کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 18
و أمّا: «أن يفقهوه»، فمنصوب على أنّه مفعول له. المعنى: و جعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللّام، نصبت الكراهة؛ و لمّا حذفت الكراهة، انتقل نصبها إلى «أن».
«الوقر»: ثقل السّمع، يقال: في أذنه وقر، و قد و قرت الأذن توقر. قال الشاعر:
و كلام سيّئ قد وقرت
أذني عنه و ما بي من صمم «1»
و الوقر، بكسر الواو؛ أن يحمّل البعير و غيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وقر، و يقال: نخلة موقر، و موقرة، و إنّما فعل ذلك بهم مجازاة لهم بإقامتهم على كفرهم، و ليس المعنى أنّهم لم يفهموه، و لم يسمعوه؛ و لكنّهم لمّا عدلوا عنه، و صرفوا فكرهم عمّا عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم و لم يسمع. وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي: كلّ علامة تدلّ على رسالتك، لا يُؤْمِنُوا بِها . ثمّ أعلم اللّه عزّ و جلّ مقدار احتجاجهم و جدلهم، و أنّهم إنّما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: إِنْ هذا ، أي:
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ و فيها قولان:
أحدهما: أنّها ما سطّر من أخبارهم و أحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: أساطير الأولين: كذبهم، و أحاديثهم في دهرهم. و قال أبو الحسن الأخفش: يزعم بعضهم أنّ واحدة الأساطير: أسطورة. و قال بعضهم: أسطارة؛ و لا أراه إلّا من الجمع الّذي ليس له واحد، نحو عباديد و مذاكير و أبابيل. و قال ابن قتيبة: أساطير الأوّلين: أخبارهم و ما سطر منها، أي: ما كتب، و منه قوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ «2» أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل قول، و أقوال، و أقاويل.
و القول الثاني: أنّ معنى أساطير الأوّلين: التّرّهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، و إسطارة، و مجازها مجاز الترّهات. قال ابن الأنباريّ: التّرّهات عند العرب: طرق غامضة، و مسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترّهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطّريق الواضح إلى المشكل؛ و عمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس»: الصّحاري الواسعة، و التّرّهات: طرق تتشعّب من الطريق الأعظم، فتكثر و تشكل، فجعلت مثلا لما لا يصحّ و ينكشف.
فإن قيل: لم عابوا القرآن بأنّه أساطير الأوّلين، و قد سطر الأوّلون ما فيه علم و حكمة، و ما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنّهم نسبوه إلى أنّه ليس بوحي من اللّه. و الثاني: أنّهم عابوه بالإشكال و الغموض، استراحة منهم إلى البهت و الباطل. فعلى الجواب الأوّل تكون «أساطير» من التّسطير، و على الثّاني تكون بمعنى التّرهات، و قد شرحنا معنى التّرّهات.
قوله تعالى: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ في سبب نزولها قولان:
(502) أحدهما: أنّ أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و يتباعد عمّا جاء (502) أخرجه الحاكم 2/ 315 و الواحدي 426 كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به، و حبيب مدلس و قد عنعن و رواه عبد الرزاق في «تفسيره» 785 و الطبري 13173 و 13174 و 13175 من
(1) البيت: للمثقب العبدي في قصيدة حكمية جيدة أثبتها صاحب «المفضليات» 293.
(2) سورة القلم: 1.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 19
به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، و هو قول عمرو بن دينار، و عطاء بن دينار، و القاسم بن مخيمرة.
(503) و قال مقاتل: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ صلى اللّه عليه و سلم سوءا، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر؛ فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل، فإن حنّت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، و قال:
و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم
حتّى أوسّد في التّراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
و ابشر و قرّ بذاك منك عيونا
و عرضت دينا لا محالة أنّه
من خير أديان البريّة دينا
لو لا الملامة أو حذاري سبّة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا «1»
فنزلت فيه هذه الآية (504) و الثاني: أنّ كفّار مكّة كانوا ينهون النّاس عن اتّباع النّبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و يتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبيّ عن ابن عبّاس، و به قال ابن الحنفية، و الضّحّاك، و السّدّى. فعلى القول الأول، يكون قوله تعالى: «و هم» كناية عن واحد؛ و على الثاني: عن جماعة. و في هاء «عنه» قولان:
أحدهما: أنّها ترجع إلى النّبي صلى اللّه عليه و سلم. ثم فيه قولان «2» . أحدهما: ينهون عن أذاه؛ و الثاني: عن اتّباعه. و القول الثاني: أنّها ترجع إلى القرآن، قاله مجاهد، و قتادة، و ابن زيد. وَ يَنْأَوْنَ بمعنى طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس، و هذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول و مع ذلك صححه الحاكم! و سكت عنه الذهب!. و لا يصح و ما يأتي عن ابن عباس أرجح، و انظر «تفسير الشوكاني» 890 بتخريجنا.
