنه سمع مثل ذلك عن غير ابن مسعود حيث لم يسمه. و أخرجه الطبري 81 من وجه آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود و إسناده صحيح على شرط مسلم.
(1) الإسراء: 88.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 12
نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها من العلم و العمل.
و روى قتادة عن الحسن أنّه قال: ما أنزل اللّه آية إلا أحبّ أن أعلم فيم أنزلت، و ما ذا عنى بها.
و قال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن و من يعلم تفسيره أو لا يعلم، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا، و ليس عندهم مصباح، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة؛ لا يدرون ما فيه، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.
فصل: اختلف العلماء: هل التّفسير و التّأويل بمعنى، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، و هذا قول جمهور المفسّرين المتقدّمين. و ذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي. و التأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء إلى كذا، أي:
صار إليه.
فصل في مدّة نزول القرآن
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة «1» . و قال الشعبي: فرّق اللّه تنزيل القرآن، فكان بين أوله و آخره عشرون سنة. و قال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوّله و آخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين، و بالمدينة عشر سنين.
فصل: و اختلفوا في أوّل ما نزل من القرآن:
(2) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» ، رواه عروة عن عائشة و به قال (2) صحيح. أخرجه البخاري 3 و مسلم 160 و أحمد 6/ 232- 233. و الطيالسي 1467 و ابن حبان 33 و البيهقي في «الدلائل» 2/ 135- 136 من حديث عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، و كان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- و هو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، و يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق و هو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» قال:
«فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ». فرجع بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي اللّه عنها فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة و أخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا و اللّه ما يخزيك اللّه أبدا، إنك لتصل الرحم، و تحمل الكل، و تكسب المعدوم و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى- ابن عم خديجة- و كان امرأ تنصّر في الجاهلية، و كان يكتب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب، و كان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل اللّه على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي، و إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي، و فتر الوحي. و اللفظ للبخاري.
(1) موقوف حسن، و سيأتي تخريجه إن شاء اللّه.
(2) العلق: 1.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 13
قتادة و أبو صالح. و روي عن جابر بن عبد اللّه: أن أوّل ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ .
و الصحيح أنه لما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رجع فتدثّر فنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ .
(3) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء و الأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت:
زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني، فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ »، و معنى جثثت: فرقت. يقال: رجل مجؤوث و مجثوث. و قد صحّفه بعض الرواة فقال: جبنت، من الجبن، و الصحيح الأول.
و روي عن الحسن و عكرمة: أن أوّل ما نزل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .
فصل: و اختلفوا في آخر ما نزل:
(4) فروى البخاريّ في أفراده من حديث ابن عباس، قال: آخر آية أنزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، آية الرّبا «1» .
(5) و في أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ «2» .
(6) و روى الضّحّاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «3» ، و هذا مذهب سعيد بن جبير و أبي صالح.
(7) و روى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4» ، و آخر سورة نزلت «براءة».
(8) و روي عن أبيّ بن كعب: أن آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» ، إلى آخر السورة.
(3) أخرجه البخاري 3238 و 4925 و مسلم 161 و الترمذي 3325 و ابن حبان 34، و سيأتي في سورة المدثر.
(4) صحيح. أخرجه البخاري 4544 عن ابن عباس، و يأتي.
(5) يأتي في سورة النصر.
(6) يأتي ذكر الحديث عند الآية 281 من سورة البقرة.
(7) صحيح. أخرجه البخاري 4654 عن البراء.
(8) حسن. أخرجه أحمد 5/ 117 من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبي بن كعب به. و إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، و يوسف هو ابن مهران لين الحديث، وثقه أبو زرعة، و قال أبو حاتم: يكتب حديثه و يذاكر، و قال أحمد: لا يعرف. نقله الذهبي في «الميزان» 4/ 474. و قال الحافظ في «التقريب»: يوسف بن مهران، ليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، و هذا لم يرو عنه إلّا ابن جدعان، و هو لين الحديث. و أخرجه الحاكم 2/ 338 من وجه آخر عن شعبة عن يونس بن عبيد و علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران به. و قال: حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين! و وافقه الذهبي!. و ليس كما قالا، فقد ظن الحاكم أن الذي في الإسناد هو يوسف بن ماهك، فذاك روى له الشيخان، و قد فرّق بينهما ابن حجر كما تقدم، و كذا الذهبي في «الميزان» 4/ 474. فالإسناد لين، لكن توبع، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» ص 38 من وجه آخر و فيه أبو جعفر الرازي و هو ضعيف الحديث، لكن يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد.
