کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 14
فصل: لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ و المنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ، و إن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة.
و قد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه.
و قد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، و لم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون قد سبق، و إما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. و قد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ منها الأصحّ و الأحسن و الأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. و هذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له، و اللّه الموفّق.
فصل في الاستعاذة
قد أمر اللّه عزّ و جلّ بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «1» ، و معناه: إذا أردت القراءة. و معنى أعوذ: ألجأ و ألوذ.
فصل في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال ابن عمر: نزلت في كل سورة.
و قد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ و فيه عن أحمد روايتان، و اختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا. فأمّا من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، و أمّا من لم يرها من الفاتحة، فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنّة، ما
(1) النحل: 98.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 15
عدا مالكا فإنه لا يستحبّ قراءتها في الصلاة «1» .
و اختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به «2» ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسنّ الجهر بها، و هو قول أبي بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ، و ابن مسعود، و عمّار بن ياسر، و ابن مغفّل، و ابن الزّبير، و ابن عباس، و قال به من كبراء التابعين و من بعدهم: الحسن، و الشّعبيّ، و سعيد بن جبير، و إبراهيم، و قتادة، و عمر بن عبد العزيز، و الأعمش، و سفيان الثوري، و مالك، و أبو حنيفة، و أبو عبيد في آخرين. و ذهب الشّافعي إلى أن الجهر بها مسنون، و هو مرويّ عن معاوية بن أبي سفيان، و عطاء، و طاوس، و مجاهد.
فأمّا تفسيرها: فقوله: بِسْمِ اللَّهِ اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم اللّه، أو: بدأت باسم اللّه. و في الاسم خمس لغات: اسم بكسر الألف، و أسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، و سم بكسر السين، و سم
(1) قال القرطبي رحمه اللّه في «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 132: و جملة مذهب مالك و أصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب و لا غيرها، و لا يقرأ بها المصلي في المكتوبة، و لا في غيرها سرا و لا جهرا.
و يجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. و عنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، و لا تقرأ أول أم القرآن. و روي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض و النفل و لا تترك بحال. و من أهل المدينة من يقول: إنه لا بد فيها من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ منهم ابن عمر و ابن شهاب.
و به قال الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و أبو عبيد. و هذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، و ليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، و الحمد لله. و قد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم: أبو حنيفة، و الثوري و روي ذلك عن عمر و علي و ابن مسعود و عمّار و ابن الزبير، و هو قول الحكم و حمّاد و به قال أحمد بن حنبل و أبو عبيد، و روي عن الأوزاعي مثل ذلك. و انظر المغني 2/ 147- 149.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه اللّه في «المغني» 2/ 149- 151: و لا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي: و عليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و من بعدهم التابعين منهم أبو بكر و عمر و عثمان، و عليّ. و ذكره ابن المنذر، عن ابن مسعود، و ابن الزبير و عمار. و به يقول الحكم و حمّاد، و الأوزاعي، و الثّوري، و ابن المبارك، و أصحاب الرأي. و يروى عن عطاء، و طاوس، و مجاهد و سعيد بن جبير، الجهر بها. و هو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة، أنّه قرأها في الصّلاة. و قد صح عنه أنه قال: ما أسمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أسمعناكم، و ما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. و عن أنس، أنه صلّى و جهر ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم. و قال: أقتدي بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و لما تقدّم من حديث أم سلمة و غيره، و لأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر، كسائر آياتها. و لنا حديث أنس و عبد اللّه بن المغفّل، و عن عائشة، رضي اللّه عنها، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. و روى أبو هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يقول: «قال اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . قال اللّه: حمدني عبدي» و ذكر الخبر. أخرجه مسلم. و هذا يدل على أنّه لم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و لم يجهر بها. و حديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها، و لا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار، كما سمع الاستفتاح و الاستعاذة من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، مع إسراره بهما، و قد روى أبو قتادة، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. و حديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، و سائر أخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، و إسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، و قد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 16
بضمّها، و سما. قال الشاعر «1» :
و اللّه أسماك سمى مباركا
آثرك اللّه به إيثاركا
و أنشدوا «2» :
باسم الذي في كلّ سورة سمه
قال الفرّاء: بعض قيس يقولون: سمه، يريدون: اسمه، و بعض قضاعة يقولون: سمه. أنشدني بعضهم:
و عامنا أعجبنا مقدّمه
يدعى أبا السّمح و قرضاب سمه «3»
و القرضاب: القطّاع، يقال: سيف قرضاب.