(503) عزاه المصنف لمقاتل، و ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 426 عن مقاتل بدون إسناد و مع ذلك فهو معضل، و مقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب و الخبر لم يصح بكل حال و هو واه بمرة.
(504) أخرجه الطبري 13163 و البيهقي 2/ 341 من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس، و فيه إرسال بينهما. و له شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية 13162 و عن السدي 13164. و في الباب روايات.
(1) نسب المصنف هذه الأبيات لأبي طالب و لم يصح ذلك من جهة الإسناد كما تقدم.
قوله «غضاضة»: الغض من الشيء التنقص «و التوسد» كناية عن الموت.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 173: و أولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد صلى اللّه عليه و سلم من سواهم من الناس و ينأون عن اتباعه. و ذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشتركين العادين به. و الخبر عن تكذيبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و الإعراض عما جاءهم به من تنزيل اللّه و وحيه، فالواجب أن يكون قوله: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم، إذا لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية و ما بعدها، يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. و إذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: و إن ير هؤلاء المشركون يا محمد، كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون: «إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين و أخبارهم». و هم ينهون من استماع التنزيل. و ينأون عنك فيبعدون منك و من أتباعك ا ه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 20
يبعدون. و في هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى النّبيّ صلى اللّه عليه و سلم. و الثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: وَ إِنْ يُهْلِكُونَ أي: و ما يهلكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بالتّباعد عنه وَ ما يَشْعُرُونَ أنّهم يهلكونها.
[سورة الأنعام (6): آية 27]
قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ في معنى «وقفوا» ستّة أقوال. أحدها: حبسوا عليها، قاله ابن السّائب. و الثاني: عرضوا عليها، قاله مقاتل. و الثالث: عاينوها. و الرابع: وقفوا عليها و هي تحتهم. و الخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي فهمته و تبيّنته، ذكر هذه الأقوال الثّلاثة الزّجّاج، و اختار الأخير. و قال ابن جرير: عَلَى هاهنا بمعنى «في».
السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبّدة على سبلها، ذكره الماورديّ. و الخطاب بهذه الآية للنّبي صلى اللّه عليه و سلم، و الوعيد للكفّار، و جواب «لو» محذوف، و معناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجبا.
قوله تعالى: وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و الكسائيّ، و أبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذب»؛ و النّون من «نكون».
قال الزّجّاج: و المعنى أنّهم تمنّوا الرّدّ، و ضمنوا أنّهم لا يكذّبون. و المعنى: يا ليتنا نردّ، و نحن لا نكذّب بآيات ربنا، رددنا أو لم نردّ، و نكون من المؤمنين، لأنّا قد عاينّا مالا نكذّب معه أبدا. قال:
و يجوز الرّفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد»، يا ليتنا لا نكذّب، كأنّهم تمنّوا الرّدّ و التوفيق للتصديق. و قال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنّهم قالوا: و لا نكذّب- و اللّه- بآيات ربّنا، و نكون- و اللّه- من المؤمنين. و قرأ حمزة إلا العجليّ «1» ، و حفص عن عاصم، و يعقوب: بنصب الباء من «نكذب»، و النون من «نكون». قال مكّي بن أبي طالب: و هذا النّصب على جواب التّمني، و ذلك بإضمار «أن»، حملا على مصدر «نرد»، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدرا، فعطف بالواو مصدرا على مصدر. و تقديره: يا ليت لنا ردّا، و انتفاء من التّكذيب، و كونا من المؤمنين. و قرأ ابن عامر برفع الباء من «نكذب»، و نصب النون من «نكون»؛ بالرّفع قد بيّنا علّته، و النصب على جواب التّمني.
[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 29]
قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ «بل»: ها هنا ردّ لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنّهم لو ردّوا لآمنوا. و قال الزّجّاج: «بل» استدراك و إيجاب بعد نفي؛ تقول: ما جاء زيد بل عمرو.
و في معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن. و الثاني:
بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل. و الثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا
(1) العجلي: هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة.
أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات و عن سليم عن حمزة أيضا، مات في حدود العشرين و مائتين.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 21
يخفونه، قاله المبرّد. و الرابع: بدا للأتباع ما كان يخفيه الرّؤساء، قاله الزّجاج.
قوله تعالى: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نهوا عنه من الشّرك، و إنّهم لكاذبون في قولهم: وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . قال ابن الأنباريّ: كذّبهم اللّه في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن ردّوا آمنوا و لم يكذّبوا، و لم يكذّبهم في التّمني.
قوله تعالى: وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا إخبار عن منكري البعث.
(505) قال مقاتل: لما أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و سلم كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. و كان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردّوا لقالوا «1» .
