کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 99
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، و نظيره: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» .
[سورة الأنعام (6): آية 165]
قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قال أبو عبيدة: الخلائف: جمع خليفة. قال الشّمّاخ:
تصيبهم و تخطئني المنايا
و أخلف في ربوع عن ربوع «2»
و للمفسّرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خلفوا الجنّ الذين كانوا سكّان الأرض؛ قاله ابن عباس. و الثاني: أنّ بعضهم يخلف بعضا؛ قاله ابن قتيبة. و الثالث: أنّ أمّة محمّد خلفت سائر الأمم، ذكره الزّجّاج.
قوله تعالى: وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: في الرّزق، و العلم، و الشّرف، و القوّة، و غير ذلك لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثّواب و العقاب.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فيه قولان: أحدهما: أنه سمّاه سريعا، لأنّه آت، و كلّ آت قريب. و الثاني: أنه إذا شاء العقوبة، أسرع عقابه.
(1) سورة الحج: 17.
(2) البيت للشماخ ديوانه: 58 «و اللسان» ربع. الربوع: جمع ربع و هو جماعة الناس الذين ينزلون ربعا يسكنونه، يقول: أبقى في قوم بعد قوم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 100
سورة الأعراف
(فصل في نزولها:) روى العوفيّ، و ابن أبي طلحة، و أبو صالح عن ابن عباس، أن سورة (الأعراف) من المكّيّ، و هذا قول الحسن، و مجاهد، و عكرمة، و عطاء، و جابر بن زيد، و قتادة. و روي عن ابن عباس، و قتادة أنها مكّيّة، إلّا خمس آيات؛ أوّلها قوله تعالى: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ «1» .
و قال مقاتل: كلّها مكّيّة، إلّا قوله: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «2» فإنهنّ مدنيّات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (7): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فأمّا التفسير، فقوله تعالى: المص قد ذكرنا في أوّل سورة البقرة كلاما مجملا في الحروف المقطّعة أوائل السّور، فهو يعم هذه أيضا.
فأما ما يختصّ بهذه الآية ففيه سبعة أقوال: أحدها: أنّ معناه: أنا اللّه أعلم و أفضل، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس. و الثاني: أنه قسم أقسم اللّه به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. و الثالث:
أنها اسم من أسماء اللّه تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. و الرابع: أنّ الألف مفتاح اسمه «اللّه»، و اللام مفتاح اسمه «لطيف»، و الميم مفتاح اسمه «مجيد»، قاله أبو العالية «3» . و الخامس: أنّ المص اسم للسّورة، قاله الحسن. و السادس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. و السابع: أنها بعض كلمة. ثمّ في تلك الكلمة قولان: أحدهما: المصوّر، قاله السّدّيّ. و الثاني: المصير إلى كتاب أنزل إليك، ذكره الماوردي.
[سورة الأعراف (7): آية 2]
قوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ قال الأخفش: رفع الكتاب بالابتداء. و مذهب الفرّاء أنّ اللّه تعالى اكتفى في مفتتح السّور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل: «ا ب ت ث»
(1) سورة الأعراف: 163.
(2) سورة الأعراف: 172.
(3) هذه الأقوال الأربعة واهية لا برهان عليها، و هي بعيدة جدا، و كذا ما بعدها، و الصواب في ذلك أن يقال: اللّه أعلم بمراده.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 101
ثمانية و عشرون حرفا؛ فالمعنى: حروف المعجم: كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الأنباري: و يجوز أن يرتفع الكتاب بإضمار: هذا الكتاب. و في الحرج قولان: أحدهما: أنه الشّكّ، قاله ابن عباس، و مجاهد، و قتادة، و السّدّيّ، و ابن قتيبة. و الثاني: أنه الضّيق، قاله الحسن، و الزّجّاج. و في هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الكتاب؛ فعلى هذا، في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا يضيقنّ صدرك بالإبلاغ، و لا تخافنّ، قاله الزّجّاج. و الثاني: لا تشكنّ أنه من عند اللّه. و القول الثاني: أنها ترجع إلى مضمر، و قد دلّ عليه الإنذار، و هو التّكذيب، ذكره ابن الأنباري. قال الفرّاء: فمعنى الآية: لا يضيقنّ صدرك أن كذّبوك. قال الزّجّاج: و قوله تعالى: لِتُنْذِرَ بِهِ مقدّم؛ و المعنى: أنزل إليك لتنذر به و ذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. وَ ذِكْرى يصلح أن يكون في موضع رفع و نصب و خفض؛ فأمّا النّصب، فعلى قوله: أنزل إليك لتنذر به، و ذكرى للمؤمنين أي و لتذكّر به ذكرى، لأنّ في الإنذار معنى التّذكير. و يجوز الرفع على أن يكون: و هو ذكرى، كقولك: و هو ذكرى للمؤمنين. فأمّا الخفض، فعلى معنى: لتنذر، لأنّ معنى «لتنذر»: لأنّ تنذر؛ المعنى للإنذار و الذّكرى، و هو في موضع خفض.
