کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 561
باللّه و برسوله و بالمؤمنين، و أذّن بلال بالصّلاة، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فإذا مساكين يسأل الناس، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هل أعطاك أحد شيئا»؟ قال: نعم. قال: «ما ذا»؟ قال: خاتم فضّة. قال: «من أعطاكه»؟ قال: ذاك القائم، فإذا هو عليّ بن أبي طالب، أعطانيه و هو راكع، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، و به قال مقاتل. و قال مجاهد: نزلت في عليّ بن أبي طالب، تصدّق و هو راكع «1» .
و الثاني: أنّ عبادة بن الصّامت لمّا تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقّه «2» ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. و الثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق، قاله عكرمة. و الرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين و من بقي منهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، و هو تصدّق عليّ عليه السلام بخاتمه في ركوعه. و الثاني: أن من شأنهم إيتاء الزّكاة و فعل الرّكوع. و في المراد بالرّكوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس الرّكوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. و قيل: إنّ الآية نزلت و هم في الرّكوع. و الثاني: أنه صلاة التّطوّع بالليل و النّهار، و إنما أفرد الرّكوع بالذّكر تشريفا له، و هذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. و الثالث: أنه الخضوع و الخشوع، و أنشدوا «3» :
لا تذلّ الفقير علّك أن
تركع يوما و الدّهر قد رفعه
ذكره الماورديّ. فأمّا حِزْبَ اللَّهِ فقال الحسن: هم جند اللّه. و قال أبو عبيدة: أنصار اللّه. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم المهاجرون و الأنصار، قاله ابن عباس. و الثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان.
[سورة المائدة (5): آية 57]
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً سبب نزولها:
(441) أنّ رفاعة بن زيد بن التّابوت، و سويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادّونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(441) ضعيف. أخرجه الطبري 12221 عن ابن عباس، و إسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
(1) انظر الحديث المتقدم. و قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 73- 74 ما ملخصه: و أما قوله تعالى وَ هُمْ راكِعُونَ فقد توهم بعض الناس أن الجملة في موضع حال من قوله وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي في حال ركوعهم، و لو كان كذلك لكان دفع الزكاة حال الركوع أفضل من غيره، و لم يقل به أحد من أئمة الفتوى اه. و ذكره ابن تيمية رحمه اللّه في «المقدمة في أصول التفسير»، و قال: إنه من وضع الرافضة اه و الظاهر أنه من وضع الكلبي، و سرقه منه بعض الضعفاء.
(2) تقدم.
(3) الشاعر هو: الأضبط بن قريع. و قوله لا تذلّ الفقير: لا تعادي و لا تهين.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 562
فأمّا اتّخاذهم الدّين هزوا و لعبا، فهو إظهارهم الإسلام و إخفاؤهم الكفر و تلاعبهم بالدّين. و الذين أوتوا الكتاب: اليهود و النّصارى، و الكفّار: عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و حمزة:
وَ الْكُفَّارَ بالنّصب على معنى: لا تتّخذوا الكفّار أولياء. و قرأ أبو عمرو و الكسائيّ: «و الكفار» خفضا، لقرب الكلام من العامل الجارّ، و أمال أبو عمرو الألف. وَ اتَّقُوا اللَّهَ أن تولّوهم.
[سورة المائدة (5): آية 58]
قوله تعالى: وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ في سبب نزولها قولان:
(442) أحدهما: أنّ منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا نادى إلى الصّلاة، و قام المسلمون إليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلّوا لا صلّوا، على سبيل الاستهزاء و الضّحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السّائب.
(443) و الثاني: أنّ الكفّار لمّا سمعوا الأذان حسدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المسلمين على ذلك، و قالوا: يا محمّد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فإن كنت تدّعي النّبوّة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصّوت، و أسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسّرين.
(444) و قال السّدّيّ: كان رجل من النّصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمّدا رسول اللّه، قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار و هو نائم، و أهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو و أهله.
و المناداة: هي الأذان، و اتّخاذهم إيّاها هزوا: تضاحكهم و تغامزهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما لهم في إجابة الصّلاة، و ما عليهم في استهزائهم بها.
[سورة المائدة (5): آية 59]
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا .
(445) سبب نزولها: أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل، فذكر جميع الأنبياء، فلمّا ذكر عيسى، جحدوا نبوّته، و قالوا: و الله ما نعلم دينا شرّا من دينكم، فنزلت هذه الآية و التي بعدها، قاله ابن عباس.
و قرأ الحسن، و الأعمش: «تنقمون» بفتح القاف. قال الزجّاج: يقال: نقمت على الرجل أنقم، (442) عزاه المصنف لابن السائب، و هو الكلبي، و تقدم مرارا أنه يضع الحديث.