[سورة الأنعام (6): آية 30]
قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قال مقاتل: عرضوا على ربّهم قالَ أَ لَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِ . و قال غيره: أليس هذا البعث حقّا؟ فعلى قول مقاتل: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالعذاب، و على قول غيره: تَكْفُرُونَ بالبعث.
[سورة الأنعام (6): آية 31]
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إنما وصفوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. و المراد بلقاء اللّه: البعث و الجزاء؛ و السّاعة: القيامة؛ و البغتة: الفجأة. قال الزّجّاج:
كلّ ما أتى فجأة فقد بغت؛ يقال: قد بغته الأمر يبغته بغتا و بغتة: إذا أتاه فجأة. قال الشاعر:
و لكنّهم بانوا و لم أخش بغتة
و أفظع شيء حين يفجؤك البغت «2»
قوله تعالى: يا حَسْرَتَنا الحسرة: التّلهّف على الشيء الفائت، و أهل التفسير يقولون: يا ندامتنا.
فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، و هي لا تعقل؟ فالجواب: أنّ العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداء، فتدخل عليه «يا» للتنبيه، و المراد تنبيه النّاس، لا تنبيه المنادى. و مثله قولهم: لا أرينّك ها هنا. لفظه لفظ النّاهي لنفسه، و المعنى للمنهيّ؛ و من هذا قولهم:
يا خيل اللّه اركبي، يراد: يا فرسان خيل اللّه. و قال سيبويه: إذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: أحضر و تعال يا عجب، فهذا زمانك. فأما التّفريط فهو: التّضييع. و قال الزّجّاج: التّفريط في اللغة: تقدمة العجز. و في المكنّى عنه بقوله: «فيها» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الدّنيا، فالمعنى: على ما ضيّعنا في الدّنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل. و الثاني: أنها الصّفقة، لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة، و ترك (505) عزاه المصنف لمقاتل، و هو ساقط الحديث.
(1) انظر «تفسير البغوي» 2/ 92 و القرطبي 6/ 377.
(2) البيت ليزيد بن ضبة، و ضبة أمه، و اسم أبيه مقسم، «مجاز القرآن» 1/ 193 و «اللسان» بغت.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 22
ذكرها اكتفاء بذكر الخسران؛ قاله ابن جرير. و الثالث: أنها الطّاعة؛ ذكره بعض المفسّرين.
فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، و أصل الوزر: الحمل على الظّهر. و قال ابن فارس:
الوزر: الثّقل. و هل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ:
يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلما كان هول عظّمه عليه، و زاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، ما لي و لك؟ فيقول: أنا عملك، طالما ركبتني في الدّنيا، فلأركبنّك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الناس، فيركبه و يتخطّى به الناس حتى يقف بين يدي ربّه، فذلك قوله: وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ و هذا قول السّدّيّ، و عمرو بن قيس الملائي، و مقاتل. و الثاني: أنه مثل، و المعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزّجّاج. قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمّل.
و معنى أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ : بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه.
[سورة الأنعام (6): آية 32]
قوله تعالى: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: و ما الحياة الدّنيا في سرعة انقطاعها، و قصر عمرها؛ إلّا كالشيء يلعب به. و الثاني: و ما أمر الدّنيا و العمل لها إلا لعب و لهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا من الدّنيا. و الثالث: و ما أهل الحياة الدّنيا إلا أهل لعب و لهو، لاشتغالهم عمّا أمروا به. و اللعب: ما لا يجدي نفعا.
قوله تعالى: وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ اللام: لام القسم، و الدّار الآخرة: الجنّة «أفلا يعقلون» فيعملون لها. قرأ ابن كثير، و أبو عمرو؛ و حمزة، و الكسائيّ، «يعقلون» بالياء، في الأنعام و الأعراف و يوسف و يس، و قرءوا في القصص بالتاء. و قرأ نافع كل ذلك بالياء، و روى حفص، عن عاصم كلّ ذلك بالتاء، إلّا في يس فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ «1» ، بالياء و قرأ ابن عامر الذي في يس بالياء، و الباقي بالتاء.
[سورة الأنعام (6): آية 33]
قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(506) أحدها: أنّ رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: و اللّه يا محمّد ما كذبتنا قطّ فنتّهمك اليوم، و لكنّا إن نتّبعك نتخطّف من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
و قال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذّب النبيّ في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمّد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية «2» .
(506) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، و راوية أبي صالح هو الكلبي، و قد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
(1) سورة يس: 67.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، و هو ممن يضع الحديث، و ذكره الواحدي 430.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 23
و الثاني: أنّ المشركين كانوا إذا رأوا النبيّ صلى اللّه عليه و سلم قالوا فيما بينهم: إنه لنبيّ، فنزلت هذه الآية؛ قاله أبو صالح «1» .
(507) و الثالث: أنّ أبا جهل قال للنبيّ صلى اللّه عليه و سلم: إنّا لا نكذّبك، و لكن نكذّب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب.
