کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 494
[سورة النساء (4): آية 155]
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» صلة مؤكّدة. قال الزجّاج: و المعنى: فبنقضهم ميثاقهم، و هو أنّ اللّه أخذ عليهم الميثاق أن يبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره. و الجالب للباء العامل فيها، و قوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» أي: بنقضهم ميثاقهم، و الأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم. و قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ «2» بدل من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ . و جعل اللّه جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. و قال ابن فارس: الطّبع: الختم و من ذلك طبع اللّه على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى و لا نور فلم يوفق لخير، و الطابع: الخاتم يختم به. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إلّا القليل، و هم عبد اللّه بن سلّام، و أصحابه، قاله ابن عباس. و الثاني: المعنى: إيمانهم قليل، و هو قولهم: ربّنا اللّه، قاله مجاهد.
[سورة النساء (4): آية 156]
وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ في إعادة ذكر الكفر فائدة و فيها قولان: أحدهما: أنه أراد: و بكفرهم بمحمّد و القرآن، قاله ابن عباس. و الثاني: و بكفرهم بالمسيح، و قد بشّروا به، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزّنى.
[سورة النساء (4): الآيات 157 الى 158]
قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قال الزجّاج: أي باعترافهم بقتلهم إيّاه، و ما قتلوه، يعذّبون عذاب من قتل، لأنّهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي.
و في قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه. و الثاني: أنه من قول اللّه، لا على وجه الحكاية عنهم.
قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: ألقي شبهه على غيره. و فيمن ألقي عليه شبهه قولان:
أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن عباس: أنّ اليهود لمّا اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها روزنة «3» ، و دخل وراءه رجل منهم، فألقى اللّه عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه، قتلوه يظنّونه عيسى، ثم صلبوه، و بهذا قال مقاتل و أبو سليمان. و الثاني: أنه رجل من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنّ عيسى خرج على أصحابه لمّا أراد اللّه رفعه، فقال: أيّكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، و يكون معي في درجتي؟ فقام شابّ، فقال:
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة النساء: 160.
(3) الروزنة: الكوّة، و قيل: الخرق في أعلى السقف، و يقال للكوّة النافذة: الرّوزن.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 495
أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشابّ، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد، فقال الشابّ: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، و رفع عيسى، و جاء اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه «1» . و بهذا القول قال وهب بن منبه، و قتادة، و السّدّي.
قوله تعالى: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في المختلفين قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ و في سبب اختلافهم في ذلك قولان: أحدهما: أنهم لمّا قتلوا الشخص المشبّه كان الشّبه قد ألقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه عيسى، و الجسد جسد غيره، ذكره ابن السّائب.
و الثاني: أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ و إن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السّدّي. و الثاني: أنّ «الهاء» كناية عن عيسى، و اختلافهم فيه قول بعضهم:
هو ولد زنى، و قول بعضهم، هو ساحر.
و الثاني: أنّ المختلفين النّصارى، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى قتله، هل قتل أم لا؟ و الثاني: أنها ترجع إليه، هل هو إله أم لا؟
و في هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى قتله. و الثاني: إلى نفسه، هل هو إله، أم لغير رشدة «2» ، أم هو ساحر؟
قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ قال الزجّاج: «اتّباع» منصوب بالاستثناء، و هو استثناء ليس من الأوّل. و المعنى: ما لهم به من علم إلّا أنّهم يتّبعون الظّنّ، و إن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتّباع الظّنّ، كما تقول العرب: تحيّتك الضّرب.
قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ في «الهاء» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الظّنّ فيكون المعنى: و ما قتلوا ظنّهم يقينا، هذا قول ابن عباس.
و الثاني: أنها ترجع إلى العلم، أي: ما قتلوا العلم به يقينا، تقول: قتلته يقينا، و قتلته علما للرأي و الحديث. هذا قول الفرّاء، و ابن قتيبة. قال ابن قتيبة: و أصل هذا: أنّ القتل للشّيء يكون عن قهر و استعلاء و غلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنّما كان ظنّا.
و الثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: و ما قتلوا عيسى حقّا، هذا قول الحسن، و قال ابن الأنباريّ: اليقين مؤخّر في المعنى، فالتّقدير: و ما قتلوه، بل رفعه اللّه إليه يقينا.
[سورة النساء (4): آية 159]
قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال الزجّاج: المعنى: و ما منهم أحد إلّا ليؤمننّ
(1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 587 و قال: و كان من خبر اليهود عليهم لعائن اللّه و غضبه و سخطه و عقابه أنه لما بعث اللّه عيسى ابن مريم ... و ذكر القصة. و أخرجه الطبري 10784 و 10785 عن وهب بن المنبه. و برقم 10786 و 10787 عن قتادة. و برقم 10788 عن السدي، و ليس فيهم رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فهذه روايات عن أهل الكتاب يستأنس بها، و لا يحتجّ، فاللّه أعلم.
