کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 468
الرّحمة، فقال لهم هذا، قاله ابن إسحاق. و الثالث: أنّ يعقوب كتب إليه كتابا: إن رددت ولدي، و إلّا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فبكى، و قال لهم هذا. و في «هل» قولان: أحدهما: أنها استفهام لتعظيم القصّة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري: و المعنى: ما أعظم ما ارتكبتم، و ما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرّحم و تضييع الحقّ، و هذا مثل قول العربي: أ تدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يريد بذلك الاستفهام، و لكن يريد تفظيع الأمر، قال الشاعر:
أ ترجو بنو مروان سمعي و طاعتي «1»
لم يرد الاستفهام، إنما أراد أنّ هذا غير مرجو عندهم. قال: و يجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف و أخيه من تسليم اللّه لهما من المكروه؟ و هذه الآية تصديق قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ . و الثاني: أنّ «هل» بمعنى «قد»، ذكره بعض أهل التّفسير.
فإن قيل: فالذي فعلوا بيوسف معلوم، فما الذي فعلوا بأخيه، و ما سعوا في حبسه و لا أرادوه؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أنهم فرّقوا بينه و بين يوسف، فنغّصوا عيشه بذلك. و الثاني: أنهم آذوه بعد فقد يوسف. و الثالث: أنهم سبّوه لمّا قذف بسرقة الصّاع.
و في قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أربعة أقوال: أحدها: إذ أنتم صبيان، قاله ابن عباس. و الثاني:
مذنبون، قاله مقاتل. و الثالث: جاهلون بعقوق الأب، و قطع الرّحم، و موافقة الهوى. و الرابع: جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قرأ ابن كثير، و أبو جعفر، و ابن محيصن: «إنك» على الخبر، و قرأه آخرون بهمزتين محقّقتين، و أدخل بعضهم بينهما ألفا «2» .
و اختلف المفسّرون، هل عرفوه، أم شبّهوه؟ على قولين: أحدهما: أنهم شبّهوه بيوسف، قاله ابن عباس في رواية. و الثاني: أنهم عرفوه، قاله ابن إسحاق. و في سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه تبسّم، فشبّهوا ثناياه بثنايا يوسف، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. و الثاني: أنه كانت له علامة كالشّامة في قرنه، و كان ليعقوب مثلها، و لإسحاق مثلها، و لسارة، فلما وضع التّاج عن رأسه، عرفوه، رواه عطاء عن ابن عباس. و الثالث: أنه كشف الحجاب، فعرفوه، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى: قالَ أَنَا يُوسُفُ قال ابن الأنباري: إنما أظهر الاسم، و لم يقل: أنا هو، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحلّ منه، المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني، و لهذا قال: وَ هذا أَخِي و هم يعرفونه، و إنما قصد: و هذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى:
(1) هذا صدر بيت و عجزه (و قومي تميم و الفلاة ورائيا)، و سيأتي بتمامه ص 507.
(2) قال ابن كثير رحمه اللّه 2/ 602: القراءة المشهورة هي الأولى، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي: إنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين و أكثر، و هم لا يعرفون، و هو مع هذا يعرفهم و يكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ .
و قال الطبري رحمه اللّه 7/ 291: الصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأه بالاستفهام، لإجماع الحجة من القراء عليه، فوافق بذلك ابن كثير.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 469
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بخير الدنيا و الآخرة. و الثاني: بالجمع بعد الفرقة.
و الثالث: بالسلامة ثم بالكرامة.
قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ قرأ ابن كثير في رواية قنبل: «من يتقي و يصبر» بياء في الوصل و الوقف، و قرأ الباقون بغير ياء في الحالين. و في معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: من يتّق الزّنى و يصبر على البلاء. و الثاني: من يتّق الزّنى و يصبر على العزوبة. و الثالث: من يتّق الله و يصبر على المصائب، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. و الرابع: من يتّق معصية الله و يصبر على السجن، قاله مجاهد.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي: أجر من كان هذا حاله.
قوله تعالى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي: اختارك و فضّلك. و بما ذا عنوا أنه فضّله فيه؟ أربعة أقوال: أحدها: بالملك، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. و الثاني: بالصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
و الثالث: بالحلم و الصّفح عنا، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. و الرابع: بالعلم و العقل و الحسن و سائر الفضائل التي أعطاه.