(508) و قال أبو يزيد المدنيّ: لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أبا جهل، فصافحه أبو جهل؛ فقيل له:
أ تصافح هذا الصّابئ؟ فقال: و اللّه إني لأعلم أنه نبيّ، و لكن متى كنّا تبعا لبني عبد مناف؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
(509) و الرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أ صادق هو، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: و اللّه إنّ محمدا لصادق، و ما كذب قطّ، و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء، و السّقاية، و الحجابة، و النّبوة، فما ذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ، ذكره الطبريّ مطوّلا.
فأما الذي يقولون، فهو التّكذيب للنبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و الكفر باللّه. و في الآية تسلية للنبيّ صلى اللّه عليه و سلم و تعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع، و الكسائيّ: «يكذبونك» بالتخفيف و تسكين الكاف.
و في معناها قولان: أحدهما: لا يلفونك كاذبا؛ قاله ابن قتيبة. و الثاني: لا يكذّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آيات اللّه، و يتعرّضون لعقوباته. قال ابن الأنباريّ: و كان الكسائيّ يحتجّ لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبت الرجل: إذا نسبته إلى الكذب و صنعة الأباطيل من القول؛ و أكذبته: إذا أخبرت أنّ الذي يحدّث به كذب، ليس هو الصّانع له. قال: و قال غير الكسائيّ: يقال: أكذبت الرجل: إذا أدخلته في جملة الكذّابين، و نسبته إلى صفتهم، كما يقال: أبخلت الرجل: إذا نسبته إلى البخل، و أجبنته: إذا وجدته جبانا. قال الشاعر:
فطائفة قد أكفروني بحبّكم
و طائفة قالوا مسيء و مذنب «2»
(507) ورد موصولا و مرسلا. أخرجه الترمذي 3064 و الحاكم 2/ 315 ح 3230 كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي به، صححه الحاكم على شرطهما، و تعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجا لناجية شيئا ا. ه، و كرره الترمذي عن ناجية مرسلا، و كذا الطبري 13197 و 13198 و صوب الترمذي المرسل. و اللّه أعلم. انظر و القرطبي 2195 بتخريجنا.
(508) أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» 2/ 167 عن أبي يزيد مرسلا، و المرسل من قسم الضعيف.
و أخرجه أبو الشيخ كما في «الدر المنثور» 3/ 18 عن أبي يزيد مرسلا نحوه.
(509) أخرجه الطبري 13196 عن السدي مرسلا. و ذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. و هذا ضعيف فالسدي فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- الخلاصة: أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي جهل، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
(1) عزاه المصنف لأبي صالح، و ليس بشيء.
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي من قصيدته الرائعة في مدح آل البيت.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 24
و قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و عاصم، و حمزة و ابن عامر: «يكذّبونك» بالتشديد و فتح الكاف؛ و في معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذّبونك بحجّة، و إنما هو تكذيب عناد و بهت، قاله قتادة، و السّدّيّ. و الثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، و لكن يكذّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. و الثالث: لا يكذّبونك في السّرّ، و لكن يكذّبونك في العلانية، عداوة لك، قاله ابن السّائب، و مقاتل. و الرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. و الخامس:
لا يكذّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزّجّاج. و قال أبو عليّ: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا و إن اختلفت اللفظتان، إلّا أنّ «فعّلت»: إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت». و يؤكّد أنّ القراءتين بمعنى، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلّلت، و أقللت، و كثّرت، و أكثرت بمعنى. قال أبو عليّ: و معنى «لا يكذّبونك»: لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما جاء في كتبهم، و يجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذبا، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبته محمودا، لأنهم يعرفونك بالصّدق و الأمانة وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. و في «آيات اللّه» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى اللّه عليه و سلم، قاله السّدّيّ. و الثاني:
محمد و القرآن، قاله ابن السّائب. و الثالث: القرآن، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (6): آية 34]
قوله تعالى: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَ أُوذُوا حتى نشروا بالمناشير، و حرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذّبهم.
قوله تعالى: وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خلف لمواعيده، قاله ابن عباس. و الثاني: لا مبدّل لما أخبر به و ما أمر به، قاله الزّجّاج. و الثالث: لا مبدّل لحكوماته و أقضيته النّافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، و الذي قبله، يكون المعنى: لا مبدّل لحكم كلمات اللّه، و لا ناقض لما حكم به، و قد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي «1» . و الرابع:
أنّ معنى الكلام معنى النّهي، و إن كان ظاهره الإخبار؛ فالمعنى: لا يبدّلن أحد كلمات اللّه، فهو كقوله:
لا رَيْبَ فِيهِ* . و الخامس: أنّ المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام اللّه، و إن زخرف و اجتهد، لأنّ اللّه تعالى صانه برصين اللفظ، و قويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزّيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباريّ.
قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا. و قيل: إنّ «من» صلة.