کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 261
و قد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ «و يقول الرّاسخون في العلم آمنّا به» و إلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، و ابن عباس، و عروة، و قتادة، و عمر بن عبد العزيز، و الفرّاء، و أبو عبيدة، و ثعلب، و ابن الأنباريّ، و الجمهور. قال ابن الأنباريّ: في قراءة عبد اللّه «إن تأويله، إلّا عند اللّه» و في قراءة أبيّ، و ابن عباس «و يقول الرّاسخون» و قد أنزل اللّه تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، و قوله تعالى: وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» فأنزل تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، و يكفر به الكافر، فيشقى. و الثاني: أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. و قد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممّن يعلم تأويله، و هذا قول مجاهد، و الرّبيع، و اختاره ابن قتيبة، و أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن الأنباريّ: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، و لا تصح روايته التفسير عن مجاهد.
[سورة آلعمران (3): الآيات 8 الى 9]
قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي يقولون: ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا. قال أبو عبد الرحمن السّلميّ، و ابن يعمر، و الجحدريّ «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. و لدنك: بمعنى عندك. و الوهّاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، و المخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، و لا ولدا لعقيم، و اللّه تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء.
[سورة آلعمران (3): آية 10]
قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، و كذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، و لا ولده. و قوله تعالى: مِنَ اللَّهِ أي:
من عذابه
[سورة آلعمران (3): آية 11]
قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ، في الدّأب قولان: أحدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل
(1) الفرقان: 38.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 262
فرعون، يريد: كفر اليهود. ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة. و قال ابن الأنباريّ: و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود ككفر آل فرعون. و الثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء و هو اجتهادهم في كفرهم، و تظاهرهم على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزّجّاج.
[سورة آلعمران (3): آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قرأ ابن كثير، و عاصم، و أبو عمرو، و ابن عامر سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ بالتاء و يَرَوْنَهُمْ بالياء، و قرأ نافع ثلاثتهنّ بالتاء! و قرأهنّ حمزة، و الكسائيّ بالياء. و في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(154) أحدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، همّوا بالإسلام، و قالوا: هذا هو النبيّ الذي نجده في كتابنا، لا تردّ له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أحد، شكّوا، و قالوا: ما هو به، و نقضوا عهدا كان بينهم و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و انطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
(155) و الثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقّق اللّه وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، و الضّحّاك.
(156) و الثالث: أن أبا سفيان في جماعة ن قريش، جمعوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب.
[سورة آلعمران (3): آية 13]
قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال «1» : أحدها:
(154) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 191 قال الكلبي قال أبو صالح قال ابن عباس. و هذا الإسناد ساقط، الكلبي متروك متهم، و أبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس. و ورد من وجه آخر، أخرجه الطبري 6663 و فيه محمد بن أبي محمد، و هو مجهول. و ورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 6664، و ورد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 6667. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
(155) ذكره الماوردي في «تفسيره» عن ابن عباس و الضحاك بدون إسناد. فهذا الخبر لا شيء لخلوه عن الإسناد.
- و القول المتقدم هو الصواب، فإن الآية الآتية تدل على أن ذلك كان بعد بدر.
(156) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، و هو الكلبي و اسمه محمد، و هو متروك متهم بالكذب، فهذا الأثر لا شيء. و القول الأول هو الصواب، و اللّه أعلم.
(1) قال ابن كثير رحمه اللّه 1/ 350: يقول اللّه تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية أي دلالة على أن اللّه معزّ دينه، و ناصر رسوله، و مظهر كلمته، و معدل أمره.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 263
أنهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، و الحسن. و الثاني: الكفار، فيكون معطوفا على الذي قبله، و هو يخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا. و الثالث: أنهم اليهود، ذكره الفرّاء، و ابن الأنباريّ، و ابن جرير. فإن قيل: لم قال قَدْ كانَ لَكُمْ و لم يقل قد كانت لكم: فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّ ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. و الثاني: أنه ردّ المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى، و ترك اللفظ، و أنشدوا:
إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة
بعدي و بعدك في الدّنيا لمغرور
و قد سبق معنى «الآية»، و «الفئة» و كل مشكل تركت شرحه، فإنك تجده فيما سبق، و المراد بالفئتين: النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، و مشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة و الجماعة.