[سورة الأعراف (7): آية 3]
قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ؛ إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله: «اتّبعوا»؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه لمّا علم أنّ الخطاب له و لأمّته، حسن الجمع لذلك المعنى. و الثاني: أنّ الخطاب الأوّل خاصّ له؛ و الثاني محمول على الإنذار، و الإنذار في طريق القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: اتَّبِعُوا ... ، ذكرهما ابن الأنباري. و الثالث: أنّ الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسّرين؛ قالوا: و الذي أنزل إليهم القرآن. و قال الزّجّاج: الذي أنزل: القرآن و ما أتى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، لأنه ممّا أنزل عليه، لقوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» . وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: لا تتولّوا من عدل عن دين الحقّ، و كلّ من ارتضى مذهبا فهو وليّ أهل المذهب. و قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ما: زائدة مؤكّدة؛ و المعنى:
قليلا تتذكّرون. قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و أبو بكر عن عاصم: «تذّكّرون» مشددة الذال و الكاف. و قرأ حمزة، و الكسائيّ، و حفص عن عاصم: «تذكّرون» خفيفة الذّال مشددة الكاف. قال أبو عليّ: من قرأ «تذكرون» بالتّشديد، أراد «تتذكرون» فأدّغم التّاء في الذال، و إدغامها فيها حسن، لأنّ التاء مهموسة، و الذال مجهورة؛ و المجهور أزيد صوتا من المهموس و أقوى؛ فإدغام الأنقص في الأزيد حسن. فأما حمزة و من وافقه، فإنهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، و ذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. و قرأ ابن عامر: «يتذكرون» بياء و تاء، على الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلم؛ و المعنى: قليلا ما يتذكّر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب.
[سورة الأعراف (7): آية 4]
وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، و «كم» تدلّ على الكثرة، و «ربّ»: موضوعة للقلّة. قال
(1) سورة الحشر: 7.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 102
الزّجّاج: المعنى: و كم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأنّ في الكلام دليلا عليه. و قوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا محمول على لفظ القرية؛ و المعنى: فجاءهم بأسنا غفلة و هم غير متوقّعين له؛ إمّا ليلا و هم نائمون، أو نهارا و هم قائلون. قال ابن قتيبة: بأسنا: عذابنا، و بياتا: ليلا. و قائلون: من القائلة نصف النهار. فإن قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنّ الهلاك و البأس يقعان معا، كما تقول: أعطيتني فأحسنت؛ و ليس الإحسان بعد الإعطاء و لا قبله، و إنما وقعا معا، قاله الفرّاء. و الثاني: أنّ الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، و كان بأسنا قد جاءها، فأضمر الكون، كما أضمر في قوله: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ «1» ، أي: ما كانت الشّياطين تتلوه، و قوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ «2» ، أي: إن يكن سرق. و الثالث: أنّ في الآية تقديما و تأخيرا، تقديره:
و كم من قرية جاءها بأسنا بياتا، أو هم قائلون فأهلكناها، كقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَ «3» أي: رافعك و متوفّيك، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ قال الفرّاء: فيه واو مضمرة؛ و المعنى: فجاءها بأسنا بياتا، أو و هم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق.
[سورة الأعراف (7): آية 5]
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
قوله تعالى: فَما كانَ دَعْواهُمْ قال اللغويّون: الدّعوى ها هنا بمعنى الدّعاء و القول. و المعنى:
ما كان قولهم و تداعيهم إذ جاءهم العذاب إلّا الاعتراف بالظّلم. قال ابن الأنباري: و للدّعوى في الكلام موضعان: أحدهما: الادّعاء. و الثاني: القول و الدّعاء. قال الشاعر:
إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي
بدعواك من مذل بها فيهون «4»
[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 7]
قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: الأمم يسألون: هل بلّغكم الرّسل؛ و ما ذا أجبتم؟ و يسأل الرّسل: هل بلّغتم، و ما ذا أجبتم؟. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: فلنخبرنّهم بما عملوا بعلم منّا وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عن الرّسل و الأمم. و قال ابن عباس: يوضع الكتاب، فيتكلّم بما كانوا يعملون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 8 الى 9]
قوله تعالى: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ أي: العدل. و إنما قال: «موازينه» لأنّ «من» في معنى جميع، يدلّ عليه قوله: فَأُولئِكَ . و في معنى يَظْلِمُونَ قولان: أحدهما: يجحدون. و الثاني: يكافرون.
قال الفرّاء: و المراد بموازينه: وزنه. و العرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك، و وزن درهمك، و يقولون: داري بميزان دارك، و وزن دارك؛ و يريدون: حذاء دارك. قال الشاعر:
(1) سورة البقرة: 102.