قوله تعالى: وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري:
و لهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين»، و إن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطئ يخطأ» لأنّ معنى خطئ يخطأ، فهو خاطئ: آثم، و معنى أخطأ يخطئ، فهو مخطئ: ترك الصواب و لم يأثم، قال الشاعر:
عبادك يخطئون و أنت ربّ
بكفّيك المنايا و الحتوم «1»
أراد: يأثمون. قال: و يجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات، لأنّ «خاطئين» أشبه بما قبلها. و ذكر الفرّاء في معنى «إن» قولين:
أحدهما: و قد كنّا خاطئين. و الثاني: و ما كنّا إلّا خاطئين.
قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ قال أبو صالح عن ابن عباس: لا أعيّركم بعد اليوم بهذا أبدا. قال ابن الأنباري: إنما أشار إلى ذلك اليوم، لأنه أول أوقات العفو، و سبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. و قال ثعلب: قد ثرّب فلان على فلان: إذا عدّد عليه ذنوبه. و قال ابن قتيبة: لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم، و أصل التّثريب: الإفساد، يقال: ثرّب علينا: إذا أفسد. و في الحديث:
(820) «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ، و لا يثرب» أي: لا يعيّرها بالزّنى. قال ابن عباس:
(820) صحيح. أخرجه البخاري 2152- 2234- 6839، و مسلم 30- 31- 1703 و أبو داود 4470 و 4471، من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه. و لفظ الحديث بتمامه في البخاري: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها و لا يثرّب، ثم إن زنت فليجلدها و لا يثرّب، ثم إن زنت الثالثة، فليبعها و لو بحبل من شعر» و سيأتي ذكره في سورة النور.
(1) ذكره ابن منظور في «اللسان» و قال: الحتم: القضاء، و جمعه حتوم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 470
جعلهم في حلّ، و سأل الله المغفرة لهم.
و قال السّدّيّ: لمّا عرّفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، و قال:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي و هذا القميص كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف لمّا ألقي في الجبّ، و كان من الجنّة، و قد سبق ذكره.
قوله تعالى: يَأْتِ بَصِيراً قال أبو عبيدة: يعود مبصرا.
فإن قيل: من أين قطع على الغيب؟ فالجواب: أنّ ذلك كان بالوحي إليه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبيّ: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا.
[سورة يوسف (12): آية 94]
قوله تعالى: وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي: خرجت من مصر متوجّهة إلى كنعان. و كان الذي حمل القميص يهوذا. قال السّدّيّ: قال يهوذا ليوسف: أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب فأحزنته، و أنا الآن أحمل قميصك لأسرّه، فحمله، قال ابن عباس: فخرج حافيا حاسرا يعدو، و معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى: قالَ أَبُوهُمْ يعني يعقوب لمن حضره من أهله و قرابته و ولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ و معنى أجد: أشمّ، قال الشاعر:
و ليس صرير النّعش ما تسمعونه
و لكنّها أصلاب قوم تقصّف «1»
و ليس فتيق المسك ما تجدونه
و لكنّه ذاك الثّناء المخلّف
فإن قيل: كيف وجد يعقوب ريحه و هو بمصر، و لم يجد ريحه من الجبّ و بعد خروجه منه، و المسافة هناك أقرب؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنّ اللّه أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البليّة التي يتكامل بها الأجر، و أوجده ريحه من المكان النّازح عند تقضّي البلاء و مجيء الفرج.
و الثاني: أنّ هذا القميص كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه، فلمّا نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب، فعلم أنّ الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد: هبّت ريح فضربت القميص، ففاحت روائح الجنّة في الدنيا و اتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنّة إلا ما كان من ذلك القميص، فمن ثم قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ . و قيل: إنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها، فلذلك يستروح كلّ محزون إلى ريح الصّبا، و يجد المكروبون لها روحا، و هي ريح ليّنة تأتي من ناحية المشرق، قال أبو صخر الهذليّ:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر
قال ابن عباس: وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا.