و في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قولان: أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفرّاء، و احتجّ بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، و أحتاج إلى مثليه، فإنك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. و الثاني: أن معناه يرونهم و مثلهم، قال الزّجّاج: و هو الصحيح.
قوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأيا، و رؤية. و اختلفوا في الفئة الرّائية على ثلاثة أقوال: هي التي ذكرناها في قوله تعالى:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فإن قلنا: إن الفئة الرّائية المسلمون، فوجهه أنّ المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم اللّه، و كذلك إن قلنا: إنهم اليهود. و إن قلنا:
إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. و قد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباريّ: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفرّاء: و يجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، و إن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ لأنّ العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى الخطاب. و قد شرحنا هذا في «الفاتحة» و غيرها. فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين، و إنّ المسلمين استكثروا المشركين، و قد بيّن قوله تعالى: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» أنّ الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال، و استقلّوهم في حال، فإن قلنا: إن الفئة الرّائية المسلمون، فإنّهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه، ثم قلّل اللّه المشركين في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فنصرهم اللّه بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. و قال في رواية أخرى: لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلا فقلت:
كم كنتم؟ قال: ألفا. و إن قلنا: إنّ الفئة الرّائية المشركون فإنهم استقلّوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، و استكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، و قد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة و ثلاثة عشر. قالوا: ما كنّا نراكم إلا تضعفون علينا.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ ، أي: يقوّي، إِنَّ فِي ذلِكَ في الإشارة قولان: أحدهما: أنها
(1) الأنفال: 44.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 264
ترجع إلى النّصر. و الثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم. و العبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدّية إلى العلم، و هي من العبور، كأنه طريق يعبر به و يتوصّل به المراد. و قيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى العلم. و الأبصار: العقول و البصائر.
[سورة آلعمران (3): آية 14]
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قرأ أبو رزين العقيليّ و أبو رجاء العطارديّ، و مجاهد، و ابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حبّ» بنصب الباء، و قد سبق في «البقرة» بيان التّزيين. و القناطير:
جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية، و أحسب أنه معرّب. و اختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولا:
(157) أحدها: أنه ألف و مائتا أوقيّة، رواه أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و به قال معاذ بن جبل، و ابن عمر، و عاصم بن أبي النّجود، و الحسن في رواية.
(158) و الثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و عن أبي هريرة كالقولين، و في رواية عن أبي هريرة أيضا: اثنا عشر أوقيّة.
(159) و الثالث: أنه ألف و مائتا دينار، ذكره الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و رواه العوفيّ عن ابن عباس.
و الرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، و روي عن الحسن، و الضّحّاك، كهذا القول، و الّذي قبله. و الخامس: أنه سبعون ألف دينار، روي عن ابن عمر، و مجاهد. و السادس: ثمانون ألف درهم، أو مائة رطل من الذّهب، روي عن سعيد بن المسيّب، و قتادة. و السابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. و الثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السّدّيّ. و التاسع:
أنه ألف مثقال ذهب أو فضّة، قاله الكلبيّ. و العاشر: أنه ملء مسك ثور ذهبا، قاله أبو نضرة، و أبو عبيدة. و الحادي عشر: أن القنطار: رطل من الذّهب، أو الفضّة، حكاه ابن الأنباريّ.
(157) أخرجه الطبري 6698 و إسناده ضعيف جدا. له علتان: علي بن زيد و عنه مخلد بن عبد الواحد، و هذا الأخير منكر الحديث جدا، و الأول ضعيف. و قد رجح ابن كثير رحمه اللّه فيه الوقف 1/ 359 فقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا. و شدة الاختلاف في ذلك يدل على عدم صحة المرفوع أصلا، و انظر مزيد الكلام عليه في تفسير ابن كثير بتخريجي عند هذه الآية. و انظر «تفسير الشوكاني» 476.
(158) أخرجه الترمذي 3023 و الحاكم 2/ 300 و الطبري 8368 و عبد الرزاق في «تفسيره» 498 و الواحدي 285 من حديث أم سلمة، و صححه الحاكم، و وافقه الذهبي. و هو حديث حسن. قال عبد الرزاق في روايته، و كذا الترمذي و الطبري: عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة. و أما الواحدي فقال: عن سلمة بن عمر رجل من ولد أم سلمة. و صححه الألباني و أورده في صحيح الترمذي، و اللّه أعلم.