- و يأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء اللّه، و اللّه أعلم.
(1) و هي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
(2) سورة النصر: 1.
(3) البقرة: 281.
(4) النساء: 176.
(5) التوبة: 138.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 14
فصل: لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ و المنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ، و إن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة.
و قد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه.
و قد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، و لم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون قد سبق، و إما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. و قد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ منها الأصحّ و الأحسن و الأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. و هذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له، و اللّه الموفّق.
فصل في الاستعاذة
قد أمر اللّه عزّ و جلّ بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «1» ، و معناه: إذا أردت القراءة. و معنى أعوذ: ألجأ و ألوذ.
فصل في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال ابن عمر: نزلت في كل سورة.
و قد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ و فيه عن أحمد روايتان، و اختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا. فأمّا من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، و أمّا من لم يرها من الفاتحة، فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنّة، ما
(1) النحل: 98.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 15
عدا مالكا فإنه لا يستحبّ قراءتها في الصلاة «1» .
و اختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به «2» ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسنّ الجهر بها، و هو قول أبي بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ، و ابن مسعود، و عمّار بن ياسر، و ابن مغفّل، و ابن الزّبير، و ابن عباس، و قال به من كبراء التابعين و من بعدهم: الحسن، و الشّعبيّ، و سعيد بن جبير، و إبراهيم، و قتادة، و عمر بن عبد العزيز، و الأعمش، و سفيان الثوري، و مالك، و أبو حنيفة، و أبو عبيد في آخرين. و ذهب الشّافعي إلى أن الجهر بها مسنون، و هو مرويّ عن معاوية بن أبي سفيان، و عطاء، و طاوس، و مجاهد.
فأمّا تفسيرها: فقوله: بِسْمِ اللَّهِ اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم اللّه، أو: بدأت باسم اللّه. و في الاسم خمس لغات: اسم بكسر الألف، و أسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، و سم بكسر السين، و سم
(1) قال القرطبي رحمه اللّه في «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 132: و جملة مذهب مالك و أصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب و لا غيرها، و لا يقرأ بها المصلي في المكتوبة، و لا في غيرها سرا و لا جهرا.
و يجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. و عنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، و لا تقرأ أول أم القرآن. و روي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض و النفل و لا تترك بحال. و من أهل المدينة من يقول: إنه لا بد فيها من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ منهم ابن عمر و ابن شهاب.
و به قال الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و أبو عبيد. و هذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، و ليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، و الحمد لله. و قد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم: أبو حنيفة، و الثوري و روي ذلك عن عمر و علي و ابن مسعود و عمّار و ابن الزبير، و هو قول الحكم و حمّاد و به قال أحمد بن حنبل و أبو عبيد، و روي عن الأوزاعي مثل ذلك. و انظر المغني 2/ 147- 149.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه اللّه في «المغني» 2/ 149- 151: و لا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي: و عليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و من بعدهم التابعين منهم أبو بكر و عمر و عثمان، و عليّ. و ذكره ابن المنذر، عن ابن مسعود، و ابن الزبير و عمار. و به يقول الحكم و حمّاد، و الأوزاعي، و الثّوري، و ابن المبارك، و أصحاب الرأي. و يروى عن عطاء، و طاوس، و مجاهد و سعيد بن جبير، الجهر بها. و هو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة، أنّه قرأها في الصّلاة. و قد صح عنه أنه قال: ما أسمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أسمعناكم، و ما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. و عن أنس، أنه صلّى و جهر ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم. و قال: أقتدي بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و لما تقدّم من حديث أم سلمة و غيره، و لأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر، كسائر آياتها. و لنا حديث أنس و عبد اللّه بن المغفّل، و عن عائشة، رضي اللّه عنها، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. و روى أبو هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يقول: «قال اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . قال اللّه: حمدني عبدي» و ذكر الخبر. أخرجه مسلم. و هذا يدل على أنّه لم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و لم يجهر بها. و حديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها، و لا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار، كما سمع الاستفتاح و الاستعاذة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، مع إسراره بهما، و قد روى أبو قتادة، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. و حديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، و سائر أخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، و إسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، و قد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 16
بضمّها، و سما. قال الشاعر «1» :
و اللّه أسماك سمى مباركا
آثرك اللّه به إيثاركا
و أنشدوا «2» :
باسم الذي في كلّ سورة سمه
قال الفرّاء: بعض قيس يقولون: سمه، يريدون: اسمه، و بعض قضاعة يقولون: سمه. أنشدني بعضهم:
و عامنا أعجبنا مقدّمه
يدعى أبا السّمح و قرضاب سمه «3»
و القرضاب: القطّاع، يقال: سيف قرضاب.