قوله تعالى: لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ فيه خمسة أقوال: أحدها: تجهّلون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
(1) في «اللسان» الأصلاب: جمع صلب و هو الظهر.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 471
عباس، و به قال مقاتل. و الثاني: تسفهون، رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس، و به قال عطاء، و قتادة، و مجاهد في رواية. و قال في رواية أخرى: لو لا أن تقولوا: ذهب عقلك. و الثالث: تكذّبون، رواه العوفيّ عن ابن عباس، و به قال سعيد بن جبير، و الضّحّاك. و الرابع: تهرّمون، قاله الحسن، و مجاهد في رواية. قال ابن فارس: الفند: إنكار العقل من هرم. و الخامس: تعجّزون، قاله ابن قتيبة.
و قال أبو عبيدة: تسفّهون و تعجّزون و تلومون، و أنشد:
يا صاحبيّ دعا لومي و تفنيدي
فليس ما فات من أمر بمردود «1»
قال ابن جرير: و أصل التّفنيد: الإفساد، و أقوال المفسّرين تتقارب معانيها «2» ، و سمعت الشيخ أبا محمّد بن الخشّاب يقول: قوله: «لو لا أن تفنّدون» فيه إضمار تقديره: لأخبرتكم أنه حيّ.
[سورة يوسف (12): آية 95]
قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)
قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ قال ابن عباس: بنو بنيه خاطبوه بهذا، و كذلك قال السّدّيّ: هذا قول بني بنيه، لأنّ بنيه كانوا بمصر. و في معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الخطأ، قاله ابن عباس، و ابن زيد. و الثاني: أنه الجنون، قاله سعيد بن جبير.
و الثالث: الشّقاء و العناء، قاله مقاتل، يريد بذلك شقاء الدنيا.
[سورة يوسف (12): الآيات 96 الى 98]
قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ فيه قولان: أحدهما: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، و به قال وهب بن منبّه، و السّدّيّ، و الجمهور. و الثاني: أنه شمعون، قاله الضّحّاك.
فإن قيل: ما الفرق بين قوله ها هنا: فَلَمَّا أَنْ جاءَ و قال في موضع: فَلَمَّا جاءَهُمْ* «3» .
فالجواب: أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا، فدخول «أن» لتوكيد مضيّ الفعل، و سقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه، ذكره ابن الأنباري «4» .
قوله تعالى: أَلْقاهُ يعني القميص عَلى وَجْهِهِ يعني يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً ، الارتداد:
رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري: إنما قال: ارتدّ، و لم يقل: ردّ، لأنّ هذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين، كقولهم: طالت النّخلة، و الله أطالها، و تحركت الشجرة، و اللّه قد
(1) البيت لهانئ بن شكيم العدوي «مجاز القرآن» 1/ 318.
(2) قال الطبري رحمه اللّه 7/ 297: أصل التفنيد، الإفساد. و إذ كان ذلك كذلك فالضعف و الهرم و الكذب و ذهاب العقل و الضعف، و في الفعل: الكذب و اللوم بالباطل. فالأقوال على اختلاف عباراتهم متقاربة المعاني، محتمل جميعها ظاهر التنزيل، إذ لم يكن في الآية دليل على أنه معني به بعض ذلك دون بعض.
(3) سورة البقرة: 89.
(4) كذلك قال الطبري رحمه اللّه 7/ 299، و قال أيضا: هذا في «لما» و «حتى» خاصة، كما قال جل ثناؤه، وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا - العنكبوت: 33-.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 472
حركها. قال الضّحّاك: رجع إليه بصره بعد العمى، و قوّته بعد الضّعف، و شبابه بعد الهرم، و سروره بعد الحزن. و روى يحيى بن يمان عن سفيان قال: لمّا جاء البشير يعقوب، قال: على أيّ دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمّت النّعمة.
قوله تعالى: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا، لأنه نبيّ مجاب الدّعوة.
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخّرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنّة الإجابة، ثم فيه ثلاثة أقوال:
(821) أحدها: أنه أخّرهم إلى ليلة الجمعة، رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. قال وهب: كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيّف و عشرين سنة «1» . و الثاني: إلى وقت السّحر من ليلة الجمعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاوس: فوافق ذلك ليلة عاشوراء. و الثالث: إلى وقت السّحر، رواه عكرمة عن ابن عباس، و به قال ابن مسعود، و ابن عمر، و قتادة، و السّدّيّ، و مقاتل. قال الزّجّاج: إنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدّعاء، لا أنه ضنّ عليهم بالاستغفار، و هذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السّلام.