(159) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 6699 عن الحسن مرسلا، و مع إرساله مراسيل الحسن واهية، و كرره الطبري 6700 عن الحسن قوله، و هو الصحيح.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 265
و القول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. و قال الرّبيع بن أنس «1» : القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، و روي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحدّ، و هذا اختيار ابن جرير الطّبريّ. قال ابن الأنباريّ قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمة من المال.
و في معنى المقنطرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المضعّفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، و المقنطرة تسعة، و هذا قول الفرّاء. و الثاني: أنها المكمّلة، كما تقول: بدرة مبدّرة، و ألف مؤلّفة، و هذا قول ابن قتيبة. و الثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير و دراهم، قاله السّدّيّ.
في المسوّمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الرّاعية، رواه العوفيّ عن ابن عباس، و به قال سعيد بن جبير، و مجاهد في رواية، و الضّحّاك، و السّدّيّ، و الرّبيع، و مقاتل. قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، و هي سائمة: إذا رعت، و أسمتها و هي مسامة، و سوّمتها، فهي مسوّمة: إذا رعيتها، و المسوّمة في غير هذا: المعلّمة في الحرب بالسّومة و بالسّيماء أي: بالعلامة. و الثاني: أنها المعلّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، و به قال قتادة، و اختاره الزّجّاج، و عن الحسن كالقولين و في معنى المعلّمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معلّمة بالشّية، و هو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة.
و الثاني: بالكيّ، روي عن المؤرج. و الثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. و الثالث: أنها الحسان، قاله عكرمة، و مجاهد.
فأمّا الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، و البقر، و الغنم، واحدها نعم و هو جمع لا واحد له من لفظه. و المآب: المرجع. و هذه الأشياء المذكورة قد تحسن نيّة العبد بالتّلبس بها، فيثاب عليها، و إنما يتوجّه الذّم إلى سوء القصد فيها.
[سورة آلعمران (3): آية 15]
قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ، روى عطاء بن السّائب عن أبي بكر بن حفص قال:
لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قال عمر: يا ربّ الآن حين زيّنتها؟! فنزلت: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ و وجه الآية أنه خبّر أنّ ما عنده خير ممّا في الدنيا، و إن كان محبوبا، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرّضوان فقرأ عاصم، إلا حفصا و أبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، و استثنى يحيى و العليميّ كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ «2» ، و قراء الباقون بكسر الراء، و الكسر لغة قريش. قال الزّجّاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضى و مرضاة و رضوانا و رضوانا، وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم.
(1) قال القرطبي رحمه اللّه 4/ 33: و قال الربيع بن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، و هذا المعروف عند العرب و منه قوله تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي مالا كثيرا. و منه الحديث- الأثر- «إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية و قنطر أبوه») أي صار له قنطار من المال.
(2) المائدة: 16.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 266
[سورة آلعمران (3): الآيات 16 الى 17]
قوله تعالى: الصَّابِرِينَ أي: على طاعة اللّه عز و جل، و عن محارمه وَ الصَّادِقِينَ في عقائدهم و أقوالهم وَ الْقانِتِينَ بمعنى المطيعين للّه وَ الْمُنْفِقِينَ في طاعته. و قال ابن قتيبة يعني: بالنّفقة الصّدقة. و في معنى استغفارهم قولان: أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان، قاله ابن مسعود، و الحسن في آخرين. و الثاني: أنه الصّلاة. قاله مجاهد، و قتادة، و الضّحّاك و مقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سمّيت الصلاة استغفارا، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السّحر، فقال إبراهيم بن السّريّ:
السّحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، و هو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم اللّه بهذه الطاعات، ثم وصفهم بأنهم لشدّة خوفهم يستغفرون.
[سورة آلعمران (3): آية 18]
قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ .
(160) سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشّام قدما النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، عرفاه بالصّفة، فقالا: أنت محمّد؟ قال: «نعم». قالا: و أحمد؟ قال: «نعم». قالا: نسألك عن شهادة، فإن أخبرتنا بها، آمنّا بك، فقال: «سلاني». فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السّائب.