(443) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 400 م، بدون إسناد، و من غير عزو لقائل، فهو لا شيء.
(444) ضعيف أخرجه الطبري 12223 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
(445) ضعيف. أخرجه الطبري 12224 عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به، و مداره على محمد بن أبي محمد، و هو مجهول كما في «التقريب»، و «الميزان». و انظر «تفسير الشوكاني» 818 بتخريجنا.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 563
و نقمت عليه أنقم، و الأوّل أجود. و معنى «نقمت»: بالغت في كراهة الشّيء، و المعنى: هل تكرهون منّا إلا إيماننا، و فسقكم، لأنّكم علمتم أنّنا على حقّ، و أنكم فسقتم.
[سورة المائدة (5): آية 60]
قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال المفسّرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: و الله ما علمنا أهل دين أقلّ حظّا منكم في الدّنيا و الآخرة، و لا دينا شرّا من دينكم. و في قوله تعالى: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قولان: أحدهما: بشرّ من المؤمنين، قاله ابن عباس. و الثاني: بشرّ ممّا نقمتم من إيماننا، قاله الزجّاج. فأما «المثوبة» فهي الثّواب.
قال الزجّاج: و موضع «من» في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ إن شئت كان رفعا، و إن شئت كان خفضا، فمن خفض جعله بدلا من «شرّ» فيكون المعنى: أنبّئكم بمن لعنه الله؟ و من رفع فبإضمار «هو» كأنّ قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنة الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية، و غضب عليه بعبادة العجل، فهم شرّ مثوبة عند اللّه.
و روي عن ابن عباس أنّ المسخين من أصحاب السّبت: مسخ شبابهم قردة، و مشايخهم خنازير.
و قال غيره: القردة: أصحاب السّبت، و الخنازير: كفّار مائدة عيسى. و كان ابن قتيبة يقول: أنا أظنّ أنّ هذه القردة و الخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال: و استدللت بقوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ فدخول الألف و اللام يدلّ على المعرفة، و على أنّها القردة التي تعاين، و لو كان أراد شيئا انقرض و مضى، لقال: و جعل منهم قردة و خنازير، إلا أن يصحّ حديث أمّ حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السّلام. قلت أنا:
(446) و حديث أمّ حبيبة في «الصّحيح» انفرد بإخراجه مسلم، و هو أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: يا رسول اللّه، القردة و الخنازير هي ممّا مسخ؟ فقال النبيّ عليه السلام: «إن اللّه لم يمسخ قوما أو يهلك قوما، فيجعل لهم نسلا و لا عاقبة، و إنّ القردة و الخنازير قد كانت قبل ذلك» و قد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يلتفت إلى ظنّ ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، و عاصم، و أبو عمرو، و ابن عامر، و نافع، و الكسائيّ: «و عبد» بفتح العين و الباء و الدال، و نصب تاء «الطّاغوت». و فيها وجهان:
أحدهما: أنّ المعنى: و جعل منهم القردة و الخنازير و من عبد الطّاغوت. و الثاني: أنّ المعنى: من لعنه الله و عبد الطّاغوت. و قرأ حمزة: «و عبد الطاغوت» بفتح العين و الدال، و ضم الباء، و خفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إلّا أن يجمع فعل على فعل. و قال الزجّاج: وجهها أنّ الاسم بني على «فعل» كما تقول: علم زيد، و رجل حذر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم خدمة (446) صحيح. أخرجه مسلم 2663 و الحميدي 125 و أحمد 1/ 395- 396- 397- 422 و أبو يعلى 5313 من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 564
الطّاغوت و من بلغ في طاعة الطّاغوت الغاية. و قرأ ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، «و عبدوا»، بفتح العين و الباء و رفع الدال على الجمع «الطاغوت» بالنّصب. و قرأ ابن عباس، و ابن أبي عبلة: «و عبد» بفتح العين و الباء و الدال، إلا أنهما كسرا تاء «الطّاغوت». قال الفرّاء: أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. و قرأ أنس بن مالك: «و عبيد» بفتح العين و الدال و بياء بعد الباء و خفض تاء «الطّاغوت». و قرأ أيوب، و الأعمش:
«و عبّد»، برفع العين و نصب الباء و الدال مع تشديد الباء، و كسر تاء «الطّاغوت». و قرأ أبو هريرة، و أبو رجاء، و ابن السّميفع، «و عابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء الطّاغوت. و قرأ أبو العالية، و يحيى بن وثّاب: «و عبد» برفع العين و الباء و فتح الدال، مع كسر تاء الطّاغوت. قال الزجّاج:
هو جمع عبيد، و عبد مثل رغيف، و رغف، و سرير، و سرر، و المعنى: و جعل منهم عبيد الطّاغوت.