و القول الثاني: أنه دفعهم عن التّعجيل بالوعد. قال عطاء الخراسانيّ: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم) و إلى قول يعقوب: (سوف أستغفر لكم ربي).
و الثالث: أنه أخّرهم ليسأل يوسف، فإن عفا عنهم، استغفر لهم، قاله الشّعبيّ.
و روي عن أنس بن مالك أنهم قالوا: يا أبانا إن عفا الله عنا، و إلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا، فدعا يعقوب و أمّن يوسف، فلم يجب فيهم عشرين سنة، ثم جاء جبريل فقال: إنّ اللّه قد أجاب دعوتك في ولدك، و عفا عمّا صنعوا به، و اعتقد مواثيقهم من بعد على النّبوّة. قال المفسّرون: و كان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا و مائتي راحلة، و سأله أن يأتيه بأهله و ولده. فلما ارتحل يعقوب و دنا (821) ضعيف جدا، و الأشبه أنه موضوع. أخرجه الطبري 19880 و 19881 من طريقين عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرنا ابن جريج عن عطاء و عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، قد قال أخي يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة». و هذا إسناد ضعيف جدا، و له علتان: الأولى: ضعف سليمان بن عبد الرحمن، فهو و إن وثقه بعضهم، و قال أبو حاتم الرازي: صدوق، فقد عقب ذلك أبو حاتم بقوله: إلا أنه من أروى الناس عن الضعفاء و المجهولين، و هو عندي في حدّ لو أن رجلا وضع له حديثا لم يفهم، و كان لا يميّز. راجع «الميزان» 2/ 212- 214. العلة الثانية: عنعنة ابن جريج، و هو مدلس، و هو لم يسمع من عكرمة. قال الإمام أحمد: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج، لا يبالي من أين يأخذها. راجع «الميزان» 2/ 659. فالحديث ضعيف جدا، و الأشبه أنه موضوع. و قال الحافظ ابن كثير 2/ 406: هذا حديث غريب، و في رفعه نظر، و اللّه أعلم.
(1) هذا قول بعيد، وهب هو ابن منبه، عامة ما يرويه عن كتب الإسرائيليات.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 473
من مصر، استأذن يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب، فأذن له، و أمر الملأ من أصحابه بالرّكوب معه، فخرج في أربعة آلاف من الجند، و خرج معهم أهل مصر. و قيل: إنّ الملك خرج معهم أيضا.
فلما التقى يعقوب و يوسف، بكيا جميعا، فقال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، أما علمت أنّ القيامة تجمعني و إيّاك؟ قال: أي بنيّ، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع. و قيل: إنّ يعقوب ابتدأه بالسّلام، فقال: السّلام عليك يا مذهب الأحزان.
[سورة يوسف (12): آية 99]
قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ يعني: يعقوب و ولده. و في هذا الدّخول قولان:
أحدهما: أنه دخول أرض مصر، ثم قال لهم: ادْخُلُوا مِصْرَ يعني البلد.
و الثاني: أنه دخول مصر، ثم قال لهم: «ادخلوا مصر» أي: استوطنوها.
و في قوله تعالى: آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قولان: أحدهما: أبوه و خالته، لأنّ أمّه كانت قد ماتت، قاله ابن عباس و الجمهور. و الثاني: أبوه و أمّه، قاله الحسن، و ابن إسحاق.
و في قوله تعالى: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أربعة أقوال «1» : أحدها: أنّ في الكلام تقديما و تأخيرا، فالمعنى: سوف أستغفر لكم ربّي إن شاء الله، إنه هو الغفور الرّحيم، هذا قول ابن جريج. و الثاني: أنّ الاستثناء يعود إلى الأمن. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم. و الثاني: أنّ الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، فلا يدخلون إلّا بجوارهم. و الثالث: أنه يعود إلى دخول مصر، لأنه قال لهم هذا حين تلقّاهم قبل دخولهم، على ما سبق بيانه. و الرابع: أنّ «إن» بمعنى: «إذ»:
كقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «2» . قال ابن عباس: دخلوا مصر يومئذ و هم نيّف و سبعون بين ذكر و أنثى. و قال ابن مسعود: دخلوا و هم ثلاثة و تسعون، و خرجوا مع موسى و هم ستمائة ألف و سبعون ألفا «3» .