و قال غيره: هذه الآية ردّ على نصارى نجران فيما ادّعوا في عيسى عليه السلام، و قد سبق ذكر خبرهم في أوّل السّورة. و قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما، و كان لكل حيّ من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية، خرّت الأصنام سجّدا. و في معنى شَهِدَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه بمعنى قضى و حكم، قاله مجاهد و الفرّاء و أبو عبيدة. و الثاني: بمعنى بيّن، قاله ثعلب و الزّجّاج. قال ابن كيسان: شهد اللّه بتدبيره العجيب، و أموره المحكمة عند خلقه، أنه لا إله إلا هو. و سئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصّانع؟ فقال: إن البعرة تدلّ على البعير، و آثار القدم تدلّ على المسير، فهيكل علويّ بهذه اللطافة، و مركز سفليّ بهذه الكثافة، أما يدلّان على الصّانع الخبير؟! و قرأ ابن مسعود و أبيّ بن كعب و عاصم الجحدريّ (شهداء اللّه) بضمّ «الشين» و فتح «الهاء و الدال» و بهمزة مرفوعة بعد المدّ، و خفض «الهاء» من اسم اللّه تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل.
قال جعفر الصّادق: و إنما كرّر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الأولى وصف و توحيد، و الثانية رسم و تعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
(160) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسبابه» 193 عن الكلبي و هو محمد بن السائب، و تقدم أنه يضع الحديث.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 267
[سورة آلعمران (3): آية 19]
قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الجمهور على كسر «إن» إلا الكسائيّ، فإنه فتح «الألف»، و هي قراءة ابن مسعود، و ابن عباس، و أبي رزين، و أبي العالية، و قتادة. قال أبو سليمان الدّمشقيّ: لما ادّعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهوديّة، و ادّعت النّصارى أنه لا دين أفضل من النّصرانية، نزلت هذه الآية. قال الزّجّاج: الدّين: اسم لجميع ما تعبّد اللّه به خلقه، و أمرهم بالإقامة عليه، و أن يكون عادتهم، و به يجزيهم. و قال شيخنا عليّ بن عبيد اللّه: الدّين: ما التزمه العبد للّه عزّ و جلّ. قال ابن قتيبة: و الإسلام الدّخول في السّلم، أي: في الانقياد و المتابعة، و مثله الاستسلام، يقال: سلّم فلان لأمرك، و استسلم، و أسلم، كما تقول: أشتى الرجل، أي: دخل في الشّتاء، و أربع:
دخل في الرّبيع. و في الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله الرّبيع. و الثاني: أنهم النّصارى، قاله محمّد بن جعفر بن الزّبير. و الثالث: أنهم اليهود، و النّصارى، قاله ابن السّائب. و قيل:
الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتاب. و في الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال: أحدها: دينهم. و الثاني:
أمر عيسى. و الثالث: دين الإسلام، و قد عرفوا صحّته. و الرابع: نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قد عرفوا صفته.
قوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه بَغْياً بَيْنَهُمْ قال الزّجّاج:
معناه: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان، و قد ذكرنا في «البقرة» معنى: سريع الحساب.
[سورة آلعمران (3): آية 20]
قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك، و خاصموك. قال مقاتل: يعني اليهود، قال ابن جرير:
يعني نصارى نجران في أمر عيسى، و قال غيرهما: اليهود و النّصارى. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ قال الفرّاء:
معناه: أخلصت عملي، و قال الزّجّاج: قصدت بعبادتي إلى اللّه.
قوله تعالى: وَ مَنِ اتَّبَعَنِ أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة و البصرة، و ابن شنبوذ عن قنبل، و وقف ابن شنبوذ و يعقوب بياء. قال الزّجّاج: و الأحبّ إليّ اتّباع المصحف. و ما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: وَ مَنِ اتَّبَعَنِ و لَئِنْ أَخَّرْتَنِ و رَبِّي أَكْرَمَنِ و رَبِّي أَهانَنِ . فهو على ضربين: أحدهما: ما كان مع النون، فإن كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، و يسمّون أواخر الآي الفواصل، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى:
و من شانئ كاسف باله
إذا ما انتسبت له أنكرن «1»
و هل يمنعني ارتيادي البلا
د من حذر الموت أن يأتين
فأمّا إذا لم يكن آخر آية أو قافية، فالأكثر إثبات الياء، و حذفها جيد أيضا، خاصة مع النّونات، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» و لكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء،