کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 430
هما تفلا في فيّ من فمويهما
على النّابح العاوي أشدّ لجاميا
فزاد واوا بعد الميم ليصلح شعره. و مثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب اللّه النّازل بالفصاحة، لأنها من ضرورات الشّعراء.
و القول الرابع: أنه همّ أن يضربها و يدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربّه أنّ اللّه أوقع في نفسه أنه إن ضربها كان ضربه إيّاها حجّة عليه، لأنّها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري.
و القول الخامس: أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثّعلبيّ، و هو قول مرذول، أ فتراه أراد الفرار منها، فلمّا رأى البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء: كان همّ يوسف خطيئة من الصّغائر الجائزة على الأنبياء، و إنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، و ليعرّفهم مواقع نعمته في الصّفح عنهم، و ليجعلهم أئمّة لأهل الذّنوب في رجاء الرّحمة. قال الحسن: إنّ الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، و لكن لئلّا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن أنّ الحجّة للأنبياء ألزم، فإذا قبل التّوبة منهم، كان إلى قبولها منكم أسرع.
(811) و روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ما من أحد يلقى الله تعالى إلّا و قد همّ بخطيئة أو عملها، إلّا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهمّ و لم يعملها».
قوله تعالى: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب «لو لا» محذوف. قال الزّجّاج: المعنى: لو لا أن رأى برهان ربّه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري: لزنى، فلمّا رأى البرهان كان سبب انصراف الزّنا عنه. و في البرهان ستة أقوال:
أحدها: أنه مثل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نودي يا يوسف، أ تزني فتكون مثل الطّائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النّداء شيئا، فنودي الثانية، فلم يعط على النّداء شيئا فتمثّل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. و روى الضّحّاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضّا على أنامله، فأدبر هاربا، و قال: و حقّك يا أبت لا أعود أبدا. و قال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضّا (811) متن واه بمرة، شبه موضوع، فيه زيادة تدل على بطلانه. أخرجه ابن المنذر كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 369 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «ما من عبد يلقى اللّه إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن اللّه تعالى يقول: وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً قال: «و إنما ذكره مثل هدبة الثوب». و كذا ذكره الديلمي في «الفردوس» 4788 و في الإسناد سويد بن سعيد، و قد ضعفه الجمهور و هو الذي جاء بحديث «من عشق فعف ...» و قال فيه ابن معين: لو كان لي فرس و رمح غزوت سويدا. و قال البخاري: منكر الحديث. و قد قال البخاري في تاريخه، كل من قلت عنه منكر الحديث فلا يحل الرواية عنه. اه راجع ترجمته في «الميزان». و له طريق أخرى عند الطبري 6976 و فيه ابن إسحاق مدلس و قد عنعن، و الظاهر أنه سمعه من ضعيف فأسقطه، فقد كرره الطبري 6977 بإسناد صحيح عن ابن المسيب من قوله و هو أشبه و كرره 6979 بإسناد آخر عنه أيضا، و 6978 عن ابن المسيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا و هو أشبه، فإن المتن منكر أن يكون من كلام النبي صلى اللّه عليه و سلم، و الراجح أنه متلقى عن أهل الكتاب هذا ما تميل إليه النفس و اللّه أعلم. و قد رجح الوقف السيوطي في «الدر» 2/ 39.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 431
على شفتيه. و قال الحسن: مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على إبهامه أو بعض أصابعه. و إلى هذا المعنى ذهب مجاهد، و سعيد بن جبير، و عكرمة، و قتادة، و ابن سيرين، و الضّحّاك في آخرين. و قال عكرمة: كلّ ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولدا، إلّا يوسف فإنّه ولد له أحد عشر ولدا، فنقص بتلك الشّهوة ولدا.
و الثاني: أنه جبريل عليه السّلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: مثل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أ تزني فتكون مثل الطّائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب.