و اختلف العلماء في اسم اللّه الذي هو «اللّه»؛ فقال قوم: إنه مشتقّ، و قال آخرون: إنه علم ليس بمشتقّ. و فيه عن الخليل روايتان: إحداهما: أنه ليس بمشتقّ، و لا يجوز حذف الألف و اللام منه كما يجوز من الرحمن. و الثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتقّ. و ذكر أبو سليمان الخطّابيّ عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره و أمّنه، فسمي إلها كما يسمّى الرجل إماما. و قال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا:
و سادة و إسادة، و وشاح و إشاح. و اشتقّ من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «4» . و كان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما، كما قالوا للمكتوب: كتاب، و للمحسوب: حساب. و قال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحيّر، لأن القلوب تتحيّر عند التفكّر في عظمته. و حكي عن بعض اللّغويين: أله الرجل يأله إلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة. و روي عن ابن عباس أنه قال: «و يذرك و إلاهتك» أي: عبادتك. قال:
و التّألّه: التّعبّد. قال رؤبة:
للّه درّ الغانيات المدّه
سبّحن و استرجعن من تألّهي
فمعنى الإله: المعبود.
فأما «الرحمن»: فذهب الجمهور إلى أنه مشتقّ من الرحمة، مبنيّ على المبالغة، و معناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. و بناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، و للشديد الشّبع: شبعان. قال الخطّابيّ: ف «الرحمن»: ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم و مصالحهم، و عمّت المؤمن و الكافر. و «الرحيم»: خاصّ للمؤمنين. قال عزّ و جلّ: وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5» . و الرحيم: بمعنى الرّاحم.
(1) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» 14/ 401، 402 مادة (سما)
(2) هو لرؤبة بن العجّاج و تمامه: قد وردت على طريق تعلمه.
(3) قال القرطبي رحمه اللّه في «تفسيره» 1/ 137: قرضب الرّجل: إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. و في «القاموس» القرضاب: الذي لا يدع شيئا إلا أكله.
(4) النحل: 53.
(5) الأحزاب: 43.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 17
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
(9) روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال- و قرأ عليه أبيّ بن كعب أمّ القرآن- فقال: «و الذي نفسي بيده، ما أنزل في التّوراة، و لا في الإنجيل، و لا في الزّبور، و لا في الفرقان مثلها، هي السّبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته».
فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة و كتابة. و من أسمائها: أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، لأنها أمّت الكتاب بالتقدم. و من أسمائها: السّبع المثاني، و إنما سمّيت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء اللّه.
و اختلف العلماء في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكيّة، و هو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب، و الحسن، و أبي العالية، و قتادة، و أبي ميسرة. و الثاني: أنها مدنيّة، و هو مرويّ عن أبي هريرة، و مجاهد، و عبيد بن عمير، و عطاء الخراسانيّ. و عن ابن عباس كالقولين «1» .
(9) صحيح. أخرجه الترمذي 3125 و النسائي 2/ 139 و أحمد 5/ 114 و ابن خزيمة 500 و ابن حبان 775 و صححه الحاكم 1/ 557 و وافقه الذهبي، و هو كما قالا. و أخرجه الترمذي 2875 و الطبري 15889 و البغوي 1183 من حديث أبي هريرة مطوّلا، و إسناده حسن. و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، و وافقه البغوي و عجزه، أخرجه البخاري 4704 من حديث أبي هريرة أيضا. و في الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري 4474 و 4647 و 4703 و 5006 و أبو داود 1458 و ابن ماجة 3785 و الطيالسي 2/ 9 و أحمد 3/ 211 و 450 و ابن حبّان 777 و الطبراني 22/ 303 و البيهقي 2/ 368 و انظر «فتح الباري» 8/ 157.
(1) قال القرطبي رحمه اللّه 1/ 154: اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس و قتادة و أبو العالية الرياحي- و اسمه رفيع- و غيرهم: هي مكية. و قال أبو هريرة و مجاهد و عطاء بن يسار و الزهري و غيرهم: هي مدنية.
و يقال نزل نصفها بمكة و نصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. و الأول أصح لقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] و الحجر مكية بإجماع. و لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. و ما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير «الحمد للّه رب العالمين»؛ يدل على هذا قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» و هذا خبر عن الحكم، لا عن الابتداء، و اللّه أعلم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 18
فصل: فأمّا تفسيرها: ف الْحَمْدُ رفع بالابتداء، و لِلَّهِ الخبر. و المعنى: الحمد ثابت للّه، و مستقرّ له، و الجمهور على كسر لام «للّه»، و ضمّها ابن [أبي] «1» عبلة، قال الفرّاء: هي لغة بعض بني ربيعة، و قرأ ابن السّميفع «2» : «الحمد» بنصب الدال «للّه» بكسر اللام. و قرأ أبو نهيك بكسر الدال و اللام جميعا.
و اعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، و يشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقا، و هو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، و الشكر لا يكون إلّا في مقابلة النعمة، و قيل: لفظه لفظ الخبر، و معناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد للّه. و قال ابن قتيبة: (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، و أشباه ذلك. و الشكر: الثناء عليه بمعروف أو لاكه، و قد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال:
حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته.
فأما «الرّبّ» فهو المالك، و لا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة، فيقال: هذا ربّ الدار، و ربّ العبد. و قيل: هو مأخوذ من التّربية. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ: يقال: ربّ فلان صنيعته يربّها ربّا: إذا أتمّها و أصلحها، فهو ربّ و رابّ. قال الشاعر:
يربّ الذي يأتي من الخير إنه
إذا سئل المعروف زاد و تمّما
قال: و الرّبّ يقال على ثلاثة أوجه: أحدها: المالك. يقال: ربّ الدار. و الثاني: المصلح، يقال: ربّ الشيء. و الثالث: السّيد المطاع. قال تعالى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً «3» .
و الجمهور على خفض باء «ربّ». و قرأ أبو العالية، و ابن السّميفع، و عيسى بن عمر بنصبها. و قرأ أبو رزين العقيليّ، و الرّبيع بن خثيم «4» و أبو عمران الجوني، برفعها.
فأما الْعالَمِينَ فجمع عالم، و هو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم، و قد سمّوا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة:
أراح اللّه منك العالمينا «5»
(1) سقط من نسخ المطبوع، و الاستدراك عن كتب التراجم، و «تفسير القرطبي» 1/ 181 طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. و ابن أبي عبلة اسمه إبراهيم، تابعي ثقة، توفي سنة 152.
(2) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر، و وقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع». و المثبت هو الراجح، فإن الذهبي ضبطه كذلك، و هو إمام علم الحديث و الرجال من المتأخرين.
قال الذهبي في «الميزان» 3/ 575: محمد بن السّميفع اليماني، أحد القرّاء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الدّاني و غيره، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي.
(3) يوسف: 41.
(4) وقع في المطبوع هنا و بعد قليل: (خيثم) و التصويب عن «التقريب» و كتب التراجم.
(5) هو عجز بيت، و صدره: تنحي فاجلسي مني بعيدا.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 19
فأمّا أهل النظر، فالعالم عندهم: اسم يقع على الكون الكلّي المحدث من فلك، و سماء، و أرض، و ما بين ذلك.
و في اشتقاق «العالم» قولان: أحدهما: أنه من العلم، و هو يقوّي قول أهل اللغة. و الثاني: أنه من العلامة، و هو يقوّي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمّي عندهم بذلك، لأنه دالّ على خالقه.
و للمفسّرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول: أحدها: الخلق كلّه، السّماوات و الأرضون ما فيهنّ و ما بينهنّ. رواه الضحّاك عن ابن عباس. و الثاني: كلّ ذي روح دبّ على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. و الثالث: أنهم الجنّ و الإنس. روي أيضا عن ابن عباس، و به قال مجاهد، و مقاتل. و الرابع: أنهم الجنّ و الإنس و الملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، و اختاره ابن قتيبة. و الخامس: أنّهم الملائكة، و هو مرويّ عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3). قرأ أبو العالية، و ابن السّميفع، و عيسى بن عمر بالنصب فيهما، و قرأ أبو رزين العقيليّ، و الرّبيع بن خثيم، و أبو عمران الجونيّ بالرفع فيهما.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4). قرأ عاصم و الكسائيّ، و خلق و يعقوب: «مالك» بألف. و قرأ ابن السّميفع، و ابن أبي عبلة كذلك، إلّا أنهما نصبا الكاف. و قرأ أبو هريرة، و عاصم الجحدريّ: «ملك» بإسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، و قرأ أبو عثمان النّهديّ، و الشّعبيّ «ملك» بكسر اللام و نصب الكاف من غير ألف. و قرأ سعد بن أبي وقّاص، و عائشة، و مورّق العجليّ:
«ملك» مثل ذلك إلّا أنهم رفعوا الكاف. و قرأ أبيّ بن كعب، و أبو رجاء العطارديّ «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. و قرأ عمرو بن العاص كذلك، إلّا أنه ضمّ الكاف. و قرأ أبو حنيفة، و أبو حياة «ملك» على الفعل الماضي، «و يوم» بالنصب. و روى عبد الوارث عن أبي عمرو: إسكان اللام، و المشهور عن أبي عمرو و جمهور القراء «ملك» بفتح الميم مع كسر اللام، و هو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، و ليس كلّ مالك ملكا.
و في «الدّين» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الحساب. قاله ابن مسعود. و الثاني: الجزاء. قاله ابن عباس. و لما أخبر اللّه عزّ و جلّ في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ أنه مالك الدنيا. دلّ بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ على أنه مالك الأخرى. و قيل: إنما خصّ يوم الدّين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و قرأ الحسن، و أبو المتوكّل، و أبو مجلز «يعبد» بضم الياء و فتح الباء.