و قرأ أبو عمران الجونيّ، و مورّق العجليّ، و النّخعيّ: «و عبد» برفع العين و كسر الباء مخففة، و فتح الدال مع ضمّ تاء «الطّاغوت». و قرأ أبو المتوكّل، و أبو الجوزاء، و عكرمة: «و عبّد» بفتح العين و الدال و تشديد الباء، مع نصب تاء الطّاغوت. و قرأ الحسن، و أبو مجلز، و أبو نهيك: «و عبد» بفتح العين و الدال، و سكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. و قرأ قتادة، و هذيل بن شرحبيل: «و عبدة» بفتح العين و الباء و الدال و تاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطّواغيت» بألف و واو و ياء بعد الغين على الجمع. و قرأ الضّحّاك، و عمرو بن دينار: «و عبد» برفع العين و فتح الباء و الدال مع تخفيف الباء، و كسر تاء «الطّاغوت». و قرأ سعيد بن جبير، و الشّعبيّ: «و عبدة» مثل حمزة، إلا أنهما رفعا تاء «الطّاغوت».
و قرأ يحيى بن يعمر، و الجحدريّ: «و عبد» بفتح العين و رفع الباء مع كسر تاء «الطّاغوت». و قرأ أبو الأشهب العطارديّ: «و عبد» برفع العين و تسكين الباء، و نصب الدال، مع كسر تاء «الطّاغوت». و قرأ أبو السّمّال: «و عبدة» بفتح العين و الباء و الدال و تاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت». و قرأ معاذ القارئ: «و عابد» مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم الدال. و قرأ أبو حياة:
«و عبّاد» بتشديد الباء و بألف بعدها مع رفع العين، و فتح الدال. و قرأ ابن حذلم، و عمرو بن فائد:
«و عبّاد» مثل أبي حياة إلا أنّ العين مفتوحة و الدال مضمومة. و قد سبق ذكر «الطّاغوت» في سورة البقرة. و في المراد به هاهنا قولان: أحدهما: الأصنام. و الثاني: الشّيطان.
قوله تعالى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: هؤلاء الذين وصفناهم شرّ مكانا من المؤمنين، و لا شرّ في مكان المؤمنين، و لكنّ الكلام مبنيّ على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شرّا منكم، فقيل: من كان بهذه الصّفة، فهو شرّ منهم.
[سورة المائدة (5): آية 61]
قوله تعالى: وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا .
(447) قال قتادة: هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، و هم متمسّكون بضلالتهم.
(447) ضعيف. أخرجه الطبري 12234 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 565
قوله تعالى: وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي: دخلوا كافرين، و خرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم، وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر و النّفاق.
[سورة المائدة (5): آية 62]
قوله تعالى: وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: اليهود يُسارِعُونَ ، أي: يبادرون فِي الْإِثْمِ و فيه قولان: أحدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس. و الثاني: الكفر، قاله السّدّيّ.
فأمّا العدوان فهو الظّلم. و في «السّحت» ثلاثة أقوال: أحدها: الرّشوة في الحكم. و الثاني:
الرّشوة في الدّين. و الثالث: الرّبا.
[سورة المائدة (5): آية 63]
قوله تعالى: لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ «لو لا» بمعنى: «هلّا»، و «الربّانيون» مذكورون في آل عمران، و وَ الْأَحْبارُ قد تقدّم ذكرهم في هذه السّورة. و هذه الآية من أشدّ الآيات على تاركي الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، لأنّ اللّه تعالى جمع بين فاعل المنكر و تارك الإنكار في الذّمّ. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدّ توبيخا من هذه الآية.
[سورة المائدة (5): آية 64]
قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهوديّ و أصحابه، قالوا: يد اللّه مغلولة. و قال مقاتل: فنحاص و ابن صلوبا «1» ، و عازر بن أبي عازر. و في سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ اللّه تعالى كان قد بسط لهم الرّزق، فلمّا عصوا الله تعالى في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و كفروا به كفّ عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، و به قال عكرمة. و الثاني: أن اللّه تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمّة، فقالوا:
إنّ اللّه بخيل، و يده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة. و الثالث: أن النّصارى لمّا أعانوا بختنصّر المجوسيّ على تخريب بيت المقدس، قالت اليهود: لو كان الله صحيحا لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضا.
و المغلولة: الممسكة المنقبضة. و عن ما ذا عنوا أنها ممسكة، فيه قولان:
أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، و قتادة، و الفرّاء، و ابن قتيبة، و الزجّاج.
و الثاني: ممسكة من عذابنا، فلا يعذّبنا إلا تحلّة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن.