(2) في «اللسان»: و هو لرشدة، و هو نقيض زنية. هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 496
به، و مثله وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» . و في أهل الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.
و الثاني: اليهود و النّصارى، قاله الحسن، و عكرمة. و في هاء «به» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس: و الجمهور. و الثاني: أنها راجعة إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، قاله عكرمة. و في هاء «موته» قولان «2» :
أحدهما: أنها ترجع إلى المؤمن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلّم به في الهويّ «3» . قال:
و هي في قراءة أبيّ: «قبل موتهم»، و هذا قول مجاهد، و سعيد بن جبير. و روى الضّحّاك عن ابن عباس قال: يؤمن اليهوديّ قبل أن يموت، و لا تخرج روح النّصرانيّ حتى يشهد أنّ عيسى عبد. و قال عكرمة:
لا تخرج روج اليهوديّ و النّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.
و الثاني: أنها تعود إلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهوديّ و لا نصرانيّ، و لا أحد يعبد غير اللّه إلا اتّبعه، و صدّقه، و شهد أنه روح اللّه، و كلمته، و عبده
(1) سورة مريم: 71.
(2) قال الإمام الطبري رحمه اللّه في «تفسيره» 4/ 360: و أولى الأقوال بالصواب و الصحة، قول من قال: تأويل ذلك: و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. و قال ابن كثير رحمه اللّه في «تفسيره» 1/ 590: لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى و صلبه و تسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر اللّه أنه لم يكن الأمر كذلك و إنما شبه لهم فقتلوا الشبه و هم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه و إنه باق حي و إنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة و يكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ و لا يتخلف عن التصديق به واحد منهم و لهذا قال: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود و من وافقهم من النصارى أنه قتل و صلب وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها قبل رفعه إلى السماء و بعد نزوله إلى الأرض.
فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة و السلام، فهذا هو الواقع، و ذلك أن كل واحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به و لكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال اللّه تعالى في أول هذه السورة: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية و قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآيتين، و هذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في ردّ هذا القول حيث قال: و لو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما حينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس: و لو تردّى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه سبع فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى فالإيمان به في هذه الحال ليس بنافع و لا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه و اللّه أعلم. و من تأمل هذا جيدا و أمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام و بقاء حياته في السماء و أنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذّب هؤلاء و هؤلاء من اليهود و النصارى الذين تباينت أقوالهم فيه و تصادمت و تعاكست و تناقضت و خلت عن الحق.
(3) في «اللسان»: هوى، يهوي هويّا: إذا سقط من فوق إلى أسفل.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 497
و نبيّه. و هذا قول قتادة، و ابن زيد، و ابن قتيبة، و اختاره ابن جرير، و عن الحسن كالقولين و قال الزجاج: هذا بعيد، لعموم قوله: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و الذين يبقون حينئذ شرذمة منهم، إلّا أن يكون المعنى: أنهم كلّهم يقولون: إنّ عيسى الذي ينزل لقتل الدّجّال نؤمن به.
قوله تعالى: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال قتادة: يكون عليهم شهيدا أنه قد بلّغ رسالات ربّه، و أقرّ بالعبوديّة على نفسه.
[سورة النساء (4): آية 160]
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: حرّم اللّه على أهل التّوراة الرّبا، و أن يأكلوا أموال الناس ظلما، ففعلوا، و صدّوا عن دين اللّه، و عن الإيمان بمحمّد عليه السلام، فحرّم اللّه عليهم ما ذكر في قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» عقوبة لهم. قال أبو سليمان:
و ظلمهم: نقضهم ميثاقهم، و كفرهم بآيات اللّه، و ما ذكر في الآيات قبلها. و قال مجاهد: وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: صدّهم أنفسهم و غيرهم عن الحقّ. قال ابن عباس: صدّهم عن سبيل اللّه، يعني الإسلام، و أكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين اللّه، و أخذ الرّشى على حكم اللّه، و تبديل الكتاب التي أنزلها اللّه ليستديموا المأكل.
[سورة النساء (4): آية 161]
قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود، و قيل: إنّما قال «منهم»، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب.
[سورة النساء (4): آية 162]
قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأمّا الرّاسخون، فهم الثّابتون في العلم. قال أبو سليمان: و هم عبد اللّه بن سلّام، و من آمن معه، و الّذين آمنوا من أهل الإنجيل ممّن قدم مع جعفر من الحبشة، و المؤمنون، يعني أصحاب رسول اللّه. فأمّا قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فهم القائمون بأدائها كما أمروا.