قال ابن الأنباريّ: المعنى: قل يا محمّد: إياك يعبد، و العرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب، و من الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ «1» ، و قوله: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «2» . و قال لبيد:
باتت تشكّى إليّ النفس مجهشة
و قد حملتك سبعا بعد سبعينا
و في المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى التّوحيد. روي عن عليّ، و ابن عباس في آخرين. و الثاني: أنها بمعنى الطّاعة، كقوله: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «3» . و الثالث: أنها بمعنى
(1) يونس: 22.
(2) الدهر: 21، 22.
(3) يس: 60.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 20
الدّعاء؛ كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «1» .
قوله تعالى: اهْدِنَا فيه أربعة أقوال: أحدها: ثبّتنا. قاله عليّ، و أبيّ. و الثاني: أرشدنا.
و الثالث: وفّقنا. و الرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.
و الصِّراطَ : الطريق. و يقال: إن أصله بالسّين، لأنه من الاستراط و هو: الابتلاع، فالسّراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأ بالسين، كمجاهد، و ابن محيصن، و يعقوب، فعلى أصل الكلمة، و من قرأ بالصاد، كأبي عمرو، و الجمهور، فلأنها أخفّ على اللّسان، و من قرأ بالزاي، كرواية الأصمعيّ عن أبي عمرو، و احتجّ بقول العرب: صقر و سقر و زقر. و روي عن حمزة: إشمام السين زايا، و روي عنه أنه تلفّظ بالصّراط بين الصاد و الزاي. قال الفرّاء: اللغة الجيدة بالصاد، و هي لغة قريش الأولى، و عامّة العرب يجعلونها سينا، و بعض قيس يشمّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد و السين، و كان حمزة يقرأ «الزّراط» بالزاي، و هي لغة لعذرة و كلب و بني القين. يقولون في «أصدق»: أزدق.
و في المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال:
(10) أحدها: أنه كتاب اللّه، رواه عليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
(10) المرفوع ضعيف، و الصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة، أشهرها حديث الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي اللّه عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه، و هو حبل اللّه المتين و هو الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة و لا تشبع منه العلماء، و لا يخلق عن كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن- أي لم يتوقفوا- في قبوله، و أنه كلام اللّه تعالى إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق و من عمل به أجر، و من حكم به عدل و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي 2906 و ابن أبي شيبة 10/ 482 و الدارمي 2/ 435 و البزار في مسنده 3/ 71- 72 و الفريابي في «فضائل القرآن» 81 و أبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف و الابتداء» 1/ 5- 6. و محمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص 157 و يحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 91 و البيهقي في «الشعب» 4/ 496- 497 من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد، و إسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد اللّه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات و إسناده مجهول، و في حديث الحارث مقال اه. و ورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي 2/ 435- 436 و الفريابي في «فضائل القرآن» 79، و البزار 3/ 70- 71 و أبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» 35. و أخرجه أحمد 1/ 91 و أبو يعلى 1/ 302- 303 و البزار 3/ 70 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. و أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 8/ 321 من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... و هذا إسناد ضعيف، فيه من لم يسم، و الظاهر أنه الحارث، و قال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18 بعد أن ذكر هذه الروايات و تكلم عليها: و قصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه و قد وهم بعضهم في رفعه، و هو كلام حسن صحيح اه.
و له شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 21 و ابن الضريس 58 و الحاكم 1/ 555 و الآجري في «أخلاق حملة القرآن» 11 و ابن حبان في «المجروحين» 1/ 100 و أبو الشيخ في «طبقات أصبهان» 4/ 252 و أبو الفضل الرازي 30 و أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 278 و ابن الجوزي في «العلل» 1/ 101- 102 و يحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 88 و البيهقي في «الشعب» 4/ 550.
و إسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، و هو لين الحديث. و الحديث صححه الحاكم، و قال الذهبي:
إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. و قال ابن الجوزي: يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. و قال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18: و هذا غريب من هذا الوجه، و إبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين، و لكن تكلموا فيه كثيرا، و قال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. و قال أبو الفتح الأزدي: رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير: فيحتمل- و اللّه أعلم- أن يكون و هم في رفع هذا الحديث و إنما هو من كلام ابن مسعود و لكن له شاهد من وجه آخر و اللّه أعلم اه.
- و الموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي 2/ 431 و الطبراني في «الكبير» 9/ 139 و أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 272 و أبو الفضل الرازي 31 و 32 و البيهقي في «الشعب» 4/ 549.
- و له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري 7570 و فيه عطية العوفي، و هو ضعيف، و الأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين، و قد أنكر الذهبي رحمه اللّه هذا الحديث، كونه مرفوعا، و صوّب ابن كثير فيه الوقف، و هو الراجح، و اللّه أعلم.