و في قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: غلّت في جهنّم، قاله الحسن. و الثاني:
أمسكت عن الخير، قاله مقاتل. و الثالث: جعلوا بخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجّاج. قال ابن
(1) كذا في الأصل، و في بعض كتب التفسير «صوريا».
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 566
الأنباريّ: و هذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أنّ هذا قد نزل بهم، و موضعه نصب على معنى الحال.
تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغلّ أيديهم، و لعنته إيّاهم، و يجوز أن يكون المعنى: فغلّت أيديهم، و يجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم اللّه لنا كيف ندعو عليهم، كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» و قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» .
و في قوله تعالى: وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ثلاثة أقوال: أحدها: أبعدوا من رحمة اللّه. و الثاني: عذّبوا قردة بالجزية، و في الآخرة بالنّار. الثالث: مسخوا قردة و خنازير.
(448) و روى ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إيّاهم».
قال الزجّاج: و قد ذهب قوم إلى أن معنى «يد اللّه»: نعمته، و هذا خطأ ينقضه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه، و نعم اللّه أكثر من أن تحصى. و المراد بقوله: بل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ :
أنه جواد ينفق كيف يشاء، و إلى نحو هذا ذهب ابن الأنباريّ. قال ابن عباس: إن شاء وسّع في الرّزق، و إن شاء قتّر.
قوله تعالى: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً قال الزجّاج: كلّما أنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا: الغلوّ في الكفر. و قال مقاتل: و ليزيدنّ بني النّضير ما أنزل إليك من ربّك من أمر الرّجم و الدّماء طغيانا و كفرا.
قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فيمن عني بهذا قولان: أحدهما: اليهود و النّصارى، قاله ابن عباس: و مجاهد، و مقاتل. فإن قيل: فأين ذكر النّصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدّم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ . و الثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة.
قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ذكر إيقاد النّار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة، و قيل: إنّ الأصل في استعارة اسم النّار للحرب أنّ القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النّار على رؤوس الجبال، و المواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب، فيتأهّب من يريد إعانتهم. و قيل: كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم، أوقدوا نارا، و تحالفوا. و في معنى الآية قولان: أحدهما: كلّما جمعوا لحرب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فرّقهم الله. و الثاني: كلّما مكروا مكرا ردّه الله. قوله (448) لا أصل له في المرفوع، و قد صح ما يعارضه، و هو ما أخرجه أبو داود 4908 و الترمذي 1978 و ابن حبان 5745 و الطبراني 12757 عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، و ليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة». رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن فيه عنعنة قتادة. و له شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد 1/ 408 وجوده المنذري في «الترغيب» 4108.
و له شاهد من حديث أبي الدرداء، أخرجه أبو داود 4905 بإسناد ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو خبر صحيح. و هو يعارض حديث المصنف، لأن في هذه الأحاديث عود اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها، في حين سياق المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.
(1) سورة المسد: 1.
(2) سورة الفتح: 27.
زاد المسير فى علم التفسير، ج1، ص: 567
تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فيه أربعة أقوال: أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، و مقاتل.
و الثاني: بمحو ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من كتبهم، و دفع الإسلام، قاله الزجّاج. و الثالث: بالكفر. و الرابع:
بالظّلم، ذكرهما الماورديّ.
[سورة المائدة (5): آية 65]
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود و النّصارى آمَنُوا باللّه و برسله وَ اتَّقَوْا الشّرك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي سلفت.
[سورة المائدة (5): آية 66]
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ قال ابن عباس: عملوا بما فيها. و فيما أنزل إليهم من ربّهم قولان: أحدهما: كتب أنبياء بني إسرائيل. و الثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلا إليهم. قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فيه قولان:
أحدهما: لأكلوا بقطر السّماء، و نبات الأرض، و هذا قول ابن عباس، و مجاهد، و قتادة.
و الثاني: أن المعنى: لوسع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، ذكره الفرّاء، و الزجّاج. و قد أعلم الله تعالى بهذا أنّ التّقوى سبب في توسعة الرّزق كما قال: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «1» و قال: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» .
قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني: من أهل الكتاب، و هم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، و مجاهد. و قال القرظيّ: هم الذين قالوا: المسيح عبد اللّه و رسوله. و «الاقتصاد» الاعتدال في القول و العمل من غير غلوّ و لا تقصير.
[سورة المائدة (5): آية 67]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت على أسباب: روى الحسن أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
(449) «لمّا بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعا، و عرفت أنّ من النّاس من يكذّبني»، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يهاب قريشا و اليهود و النّصارى، فأنزل الله هذه الآية.
(449) ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي 438. و هو مرسل. و مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. و انظر «تفسير الشوكاني» 825 بتخريجنا.
(1) سورة الأعراف: 96.