و في نصب «المقيمين» أربعة أقوال: أحدها: أنه خطأ من الكاتب، و هذا قول عائشة «2» ، و روي عن عثمان بن عفّان أنه قال: إنّ في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «3» . و قد قرأ ابن مسعود،
(1) سورة الأنعام: 146.
(2) خبر عائشة، أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 160- 161 و الطبري 10843 من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، و هذا إسناد رجاله ثقات، لكن في رواية أبي معاوية عن هشام اضطراب إلى عائشة، أبو معاوية هو محمد بن حازم، و يحمل هذا على اجتهاد من عائشة رضي اللّه عنها، و الجمهور على خلافه، و هذا إن ثبت عنها ذلك.
(3) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 159- 160 ح 20/ 49 و ابن أبي داود في «المصاحف» ص 42 كلاهما عن الزبير بن خرّيت عن عكرمة، و هذا مرسل، فهو ضعيف. و أخرجه ابن أبي داود ص 41 عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، و هذا معضل مع جهالة القرشي هذا، و كرره من وجه آخر عن قتادة، و هو مرسل و مع إرساله فيه من لم يسمّ، و كرره ص 41- 42 من وجه آخر عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن خطيم عن يحيى بن يعمر عن عثمان به، و هذا إسناد ضعيف لجهالة ابن خطيم هذا، و هذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 498
و أبيّ، و سعيد بن جبير، و عكرمة، و الجحدريّ: «و المقيمون الصّلاة» بالواو. و قال الزجّاج: قول من قال إنه خطأ، بعيد جدا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، و القدوة، فكيف يتركون في كتاب اللّه شيئا يصلحه غيرهم؟! فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. و قال الأنباريّ: حديث عثمان لا يصحّ، لأنه غير متّصل، و محال أن يؤخّر عثمان شيئا فاسدا، ليصلحه من بعده. و الثاني: أنه نسق على «ما» و المعنى؛ يؤمنون بما أنزل إليك، و بالمقيمين الصّلاة، فقيل: هم الملائكة، و قيل: الأنبياء. و الثالث: أنه نسق على الهاء و الميم من قوله مِنْهُمْ فالمعنى: لكن الرّاسخون في العلم منهم، و من المقيمين الصّلاة يؤمنون بما أنزل إليك. قال الزجّاج: و هذا رديء عند النّحويين، لا ينسق بالظّاهر المجرور على المضمر المجرور إلّا في الشّعر. و الرابع: أنه منصوب على المدح، فالمعنى: أذكر المقيمين الصّلاة، و هم المؤتون الزّكاة. و أنشدوا:
لا يبعدن قومي الذين هم
سمّ العداة و آفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك
و الطّيّبون معاقد الأزر «1»
و هذا على معنى: أذكر النّازلين، و هم الطّيّبون، و من هذا قولك: مررت بزيد الكريم، إن أردت أن تخلصه من غيره. فالخفض هو الكلام، و إن أردت المدح و الثّناء، فإن شئت نصبت، فقلت: بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم، و إن شئت رفعت على معنى: هو الكريم. و تقول: جاءني قومك المطعمين في المحل، و المغيثون في الشّدائد على معنى: أذكر المطعمين، و هم المغيثون، و هذا القول اختيار الخليل، و سيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجّاج، و اختار هذا القول.
[سورة النساء (4): آية 163]
قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس: قال عديّ بن زيد، و سكين: يا محمّد ما نعلم اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فنزلت هذه الآية. و قد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي، و ذكرنا نوحا هنالك. و إسحاق: أعجميّ، و إن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه اللّه يسحقه إسحاقا، و يعقوب: أعجميّ. فأما اليعقوب، و هو ذكر الحجل و هي القبج «2» فعربيّ، كذلك قرأته على شيخنا أبي
(1) البيتان للخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي و ابنها علقمة، و أخويها حسان و شرحبيل، و من قتل معه من قومه. كما في «الخزانة» 2/ 301. و الآفة: العلّة. و الجزر: جمع جزور، و هي الناقة التي تنحر. و الطيبون معاقد الأزر: من عادة العرب إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار و طيبه فهو إشارة و كناية عن عفة الفرج.
(2) في «اللسان»: القبج: الكروان، معرّب، و هو بالفارسية كبج، و القاف و الجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 499
منصور اللغويّ، و أيّوب: أعجميّ، و يونس: اسم أعجميّ. قال أبو عبيدة، يقال: يونس و يونس بضم النون و كسرها، و حكى أبو زيد الأنصاريّ عن العرب همزه مع الكسرة و الضمّة و الفتحة. و قال الفرّاء:
يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، و بعض بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، و بعض بني عقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز. و المشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز. و قد قرأ ابن مسعود، و قتادة، و يحيى بن يعمر، و طلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا. و قرأ أبو الجوزاء و أبو عمران و الجحدري: يونس بفتح النون من غير همز. و قرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزا. و قرأ أبو السمّاك العدوي: يونس بكسر النون من غير همز. و قرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا.
و هارون: اسم أعجميّ، و باقى الأنبياء قد تقدّم ذكرهم. فأما الزّبور، فأكثر القرّاء على فتح الزاي، و قرأ أبو رزين، و أبو رجاء، و الأعمش، و حمزة بضمّ الزاي. قال الزجّاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتابا، و من ضمّ، أراد: كتبا. و معنى ذكر «داود» أي: لا تنكروا تفضيل محمّد بالقرآن، فقد أعطى اللّه داود الزّبور. و قال أبو عليّ: كأنّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء، و جعل كلّ نحو زبرا، ثم جمع، فقال:
زبورا. و قال ابن قتيبة: الزّبور فعول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب و ركوب بمعنى: محلوب و مركوب، و هو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبرا: إذا كتبته، قال: و فيه لغة أخرى: الزّبور بضمّ الزاي، كأنّه جمع.
[سورة النساء (4): آية 164]
قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تأكيد كلّم بالمصدر يدلّ على أنه سمع كلام اللّه حقيقة.
روى أبو سليمان الدّمشقيّ، قال: سمعت إسماعيل بن محمّد الصّفّار يقول: سمعت ثعلبا يقول: لو لا أنّ اللّه تعالى أكّد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلّمت لك فلانا، بمعنى:
كتبت إليه رقعة، أو بعثت إليه رسولا، فلمّا قال: تكليما، لم يكن إلا كلاما مسموعا من اللّه.
[سورة النساء (4): آية 165]
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي: لئلّا يحتجّوا في ترك التّوحيد و الطّاعة بعدم الرّسل، لأنّ هذه الأشياء إنّما تجب بالرّسل.
[سورة النساء (4): آية 166]
قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ في سبب نزولها قولان:
(388) أحدهما: أنّ النبيّ عليه السلام دخل على جماعة من اليهود، فقال: «إنّي و اللّه أعلم أنّكم لتعلمون أنّي رسول اللّه»، فقالوا: ما نعلم ذلك. فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(389) و الثاني: أنّ رؤساء أهل مكّة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنّهم (388) ضعيف. أخرجه الطبري 10854 عن ابن عباس به بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق.
(389) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 375 عن الكلبي بدون إسناد، و الكلبي متهم بالوضع، فخبره لا شيء، بل هو باطل، فإن سورة النساء مدنية؛ و سؤالات أهل مكة و مجادلاتهم مكية.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 500
لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أنّ اللّه بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السّائب.
قال الزجّاج: الشّاهد: المبيّن لما يشهد به، فاللّه عزّ و جلّ بيّن ذلك، و يعلم مع إبانته أنه حقّ.
و في معنى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله و فيه علمه، قاله الزجّاج. و الثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. و الثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ، فيه قولان: أحدهما: يشهدون أنّ اللّه أنزله. و الثاني: يشهدون بصدقك. قوله تعالى: وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قال الزجّاج: «الباء» دخلت مؤكّدة. و المعنى: اكتفوا باللّه في شهادته.
[سورة النساء (4): آية 167]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال مقاتل و غيره: هم اليهود كفروا بمحمّد، و صدّوا الناس عن الإسلام. قال أبو سليمان: و كان صدّهم عن الإسلام قولهم للمشركين و لأتباعهم: ما نجد صفة محمّد في كتابنا.
[سورة النساء (4): الآيات 168 الى 169]
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا قال مقاتل و غيره: هم اليهود أيضا كفروا بمحمّد و القرآن.
و في الظّلم المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الشّرك، قاله مقاتل. و الثاني: أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في كتابهم. قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يريد من مات منهم على الكفر. و قال أبو سليمان: لم يكن اللّه ليستر عليهم قبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، و يعاقبهم بالقتل و الجلاء و السّبي، و في الآخرة بالنار وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ينجون فيه. و قال مقاتل: طريقا إلى الهدى وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني كان عذابهم على اللّه هيّنا.
[سورة النساء (4): آية 170]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ الكلام عامّ، و روي عن ابن عباس أنه قال: أراد المشركين. قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ أي: بالهدى، و الصّدق. قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ قال الزجّاج عن الخليل و جميع البصريين: إنّه منصوب بالحمل على معناه، لأنّك إذا قلت: انته خيرا لك، و أنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره، كان المعنى: انته و أت خيرا لك، و ادخل في ما هو خير لك. و أنشد الخليل و سيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك
أو الرّبا بينهما أسهلا «1»
(1) في «اللسان»: السّرح: شجر كبار عظام طوال، لا يرعى و إنما يستظل فيه و هو كل شجر لا شوك فيه.