(2) سورة يوسف: 77.
(3) سورة آل عمران: 55.
(4) البيت لكثير عزة، ديوانه 2/ 245. «اللسان»: مذل. و مذلت رجله مذلا بفتح و سكون و أمذلت: خدرت.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 103
قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة
عندي لكلّ مخاصم ميزانه «1»
يعني: مثل كلامه و لفظه.
(فصل:) و القول بالميزان مشهور في الحديث، و ظاهر القرآن ينطق به. و أنكرت المعتزلة ذلك، و قالوا: الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أنّ الوزن يرجع إلى الصّحائف، بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال:
(568) «إنّ اللّه عزّ و جلّ يستخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة و تسعين سجلّا، كلّ سجلّ مدّ البصر، ثم يقول له: أ تنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟
فيقول: لا يا ربّ. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا ربّ؛ فيقول: بلى، إنّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله، فتوضع السّجلّات في كفّة، و البطاقة في كفّة؛ قال: فطاشت السّجلّات و ثقلت البطاقة» أخرجه أحمد في «مسنده»، و التّرمذيّ.
(569) و روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «يؤتى بالرّجل الطويل الأكول الشّروب، فلا يزن جناح بعوضة»، فعلى هذا يوزن الإنسان.
قال ابن عباس: توزن الحسنات و السّيئات في ميزان، له لسان و كفّتان. فأمّا المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفّة الميزان، فيخفّ وزنه. و قال الحسن: للميزان لسان و كفّتان. و جاء في الحديث:
(570) أنّ داود عليه السلام سأل ربّه أن يريه الميزان، فأراه إيّاه؛ فقال: يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفّتيه حسنات؟ فقال: يا داود، إنّي إذا رضيت عن عبدي، ملأتها بتمرة.
و قال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربّه: زن بينهم، و ردّ من بعضهم على بعض؛ فيردّ على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فإن لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فردّ على سيئات الظالم، فيرجع و عليه مثل الجبل.
فإن قيل: أليس اللّه عزّ و جلّ يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟
فالجواب أنّ فيه خمسة حكم: إحداها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا. و الثانية: إظهار علامة السّعادة و الشّقاوة في الأخرى. و الثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير و شرّ. و الرابعة: إقامة (568) حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي 2639 و ابن ماجة 4300 و أحمد 2/ 213 و ابن حبان 225 و الحاكم 1/ 529. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. و صححه الحاكم، و وافقه الذهبي، و هو حسن لأجل عامر بن يحيى، و بقية رجاله رجال مسلم. و ورد من طريق ابن لهيعة أخرجه أحمد 2/ 222 و ابن لهيعة حسن الحديث في الشواهد و المتابعات. و انظر «تفسير الشوكاني» 967 بتخريجنا.
(569) صحيح. أخرجه البخاري 4729 و مسلم 2785 من حديث أبي هريرة.
(570) لم أقف عليه، و لعل مصدره كتب الأقدمين، و اللّه أعلم.
(1) البيت منسوب إلى ثعلب في «اللسان». و الميزان: المقدار.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 104
الحجّة عليهم. و الخامسة: الإعلام بأنّ اللّه عادل لا يظلم. و نظير هذا أنه أثبت الأعمال في كتاب، و استنسخها من غير جواز النّسيان عليه.
[سورة الأعراف (7): آية 10]
وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
قوله تعالى: وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: مكّناكم إيّاها. و الثاني: سهّلنا عليكم التّصرّف فيها. و في المعايش قولان: أحدهما: ما تعيشون به من المطاعم و المشارب. و الثاني:
ما تتوصّلون به إلى المعايش، من زراعة، و عمل، و كسب. و أكثر القرّاء على ترك الهمز في «معايش» و قد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزّجّاج: و جميع النّحويين البصريين يزعمون أنّ همزها خطأ، لأنّ الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة و صحائف؛ فصحيفة من الصّحف؛ و الياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش؛ فالياء أصلية.
قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: شكركم قليل. و قال ابن عباس: يريد أنكم غير شاكرين.
[سورة الأعراف (7): آية 11]
قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: و لقد خلقناكم في ظهر
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 437- 438: و أولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ و لقد خلقنا آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ بتصويرنا آدم. كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه. و المعنيّ في ذلك سلفه، و كما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ* [البقرة: 63] و ما أشبه ذلك من الخطاب الموجه إلى الحي الموجود، و المراد به السلف المعدوم، فكذلك ذلك في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ . معناه و لقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. و إنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، و معلوم أن اللّه تبارك و تعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصور ذريته في بطون أمهاتهم بل قبل أن يخلق أمهاتهم. و «ثم» في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، و ذلك كقول القائل: «قمت ثم قعدت» لا يكون «القعود» إذا عطف به ب «ثم» على قوله «قمت» إلا بعد القيام. و كذلك ذلك في جميع الكلام. و لو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها و ذلك كقول القائل: «قمت و قعدت»، فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل «القيام» لأن «الواو» تدخل في الكلام إذا كانت عطفا توجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين.
أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم و أيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إن قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.
و قد وجه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب كذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، و زعم أن معنى ذلك: و لقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم، و ذلك غير جائز في كلام العرب، لأنها لا تدخل «ثم» في الكلام و هي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر، و إن كانوا قد يقدمونها في الكلام، إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير و ذلك كقولهم: «قام عبد الله ثم عمرو». فأما إذا قيل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو» فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله إذا كان الخبر صادقا، فقوله تبارك.
و تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا نظير قول القائل: «قام عبد الله ثم قعد عمرو». في أنه غير جائز أن يكون أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق و التصوير لما وصفنا قبل. ا. ه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 105
آدم، ثم صوّرناكم في الأرحام، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس. و الثاني: و لقد خلقناكم في أصلاب الرّجال، و صوّرناكم في أرحام النّساء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، و به قال عكرمة.
و الثالث: «و لقد خلقناكم»، يعني آدم، «ثم صوّرناكم»، يعني ذرّيته من بعده؛ رواه العوفيّ عن ابن عباس. و الرابع: «و لقد خلقناكم»،: يعني آدم، «ثم صوّرناكم» في ظهره، قاله مجاهد. و الخامس:
«خلقناكم» نطفا في أصلاب الرّجال، و ترائب النّساء، «ثم صوّرناكم» عند اجتماع النّطف في الأرحام، قاله ابن السّائب. و السادس: «خلقناكم» في بطون أمّهاتكم، «ثم صوّرناكم» فيما بعد الخلق بشقّ السّمع و البصر، قاله معمر. و السابع: «خلقناكم»، يعني آدم خلقناه من تراب، «ثم صوّرناكم»، أي: صوّرناه، قاله الزّجّاج، و ابن قتيبة. قال ابن قتيبة: فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه؛ فمن قال: عنى بقوله:
«خلقناكم» آدم، فمعناه: خلقنا أصلكم؛ و من قال: صوّرنا ذرّيته في ظهره، أراد إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذّرّ. و الثامن: «و لقد خلقناكم» يعني الأرواح، «ثم صوّرناكم» يعني الأجساد، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد». و في «ثمّ» المذكورة مرّتين قولان: أحدهما: أنّها بمعنى الواو، قاله الأخفش.
و الثاني: أنّها للتّرتيب، قاله الزّجّاج.
[سورة الأعراف (7): آية 12]
قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «ما» استفهام، و معناها الإنكار. قال الكسائيّ: «لا» ها هنا زائدة. و المعنى: ما منعك أن تسجد؟. و قال الزّجّاج: موضع «ما» رفع. و المعنى أيّ شيء منعك من السجود؟ و «لا» زائدة مؤكّدة؛ و مثله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» قال ابن قتيبة: و قد تزاد «لا» في الكلام. و المعنى: طرحها لإباء في الكلام، أو جحد، كهذه الآية. و إنّما زاد «لا» لأنّه لم يسجد.
و مثله: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «2» على قراءة من فتح «أنّها»، فزاد «لا» لأنّهم لم يؤمنوا؛ و مثله:
وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» . و قال الفرّاء: «لا» ها هنا جحد محض، و ليست بزائدة، و المنع راجع إلى تأويل القول، و التأويل: من قال لك: لا تسجد؟، فأحلّ المنع محلّ القول، و دخلت بعده «أن» ليدلّ على تأويل القول الذي لم يتصرّح لفظه. و قال ابن جرير: في الكلام محذوف، تقديره: ما منعك من السّجود، فأحوجك أن لا تسجد؟. قال الزّجّاج: و سؤال اللّه تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له، و ليظهر أنه معاند، و لذلك لم يتب، و أتى بشيء في معنى الجواب، و لفظه غير جواب، لأنّ قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إنما هو جواب، أيكما خير؟ و لكن المعنى: منعني من السجود فضلي عليه. و مثله قولك للرّجل: كيف كنت؟ فيقول: أنا صالح؛ و إنما الجواب: كنت صالحا، فيجيب بما يحتاج إليه و زيادة. قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النّصّ، و خفي عليه فضل الطّين على النّار؛ و فضله من وجوه: أحدها: أنّ من طبع النار الطّيش و الالتهاب و العجلة، و من طبع الطّين الهدوء و الرّزانة. و الثاني: أنّ الطّين سبب الإنبات و الإيجاد، و النّار سبب الإعدام
(1) سورة الحديد: 29.
(2) سورة الأنعام: 109.