و الثالث: أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أيّ شيء تصنعين؟
قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السّوأة، فقال: أ تستحين من صنم لا يعقل و لا يسمع، و لا أستحي من إلهي القائم على كلّ نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله عليّ بن أبي طالب، و عليّ بن الحسين، و الضّحّاك.
و الرابع: أنّ الله تعالى بعث إليه ملكا، فكتب في وجه المرأة بالدّم: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «1» ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. و روي عن محمّد بن كعب القرظيّ: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، و في رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط. و روى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كفّ ليس فيها عضد و لا معصم، و فيها مكتوب وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ، فقام هاربا، و قامت، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت و عاد، فلمّا قعد إذا بكفّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «2» الآية، فقام هاربا، فلمّا عاد، قال الله تعالى لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحطّ جبريل عاضّا على كفّه أو إصبعه و هو يقول: يا يوسف، أ تعمل عمل السّفهاء و أنت مكتوب عند اللّه في الأنبياء؟!. و قال وهب بن منبّه: ظهرت تلك الكفّ و عليها مكتوب بالعبرانيّة أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» ، فانصرفا، فلمّا عادا رجعت و عليها مكتوب وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ «4» ، فلمّا عادا عادت و عليها مكتوب وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية، فعاد، فعادت الرابعة و عليها مكتوب وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ، فولّى يوسف هاربا «5» .
و الخامس: أنه سيّده العزيز دنا من الباب، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم. و قال ابن إسحاق: يقال: إنّ البرهان خيال سيّده، رآه عند الباب فهرب.
و السادس: أنّ البرهان أنه علم ما أحلّ الله ممّا حرّم الله، فرأى تحريم الزّنا، روي عن محمّد بن كعب القرظيّ. قال ابن قتيبة: رأى حجّة اللّه عليه، و هي البرهان، و هذا هو القول الصّحيح، و ما تقدّمه فليس بشيء، و إنّما هي أحاديث من أعمال القصّاص، و قد أشرت إلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير». و كيف يظنّ بنبيّ للّه كريم أنه يخوّف و يرعّب و يضطرّ إلى ترك هذه المعصية و هو مصرّ؟! هذا غاية القبح.
(1) سورة الإسراء: 32.
(2) سورة البقرة: 281.
(3) سورة الرعد: 33.
(4) سورة الانفطار: 10- 11.
(5) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها، و تقدم ما فيه كفاية.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 432
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كذلك أريناه البرهان لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ و هو خيانة صاحبه وَ الْفَحْشاءَ ركوب الفاحشة إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و ابن عامر بكسر اللام، و المعنى: إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم. و قرأ عاصم، و حمزة، و الكسائيّ بفتح اللام، أرادوا: من الذين أخلصهم الله من الأسواء و الفواحش. و بعض المفسّرين يقول: السّوء: الزّنى، و الفحشاء: المعاصي.
[سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 27]
قوله تعالى: وَ اسْتَبَقَا الْبابَ يعني يوسف و المرأة، تبادرا إلى الباب يجتهد كلّ واحد منهما أن يسبق صاحبه، و أراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب و يخرج، و أرادت هي إن سبقت إمساك الباب لئلّا يخرج، فأدركته فتعلّقت بقميصه من ورائه، فجذبته إليها، فقدّت قميصه من دبر، أي: قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب و هي الطّالبة له. قال المفسّرون: قطعت قميصه نصفين، فلمّا خرجا، ألفيا سيّدها، أي: صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقة بالقول مبرئة لنفسها من الأمر ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قال ابن عباس: تريد الزّنى إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي: ما جزاؤه إلّا السّجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضّرب بالسّياط، فغضب يوسف حينئذ و قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي و قال وهب بن منبّه: قال له العزيز حينئذ: أ خنتني يا يوسف في أهلي، و غدرت بي، و غررتني بما كنت أرى من صلاحك! فقال حينئذ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .
قوله تعالى: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها و ذلك أنه لمّا تعارض قولاهما، احتاجا إلى شاهد يعلم به قول الصّادق. و في ذلك الشّاهد ثلاثة «1» أقوال: أحدها: أنه كان صبيّا في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس «2» ، و شهر بن حوشب عن أبي هريرة، و به قال سعيد بن جبير، و الضّحّاك، و هلال بن يساف
(1) الصواب من هذه الأقوال القول الثاني، و أنه- أي الشاهد- من خاصة الملك أو العزيز، و الأشبه أن يكون مستشارا له أو قاضيا، فإن ما قاله في شأن القميص يدل على فهم و خبرة.
- و أما مستند القول الأول عن ابن عباس فخبره واه، لا تقوم به حجة.
(2) أخرجه الطبري 19109 و 19118 عن ابن عباس قوله، و إسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، و قد اختلط.
و كرره 19120 بإسناد ساقط، فيه عطية العوفي ضعيف، و عنه مجاهيل و أخرج خلافه برقم 19121 عن ابن عباس قوله: كان ذا لحية. و رجاله رجال مسلم، لكن سماك بن حرب مضطرب الرواية في عكرمة.
- قلت: و ورد أثر ابن عباس بمثل سياق المصنف مرفوعا، أخرجه الحاكم 2/ 595 من طريق السري بن خزيمة عن مسلم بن إبراهيم عن جرير بن حازم عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، و شاهد يوسف، و صاحب جريج، و ابن ماشطة فرعون».
- صححه الحاكم على شرطهما! و وافقه الذهبي! و ليس بشيء، و الوهم فيه من السري بن خزيمة، أو من شيخ الحاكم، فقد أخرج البخاري 3436 و مسلم 2550 و أحمد 2/ 307 و غيرهما من طرق عن مسلم بن إبراهيم.
بهذا الإسناد «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر فيه عيسى بن مريم، و صاحب جريج، و الطفل الرضيع و قصته مع الجبار و الجارية» و سيأتي. فهذا هو الصحيح، و ليس فيه ذكر ابن ماشطة فرعون و لا شاهد يوسف.
و يلاحظ أن خبر الحاكم صدره «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة. ثم ذكر أربعة؟!!. فهذا دليل على أنه حديث مقلوب، جعل إسناده لمتن آخر، و اللّه أعلم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 433
في آخرين. و الثاني: أنه كان من خاصّة الملك. رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. و قال أبو صالح عن ابن عباس: كان ابن عمّ لها، و كان رجلا حكيما، فقال: قد سمعنا الاشتداد و الجلبة من وراء الباب، فإن كان شقّ القميص من قدّامه فأنت صادقة و هو كاذب، و إن كان من خلفه فهو صادق و أنت كاذبة، و قال بعضهم: كان ابن خالة المرأة. و الثالث: أنه شقّ القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، و فيه ضعف، لقوله: مِنْ أَهْلِها .
فإن قيل: كيف وقعت شهادة الشّاهد ها هنا معلّقة بشرط، و الشّارط غير عالم بما يشرطه؟
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أنّ الشّاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف و أزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطا ليلزم المخاطبين قبول شهادته من جهة العقل و التّمييز، فكأنّه قال: هو الصّادق عندي، فإن تدبّرتم ما أشترطه لكم، عقلتم قولي، و مثل هذا قول الحكماء: إن كان القدر حقّا، فالحرص باطل، و إن كان الموت يقينا، فالطّمأنينة إلى الدنيا حمق.
و الجواب الثاني: أنّ الشّاهد لم يقطع بالقول، و لم يعلم حقيقة ما جرى، و إنّما قال ما قال على جهة إظهار ما يسنح له من الرأي، فكأنّ معنى قوله: وَ شَهِدَ شاهِدٌ : أعلم و بيّن. فقال: الذي عندي من الرّأي أن نقيس القميص ليوقف على الخائن. فهذان الجوابان يدلّان على أنّ المتكلم رجل.
فإن قلنا: إنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصحّحا لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة و معجزة لا يبقى معها شكّ.
[سورة يوسف (12): آية 28]
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ في هذا الرّائي و القائل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ قولان:
أحدهما: أنه الزّوج. و الثاني: الشّاهد.
و في هاء الكناية في قوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ «1» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى تمزيق القميص، قاله مقاتل. و الثاني: إلى قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ، فالمعنى: قولك هذا من كيدكنّ، قاله الزّجّاج. و الثالث: إلى السّوء الذي دعته إليه، ذكره الماوردي.
قال ابن عباس: إِنَّ كَيْدَكُنَ أي: عملكنّ عَظِيمٌ تخلطن البريء و السّقيم.
[سورة يوسف (12): الآيات 29 الى 30]
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه اللّه 2/ 586: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ أي: إن هذا البهت و اللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 434
قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا المعنى: يا يوسف أعرض. و في القائل له هذا قولان:
أحدهما: أنه ابن عمّها و هو الشّاهد، قاله ابن عباس. و الثاني: أنه الزّوج، ذكره جماعة من المفسّرين.
قال ابن عباس: أعرض عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، و اكتمه عليها. و روى الحلبيّ عن عبد الوارث:
«يوسف أعرض عن هذا» بفتح الراء على الخبر.
قوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ فيه قولان: أحدهما: استعفي زوجك لئلّا يعاقبك، قاله ابن عباس. و الثاني: توبي من ذنبك فإنّك قد أثمت.
و في القائل لهذا قولان: أحدهما: ابن عمّها. و الثاني: الزّوج.
قوله تعالى: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ يعني: من المذنبين. قال المفسّرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدّث بذلك النساء، و هو قوله: وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ، و في عددهنّ قولان: أحدهما: أنهنّ كنّ أربعا: امرأة ساقي الملك، و امرأة صاحب دواته، و امرأة خبّازه، و امرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس. و الثاني: أنهنّ خمس: امرأة الخبّاز، و امرأة السّاقي، و امرأة السّجّان، و امرأة صاحب الدّواة، و امرأة الآذن، قاله مقاتل.
و أما العزيز، فهو بلغتهم الملك، و الفتى بمعنى العبد. قال الزّجّاج: كانوا يسمّون المملوك فتى.
و إنّما تكلّم النّسوة في حقّها، طعنا فيها، و تحقيقا لبراءة يوسف.
قوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي: بلغ حبّه شغاف قلبها. و في الشّغاف أربعة أقوال: أحدها: أنه جلدة بين القلب و الفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس. و الثاني: أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: و لم يرد الغلاف، إنما أراد القلب، يقال: شغفت فلانا: إذا أصبت شغافه، كما يقال: كبدته:
إذا أصبت كبده، و بطنته: إذا أصبت بطنه. و الثالث: أنه حبّة القلب و سويداؤه. و الرابع: أنه داء يكون في الجوف في الشّراسيف، و أنشدوا:
و قد حال همّ دون ذلك داخل
دخول الشّغاف تبتغيه الأصابع «1»
ذكر القولين الزّجّاج. و قال الأصمعيّ: الشّغاف عند العرب: داء يكون تحت الشّراسيف في الجانب الأيمن من البطن، و الشّراسيف: مقاطّ رؤوس الأضلاع، واحدها: شرسوف. و قرأ عبد الله بن عمرو، و عليّ بن الحسين، و الحسن البصريّ، و مجاهد، و ابن محيصن، و ابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين، قال الفرّاء: كأنه ذهب بها كلّ مذهب، و الشّعف: رؤوس الجبال.
قوله تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: عن طريق الرّشد، لحبّها إيّاه. و المبين: الظّاهر.
[سورة يوسف (12): الآيات 31 الى 32]
قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ يعني: امرأة العزيز بِمَكْرِهِنَ و فيه قولان: أحدهما: أنه قولهنّ
(1) البيت للنابغة الذبياني انظر ديوانه 79، و ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شغف».
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 435
و عيبهنّ لها، قاله ابن عباس، و قتادة، و السّدّيّ، و ابن قتيبة. قال الزّجّاج: و إنما سمّي هذا القول مكرا، لأنها كانت أطلعتهنّ على أمرها، و استكتمتهنّ، فمكرن و أفشين سرّها. و الثاني: أنه مكر حقيقة، و إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهنّ يوسف، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى: وَ أَعْتَدَتْ قال الزّجّاج: أفعلت من العتاد، و كلّ ما اتّخذته عدّة لشيء فهو عتاد، و العتاد: الشيء الثابت اللازم. فأمّا المتّكأ، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المجلس؛ فالمعنى: هيّأت لهنّ مجلسا، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. و الثاني: أنه الوسائد اللائي يتّكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. و قال الزّجّاج: المتّكأ: ما يتّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. و الثالث: أنه الطعام، قاله الحسن، و مجاهد، و قتادة. قال ابن قتيبة: يقال: اتّكأنا عند فلان: إذا طعمنا، قال جميل بن معمر:
فظللنا في نعمة و اتّكأنا
و شربنا الحلال من قلله «1»
و الأصل في هذا أنّ من دعوته ليطعم، أعددت له التّكأة للمقام و الطّمأنينة، فسمّي الطعام متكأ على الاستعارة. قال الأزهريّ: إنما قيل للطعام: متّكأ، لأنّ القوم إذا قعدوا على الطعام اتّكؤوا، و نهيت هذه الأمة عن ذلك. و قرأ مجاهد «متكا» بإسكان التاء خفيفة، و فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الأترج، قاله ابن عباس و مجاهد و يحيى بن يعمر في آخرين، و منه قول الشاعر:
و ترى المتك بيننا مستعارا «2»
يريد: الأترجّ. و الثاني: أنه الطعام أيضا، قاله عكرمة. و الثالث: كلّ شيء يحزّ بالسّكاكين، قاله الضّحّاك. و الرابع: أنه الزّماورد، روي عن الضّحّاك أيضا.
و قد روي عن جماعة أنهم فسّروا المتّكأ بما فسّروا به المتك، فروي عن ابن جريج أنه قال:
المتّكأ: الأترجّ، و كلّ ما يحزّ بالسّكاكين. و عن الضّحّاك قال: المتّكأ: كلّ ما يحزّ بالسّكاكين. و فرّق آخرون بين القراءتين، فقال مجاهد: من قرأ «متكأ» بالتّثقيل، فهو الطعام، و من قرأ بالتّخفيف، فهو الأترجّ. قال ابن قتيبة: من قرأ «متكا» فإنه يريد الأترجّ، و يقال: الزّماورد. و أيا ما كان، فإني لا أحسبه سمّي متكا إلّا بالقطع، كأنه مأخوذ من البتك، فأبدلت الميم منه باء، كما يقال: سمد رأسه و سبده: إذا استأصله، و شر لازم، و لازب، و الميم تبدل من الباء كثيرا، لقرب مخرجيها.
قوله تعالى: وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً إنما فعلت ذلك، لأنّ الطعام الذي قدّمت لهنّ يحتاج إلى السّكاكين. و قيل: كان مقصودها افتضاحهنّ بتقطيع أيديهنّ كما فضحنها. قال وهب بن منبّه:
ناولت كلّ واحدة منهنّ أترجّة و سكينا، و قالت لهنّ: لا تقطعن و لا تأكلن حتى أعلمكنّ، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهنّ. قال الزّجّاج: إن شئت ضممت التاء من قوله: «و قالت»، و إن شئت كسرت، و الكسر الأصل لسكون التاء و الخاء، و من ضمّ التاء، فلثقل الضمة بعد الكسرة. و لم يمكنه أن لا يخرج، لأنه بمنزلة العبد لها. و ذكر بعض أهل العلم أنها إنما قالت: «اخرج» و أضمرت في نفسها «عليهنّ»، فأخبر الحقّ عمّا في النّفس كأنّ اللسان قد نطق به، و مثله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً
(1) في «اللسان» مادة «قلل» القلّة: الحبّ العظيم، و قيل: الجرة العظيمة، و قيل: الجرة عامة و قيل: الكوز الصغير، و الجمع قلل و قلال، و قيل: هو إناء للعرب كالجرة الكبيرة.
