کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 20
الدّعاء؛ كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «1» .
قوله تعالى: اهْدِنَا فيه أربعة أقوال: أحدها: ثبّتنا. قاله عليّ، و أبيّ. و الثاني: أرشدنا.
و الثالث: وفّقنا. و الرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.
و الصِّراطَ : الطريق. و يقال: إن أصله بالسّين، لأنه من الاستراط و هو: الابتلاع، فالسّراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأ بالسين، كمجاهد، و ابن محيصن، و يعقوب، فعلى أصل الكلمة، و من قرأ بالصاد، كأبي عمرو، و الجمهور، فلأنها أخفّ على اللّسان، و من قرأ بالزاي، كرواية الأصمعيّ عن أبي عمرو، و احتجّ بقول العرب: صقر و سقر و زقر. و روي عن حمزة: إشمام السين زايا، و روي عنه أنه تلفّظ بالصّراط بين الصاد و الزاي. قال الفرّاء: اللغة الجيدة بالصاد، و هي لغة قريش الأولى، و عامّة العرب يجعلونها سينا، و بعض قيس يشمّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد و السين، و كان حمزة يقرأ «الزّراط» بالزاي، و هي لغة لعذرة و كلب و بني القين. يقولون في «أصدق»: أزدق.
و في المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال:
(10) أحدها: أنه كتاب اللّه، رواه عليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
(10) المرفوع ضعيف، و الصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة، أشهرها حديث الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي اللّه عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه، و هو حبل اللّه المتين و هو الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة و لا تشبع منه العلماء، و لا يخلق عن كثرة الرد، و لا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن- أي لم يتوقفوا- في قبوله، و أنه كلام اللّه تعالى إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق و من عمل به أجر، و من حكم به عدل و من دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي 2906 و ابن أبي شيبة 10/ 482 و الدارمي 2/ 435 و البزار في مسنده 3/ 71- 72 و الفريابي في «فضائل القرآن» 81 و أبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف و الابتداء» 1/ 5- 6. و محمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص 157 و يحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 91 و البيهقي في «الشعب» 4/ 496- 497 من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد، و إسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد اللّه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات و إسناده مجهول، و في حديث الحارث مقال اه. و ورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي 2/ 435- 436 و الفريابي في «فضائل القرآن» 79، و البزار 3/ 70- 71 و أبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» 35. و أخرجه أحمد 1/ 91 و أبو يعلى 1/ 302- 303 و البزار 3/ 70 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. و أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 8/ 321 من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... و هذا إسناد ضعيف، فيه من لم يسم، و الظاهر أنه الحارث، و قال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18 بعد أن ذكر هذه الروايات و تكلم عليها: و قصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه و قد وهم بعضهم في رفعه، و هو كلام حسن صحيح اه.
و له شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 21 و ابن الضريس 58 و الحاكم 1/ 555 و الآجري في «أخلاق حملة القرآن» 11 و ابن حبان في «المجروحين» 1/ 100 و أبو الشيخ في «طبقات أصبهان» 4/ 252 و أبو الفضل الرازي 30 و أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 278 و ابن الجوزي في «العلل» 1/ 101- 102 و يحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 88 و البيهقي في «الشعب» 4/ 550.
و إسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، و هو لين الحديث. و الحديث صححه الحاكم، و قال الذهبي:
إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. و قال ابن الجوزي: يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. و قال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18: و هذا غريب من هذا الوجه، و إبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين، و لكن تكلموا فيه كثيرا، و قال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. و قال أبو الفتح الأزدي: رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير: فيحتمل- و اللّه أعلم- أن يكون و هم في رفع هذا الحديث و إنما هو من كلام ابن مسعود و لكن له شاهد من وجه آخر و اللّه أعلم اه.
- و الموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي 2/ 431 و الطبراني في «الكبير» 9/ 139 و أبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 272 و أبو الفضل الرازي 31 و 32 و البيهقي في «الشعب» 4/ 549.
- و له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري 7570 و فيه عطية العوفي، و هو ضعيف، و الأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين، و قد أنكر الذهبي رحمه اللّه هذا الحديث، كونه مرفوعا، و صوّب ابن كثير فيه الوقف، و هو الراجح، و اللّه أعلم.
(1) غافر: 60.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 21
و الثاني: أنه دين الإسلام. قاله ابن مسعود، و ابن عباس، و الحسن، و أبو العالية في آخرين.
و الثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين اللّه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، و به قال مجاهد. و الرابع: أنه طريق الجنّة، نقل عن ابن عباس أيضا. فإن قيل: ما معنى سؤال المسلمين الهداية و هم مهتدون؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: اهدنا لزوم الصّراط، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباريّ. و الثاني: أن المعنى: ثبّتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك. و الثالث: أن المعنى: زدنا هداية.
قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . قال ابن عباس: هم النبيّون، و الصّدّيقون، و الشّهداء، و الصّالحون. و قرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، و كذلك «لديهم» و «إليهم» و قرأهنّ حمزة بضمّها.
و كان ابن كثير يصل «1» ضمّ الميم بواو. و قال ابن الأنباريّ: حكى اللّغويون في «عليهم» عشر لغات، قرئ بعامّتها «عليهم» بضم الهاء و إسكان الميم «و عليهم» بكسر الهاء و إسكان الميم، و «و عليهمي» بكسر الهاء و الميم و إلحاق ياء بعد الكسرة، و «عليهمو» بكسر الهاء و ضمّ الميم و زيادة واو بعد الضمّة، و «عليهمو» بضم الهاء و الميم و إدخال واو بعد الميم، و «عليهم» بضم الهاء و الميم من غير زيادة واو، و هذه الأوجه الستة مأثورة عن القرّاء، و أوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهمي» بضم الهاء و كسر الميم و إدخال ياء بعد الميم، و «عليهم» بضم الهاء و كسر الميم من غير زيادة ياء، و «عليهم» بكسر الهاء و ضمّ الميم من غير إلحاق واو، و «عليهم» بكسر الهاء و الميم و لا ياء بعد الميم.
(11) فأمّا «المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و «الضّالون»: النّصارى. رواه عديّ بن حاتم عن (11) صحيح. أخرجه الترمذي 2954 و أحمد 4/ 378- 379 و ابن حبان 7206 و البيهقي في «الدلائل» 5/ 339 341 و الطبراني 17/ 237 من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم، و النصارى ضلال»، و حسّن إسناده الترمذي. و قال الهيثمي في «المجمع» 5/ 335: رجال أحمد رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، و هو ثقة اه. و توبع عباد عند الطبري 207 و قد تقدم و من وجه آخر 209 فهو صحيح.
و يشهد له ما أخرجه أحمد 5/ 32- 33 و الطبري 212 و عبد الرزاق في «تفسيره» 13 عن عبد اللّه بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو بوادي القرى، و هو على فرسه فسأله رجل من بلقين، فقال: يا رسول اللّه: «من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم- و أشار إلى اليهود- قال: فمن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالين- يعني النصارى- قال: و جاء رجل فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها». و إسناده إليه صحيح و جهالة الصحابي لا تضر. و انظر «المجمع» 10809 و 10810. و انظر «تفسير الشوكاني» 1/ 29 بتخريجنا.
(1) قال السيوطي في «الدر» 1/ 42: و أخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء و ضم الميم مع إلحاق الواو. و أخرج أيضا عن ابن إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء و الميم من غير إلحاق واو.
و انظر «تفسير الشوكاني» 1/ 29.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 22
النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. قال ابن قتيبة: و الضّلال: الحيرة و العدول عن الحقّ.
فصل: و من السّنّة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين». قال شيخنا أبو الحسن عليّ بن عبيد اللّه: و سواء كان خارج الصلاة أو فيها.
(12) لما روى أبو هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم و لا الضّالين) فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدّم من ذنبه».
و في معنى «آمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباريّ عن ابن عباس، و الحسن. و الثاني: أنها بمعنى: اللهمّ استجب. قاله الحسن و الزّجّاج. و الثالث: أنه اسم من أسماء اللّه تعالى. قاله مجاهد، و هلال بن يساف، و جعفر بن محمّد.
و قال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «1» ، تأويله: يا يوسف. و من طوّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال: آ زيد أقبل: و معناه: يا زيد. قال ابن الأنباريّ: و هذا القول خطأ عند جميع النّحويين، لأنه إذا أدخل «يا» على «آمين» كان منادى مفردا، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دلّ على أنه غير منادى، و إنما فتحت نون «آمين» لسكونها و سكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب:
ليت، و لعلّ. قال: و في «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، و «آمين» بالمدّ، و النون فيهما مفتوحة. أنشدنا أبو العبّاس عن ابن الأعرابيّ:
سقى اللّه حيّا بين صارة و الحمى
حمى فيد صوب المدجنات المواطر «2»
أمين و أدّى اللّه ركبا إليهم
بخير و وقّاهم حمام المقادر
(12) صحيح. أخرجه البخاري 780- 781- 782- 6402 و مسلم 410 و أبو داود 936 و الترمذي 250 و النسائي 2/ 143- 144 و ابن ماجة 852 و مالك 1/ 87 و الشافعي في «المسند» 1/ 76 و عبد الرزاق في «المصنّف» 2644 و أحمد 2/ 233، و الدارمي 1/ 284 و ابن حبان 1804 و البيهقي في «السنن» 2/ 57 عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» قال ابن شهاب و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «آمين». لفظ البخاري.
(1) يوسف: 29.