و اختلف العلماء في اسم اللّه الذي هو «اللّه»؛ فقال قوم: إنه مشتقّ، و قال آخرون: إنه علم ليس بمشتقّ. و فيه عن الخليل روايتان: إحداهما: أنه ليس بمشتقّ، و لا يجوز حذف الألف و اللام منه كما يجوز من الرحمن. و الثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتقّ. و ذكر أبو سليمان الخطّابيّ عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره و أمّنه، فسمي إلها كما يسمّى الرجل إماما. و قال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا:
و سادة و إسادة، و وشاح و إشاح. و اشتقّ من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «4» . و كان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما، كما قالوا للمكتوب: كتاب، و للمحسوب: حساب. و قال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحيّر، لأن القلوب تتحيّر عند التفكّر في عظمته. و حكي عن بعض اللّغويين: أله الرجل يأله إلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة. و روي عن ابن عباس أنه قال: «و يذرك و إلاهتك» أي: عبادتك. قال:
و التّألّه: التّعبّد. قال رؤبة:
للّه درّ الغانيات المدّه
سبّحن و استرجعن من تألّهي
فمعنى الإله: المعبود.
فأما «الرحمن»: فذهب الجمهور إلى أنه مشتقّ من الرحمة، مبنيّ على المبالغة، و معناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. و بناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، و للشديد الشّبع: شبعان. قال الخطّابيّ: ف «الرحمن»: ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم و مصالحهم، و عمّت المؤمن و الكافر. و «الرحيم»: خاصّ للمؤمنين. قال عزّ و جلّ: وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5» . و الرحيم: بمعنى الرّاحم.
(1) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» 14/ 401، 402 مادة (سما)
(2) هو لرؤبة بن العجّاج و تمامه: قد وردت على طريق تعلمه.
(3) قال القرطبي رحمه اللّه في «تفسيره» 1/ 137: قرضب الرّجل: إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. و في «القاموس» القرضاب: الذي لا يدع شيئا إلا أكله.
(4) النحل: 53.
(5) الأحزاب: 43.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 17
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
(9) روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال- و قرأ عليه أبيّ بن كعب أمّ القرآن- فقال: «و الذي نفسي بيده، ما أنزل في التّوراة، و لا في الإنجيل، و لا في الزّبور، و لا في الفرقان مثلها، هي السّبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته».
فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة و كتابة. و من أسمائها: أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، لأنها أمّت الكتاب بالتقدم. و من أسمائها: السّبع المثاني، و إنما سمّيت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء اللّه.
و اختلف العلماء في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكيّة، و هو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب، و الحسن، و أبي العالية، و قتادة، و أبي ميسرة. و الثاني: أنها مدنيّة، و هو مرويّ عن أبي هريرة، و مجاهد، و عبيد بن عمير، و عطاء الخراسانيّ. و عن ابن عباس كالقولين «1» .
(9) صحيح. أخرجه الترمذي 3125 و النسائي 2/ 139 و أحمد 5/ 114 و ابن خزيمة 500 و ابن حبان 775 و صححه الحاكم 1/ 557 و وافقه الذهبي، و هو كما قالا. و أخرجه الترمذي 2875 و الطبري 15889 و البغوي 1183 من حديث أبي هريرة مطوّلا، و إسناده حسن. و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، و وافقه البغوي و عجزه، أخرجه البخاري 4704 من حديث أبي هريرة أيضا. و في الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري 4474 و 4647 و 4703 و 5006 و أبو داود 1458 و ابن ماجة 3785 و الطيالسي 2/ 9 و أحمد 3/ 211 و 450 و ابن حبّان 777 و الطبراني 22/ 303 و البيهقي 2/ 368 و انظر «فتح الباري» 8/ 157.
(1) قال القرطبي رحمه اللّه 1/ 154: اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس و قتادة و أبو العالية الرياحي- و اسمه رفيع- و غيرهم: هي مكية. و قال أبو هريرة و مجاهد و عطاء بن يسار و الزهري و غيرهم: هي مدنية.