(2) هو عجز بيت و صدره: لنشرب الإثم بالصّواع جهارا. انظر «تفسير القرطبي» 9/ 153.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 436
وَ لا شُكُوراً «1» لم يقولوا ذلك، إنما أضمروه، و يدلّ على صحة هذا أنها لو قالت له و هو شابّ مستحسن: أخرج على نسوة من طبعهنّ الفتنة، ما فعل.
و في قوله تعالى: أَكْبَرْنَهُ قولان: أحدهما: أعظمنه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، و ابن أبي نجيح عن مجاهد، و به قال قتادة، و ابن زيد. و الثاني: حضن «2» ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. و روى عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: حضن من الفرح، قال: و في ذلك يقول الشاعر:
نأتي النساء لدى أطهارهنّ و لا
نأتي النساء إذا أكثرن إكبارا «3»
و قد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد، و اختاره ابن الأنباري، و ردّه بعض اللغويين، فروي عن أبي عبيدة أنه قال: ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حضن»، و لكن عسى أن يكنّ من شدّة ما أعظمنه حضن، و كذلك روي عن الزّجّاج أنه أنكره.
قوله تعالى: وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حززن أيديهنّ، و كنّ يحسبن أنهنّ يقطّعن طعاما، قاله ابن عباس، و ابن زيد. و الثاني: قطّعن أيديهنّ حتى ألقينها، قاله مجاهد، و قتادة. و الثالث:
كلمن الأكفّ و أبنّ الأنامل، قاله وهب بن منبّه.
قوله تعالى: وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين، و اتّفقوا على حذف الألف في الوقف، و أبو عمرو جاء به على التّمام و الأصل، و الباقون حذفوا. و هذه الكلمة تستعمل في موضعين. أحدهما: الاستثناء. و الثاني: التّبرئة من الشّرّ. و الأصل «حاشا» و هي مشتقّة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته. و الحشا: النّاحية، و أنشدوا:
بأيّ الحشا أمسى الخليط المباين «4»
أي: بأي النّواحي، و المعنى: صار يوسف في حشا من أن يكون بشرا، لفرط جماله. و قيل:
صار في حشا ممّا قرفته به امرأة العزيز. و قال ابن عباس، و مجاهد: «حاش للّه» بمعنى: معاذ اللّه. قال الفرّاء: و «بشرا» منصوب، لأنّ الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلّا بالباء، فلمّا حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، و كذلك قوله: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ «5» ، و أمّا أهل نجد فيتكلّمون بالباء و بغير الباء، فإذا أسقطوها، رفعوا، و هو أقوى الوجهين في العربية. قال الزّجّاج: قوله: الرّفع أقوى الوجهين، غلط، لأنّ كتاب اللّه أقوى اللغات، و لم يقرأ بالرّفع أحد. و زعم الخليل، و سيبويه، و جميع النحويين القدماء أنّ «بشرا» منصوب، لأنه خبر «ما» و «ما» بمنزلة «ليس». قلت: و قد قرأ أبو المتوكّل، و أبو نهيك، و عكرمة، و معاذ القارئ في آخرين: «ما هذا
(1) سورة الإنسان: 9.
(2) قال الإمام الطبري رحمه اللّه: 7/ 203: مرجحا القول الأول: لا شك أن المحال أن يحضن من يوسف، و لكن الخبر، إن كان صحيحا عن ابن عباس على ما روي فخليق أن يكون معناه في ذلك: أنهن حضن لما أكبرن من حسن يوسف و جماله في أنفسهن، و وجدن ما يجد النساء من مثل ذلك.
و وافقه ابن كثير في تفسيره 2/ 587 بقوله: أكبرنه: أي أعظمن شأنه و أجللن قدره.
(3) بيت مصنوع، و قائله مجهول، انظر تفسير الطبري و البحر المحيط.
(4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حشا»، و عزاه إلى المعطّل الهذلي، و عنده- الحبيب- بدل- الخليط-.