(2) الدّاجنة: المطرة المطبقة كالدّيمة. و الدّجن: إلباس الغيم الأرض و أقطار السماء، و المطر الكثير.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 23
و أنشدنا أبو العبّاس أيضا:
تباعد منّي فطحل و ابن أمّه
أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا
و أنشدنا أبو العبّاس أيضا:
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا
و أنشدني أبي:
أمين و من أعطاك منّي هوادة
رمى اللّه في أطرافه فاقفعلّت «1»
و أنشدني أبي:
فقلت له قد هجت لي بارح الهوى
أصاب حمام الموت أهوننا وجدا
أمين و أضناه الهوى فوق ما به
أمين و لاقى من تباريحه جهدا
فصل: نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحّة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته و هو قول مالك، و الشّافعيّ. و قال أبو حنيفة رحمه اللّه: لا تتعيّن، و هي رواية عن أحمد «2» .
(13) و يدلّ على الرواية الأولى: ما روي في «الصّحيحين» من حديث عبادة بن الصّامت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
(13) صحيح. أخرجه البخاري 756 و مسلم 394 و أبو داود 822 و النسائي 2/ 137 و الدارمي 1/ 283 و ابن ماجة 837 و ابن الجارود 185 و الحميدي 386 و الشافعي 1/ 75 و أحمد 5/ 314- 321 و ابن حبّان 1782 و 1786 كلهم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». و رواية لمسلم «لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن». و انظر «تفسير القرطبي» 1/ 154- 157 بتخريجي.
(1) في «القاموس» اقفعلّت يداه اقفعلالا: تشنجت و تقبّضت.
(2) قال القرطبي رحمه اللّه في «تفسيره» 1/ 157- 160.: و اختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك و أصحابه: هي متعيّنة للإمام و المنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل و لا تجزيه. و اختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية؛ فقال مرة: يعيد الصلاة، و قال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة و يأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. و قال أبو الحسن البصري: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه و لم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن و هي تامة لقوله عليه السلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» و هذا قد قرأ بها. قلت: و يحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة و هو الصحيح على ما يأتي. و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها و قرأ غيرها أجزأه؛ على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك.
و قال أبو يوسف و محمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدّين. و الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي و أحمد و مالك في القول الآخر و أن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم؛ لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» و قوله: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثلاثا.
و قال أبو هريرة: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن أنادي أنه: «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة و لا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 24
سورة البقرة
(فصل في فضيلتها) (14) روى أبو هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان».
(15) و روى أبو أمامة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال: «أقرأوا الزّهراوين: البقرة و آل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ، اقرءوا البقرة، فإنّ أخذها بركة، و تركها حسرة، و لا تستطيعها البطلة». و المراد بالزّهراوين: المنيرتين. يقال لكل منير: زاهر. و الغياية:
كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، مثل السّحابة و الغبرة. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلّوه به. قال لبيد:
فتدلّيت عليه قافلا
و على الأرض غيايات الطّفل
و معنى فرقان: قطعتان. و الفرق: القطعة من الشيء. قال اللّه عزّ و جلّ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» . و الصوّاف: المصطفّة المتضامّة لتظلّ قارئها. و البطلة: السّحرة.
(فصل في نزولها) قال ابن عباس: هي أوّل ما نزل بالمدينة، و هذا قول الحسن، و مجاهد، و عكرمة، و جابر بن زيد، و قتادة، و مقاتل. و ذكر قوم أنها مدنية سوى آية، و هي قوله عزّ و جلّ: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «2» ، فإنها نزلت يوم النّحر بمنى في حجّة الوداع.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فصل: و أمّا التفسير فقوله: الم . اختلف العلماء فيها و في سائر الحروف المقطّعة في أوائل (14) صحيح. أخرجه مسلم 780 و الترمذي 2877، و النسائي في «الكبرى» 6/ 10801.
(15) صحيح. أخرجه مسلم 804 من حديث أبي أمامة.
(1) الشعراء: 63.
(2) البقرة: 281.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 25
السور على ستة أقوال «1» : أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلّا اللّه. قال أبو بكر الصّديق رضي اللّه عنه: للّه عزّ و جلّ في كل كتاب سرّ، و سرّ اللّه في القرآن أوائل السّور، و إلى هذا المعنى ذهب الشّعبيّ، و أبو صالح، و ابن زيد. و الثاني: أنها حروف من أسماء، فإذا ألّفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء اللّه عزّ و جلّ. قال عليّ بن أبي طالب: هي أسماء مقطّعة، لو علم الناس تأليفها علموا اسم اللّه الذي إذا دعي به أجاب. و سئل ابن عباس عن «الر» و «حم» و «نون»، فقال: اسم الرحمن على الهجاء، و إلى نحو هذا ذهب أبو العالية، و الرّبيع بن أنس. و الثالث: أنها حروف أقسم اللّه بها، قاله ابن عباس، و عكرمة. قال ابن قتيبة: و يجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطّعة كلّها، و اقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت «أ ب ت ث» و هو يريد سائر الحروف، و كما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسمّيها بأوّل حرف منها، و إنما أقسم بحروف المعجم لشرفها، و لأنها مباني كتبه المنزّلة، و بها يذكر و يوحّد. قال ابن الأنباريّ: و جواب القسم محذوف، تقديره: و حروف المعجم لقد بيّن اللّه لكم السبيل، و أنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزّل، و إنما حذف لعلم المخاطبين به، و لأن في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ دليلا على الجواب. و الرابع: أنه أشار بما ذكر من الحروف إلى سائرها، و المعنى: أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلّف، أخبر أن هذا القرآن إنما هو مؤلّف من هذه الحروف، قاله الفرّاء، و قطرب. فإن قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبّه بذلك على إعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلّفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فإذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد عليه السلام.
(1) قال ابن كثير رحمه اللّه في «تفسيره» 1/ 35- 37: قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السّور. فمنهم من قال هي مما استأثر اللّه بعلمه فردوا علمها إلى اللّه و لم يفسروها. و منهم من فسّرها، و اختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور. و قال الزمخشري في «تفسيره»: و عليه إطباق الأكثر و يعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم) السجدة، و (هل أتى على الإنسان). و قال سفيان الثوري آلم، حم، و المص، و ص، فواتح افتتح اللّه بها القرآن. و في رواية عن ابن أبي نجيح أنه قال: آلم اسم من أسماء القرآن.
و لعل هذا يرجع إلى معنى القول اسم من أسماء السور فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم السامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن و اللّه أعلم. و قيل هي اسم من أسماء اللّه تعالى قال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال: آلم اسم اللّه الأعظم. و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم اللّه به و هو من أسماء اللّه تعالى. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا و هي يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.
و هي نصف الحروف عددا و المذكور منها أشرف من المتروك. قال الزمخشري: و هذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة و المجهورة و من الرخوة و الشديدة و من المطبقة و المفتوحة ... و قد سردها مفصلة ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. و لم ترد كلها مجموعة في أول القرآن و إنما كررت ليكون أبلغ في التحدي و التبكيت. و أما من زعم أنها دالة على معرفة المدد و أنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره. و قد ورد في ذلك حديث ضعيف و هو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. و هو ممن لا يحتج به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها و ذلك يبلغ منه جملة كثيرة و إن حسبت مع التكرار فأطم و أعظم. و اللّه أعلم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 26
و الخامس: أنها أسماء للسّور. روي عن زيد بن أسلم، و ابنه، و أبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ. و السادس: أنها من الرّمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. و أنشدوا:
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف «1»
أراد: قالت: أقف. و مثله:
نادوهم أن ألجموا ألا تا
قالوا جميعا كلّهم بلى فا
يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. و مثله:
بالخير خيرات و إن شرا فا
و لا أريد الشرّ إلّا أن تا
معناه: و إنّ شرا فشرّ و لا أريد الشرّ إلا أن تشاء. و إلى هذا القول ذهب الأخفش، و الزّجّاج، و ابن الأنباريّ. و قال أبو روق عطيّة بن الحارث الهمدانيّ «2» :
(16) كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، و كان المشركون يصفّقون و يصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطّعة، فسمعوها فبقوا متحيّرين. و قال غيره: إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه، لأن النفوس تتطلّع إلى ما غاب عنها. معناه: فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بدّ له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطب، فهذا الكلام يعمّ جميع الحروف.
و قد خصّ المفسّرون قوله «الم» بخمسة أقوال «3» : أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا اللّه عزّ و جلّ، و قد سبق بيانه. و الثاني: أن معناه: أنا اللّه أعلم. رواه أبو الضّحى عن ابن عباس، و به قال ابن مسعود، و سعيد بن جبير. و الثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، و خالد الحذّاء عن عكرمة. و الرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أحدهما: أن الألف من «اللّه» و اللام من «جبريل» و الميم من «محمّد»، قاله ابن عبّاس. فإن قيل: إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به، فلم أخذت اللام من جبريل و هي آخر الاسم؟! فالجواب: أن مبتدأ القرآن من اللّه تعالى، فدلّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، و جبريل انختم به التنزيل و الإقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و «محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حروفه. و القول الثاني: أن الألف من «اللّه» تعالى، و اللام من «لطيف» و الميم من «مجيد» قاله أبو العالية. و الخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، و الشّعبيّ، و قتادة، و ابن جريج.
(16) لم أقف على إسناده إلى أبي روق، و أبو روق تابعي، فالخبر مرسل، و المرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
(1) صدر بيت و عجزه «لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف».
(2) نسبة إلى همدان، و هي قبيلة يمنية، و أما همذان- بفتحات و بالذال، فهي مدينة في فارس.