[سورة يوسف (12): الآيات 100 الى 101]
قوله تعالى: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ في «أبويه» قولان: قد تقدما في الآية التي قبلها. و العرش ها هنا: سرير المملكة، أجلس أبويه عليه وَ خَرُّوا لَهُ يعني: أبويه و إخوته. و في هاء «له» قولان:
(1) قال القرطبي رحمه اللّه 9/ 224: إنما قال: «إن شاء اللّه» تبركا و جزما «آمنين» من القحط أو من فرعون، و كانوا لا يدخلونها إلا بجوازه. و قال الإمام الطبري رحمه اللّه 7/ 302: و الصواب في ذلك عندنا ما قاله السدي، و هو أن يوسف قال ذلك لأبويه و من معهما من أولادهما و أهاليهم قبل دخولهم مصر حين تلقاهم لأن ذلك في ظاهر التنزيل كذلك، فلا دلالة تدل على صحة ما قاله ابن جريج، و لا وجه لتقديم شيء من كتاب اللّه عن موضعه أو تأخيره عن مكانه إلا بحجة واضحة.
(2) سورة النور: 33.
(3) هذه أرقام مصدرها كتب الأقدمين، لا حجة في شيء من ذلك.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 474
أحدهما: أنها ترجع إلى يوسف، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس: كان سجودهم كهيئة الرّكوع كما يفعل الأعاجم. و قال الحسن: أمرهم الله بالسجود لتأويل الرّؤيا. قال ابن الأنباري:
سجدوا له على جهة التّحيّة لا على معنى العبادة، و كان أهل ذلك الدّهر يحيّي بعضهم بعضا بالسجود و الانحناء، فحظّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فروى أنس بن مالك قال:
(822) «قال رجل: يا رسول اللّه! أحدنا يلقى صديقه، أ ينحني له؟ قال: لا».
و الثاني: أنها ترجع إلى اللّه، فالمعنى: و خرّوا للّه سجّدا، رواه عطاء، و الضّحّاك عن ابن عباس، فيكون المعنى: أنهم سجدوا شكرا للّه إذ جمع بينهم و بين يوسف.
قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ أي: تصديق ما رأيت، و كان قد رآهم في المنام يسجدون له، فأراه اللّه ذلك في اليقظة. و اختلفوا فيما بين رؤياه و تأويلها على سبعة أقوال: أحدها: أربعون سنة، قاله سلمان الفارسيّ و عبد الله بن شدّاد بن الهاد و مقاتل. و الثاني: اثنتان و عشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. و الثالث: ثمانون سنة، قاله الحسن و الفضيل بن عياض. و الرابع: ستّ و ثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير و عكرمة و السّدّيّ. و الخامس: خمس و ثلاثون سنة، قاله قتادة. و السادس: سبعون سنة، قاله عبد الله بن شوذب. و السابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى: وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي أي: إليّ. و البدو: البسط من الأرض. و قال ابن عباس: البدو:
البادية، و كانوا أهل عمود و ماشية.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي أي: أفسد بيننا. قال أبو عبيدة: يقال:
نزغ بينهم ينزغ، أي: أفسد و هيّج، و بعضهم يكسر زاي ينزغ. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي: عالم بدقائق الأمور. و قد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة (الأنعام) «1» .
فإن قيل: قد توالت على يوسف نعم جمّة، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن، و هلّا ذكر الجبّ، و هو أصعب؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه ترك ذكر الجبّ تكرّما، لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم، و قد قال (لا تثريب عليكم اليوم). و الثاني: أنه خرج من الجبّ إلى الرّقّ، و من السّجن إلى الملك، فكانت هذه النّعمة أوفى. و الثالث: أنّ طول لبثه في السّجن كان عقوبة له، بخلاف الجبّ، فشكر اللّه على عفوه.
(822) أخرجه الترمذي 2728، و ابن ماجة 3702، و أبو يعلى 4289، و الطحاوي في «المعاني» 1/ 281 و البيهقي في «السنن» 7/ 100 من طريق حنظلة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أ ينحني له؟ قال: لا، قال: أ فيلتزمه و يقبله؟ قال: لا، قال: أ فيأخذ بيده و يصافحه؟ قال: نعم». و إسناده ضعيف لضعف حنظلة، قال الذهبي في «الميزان» 1/ 621: قال يحيى القطان: تركته عمدا، كان قد اختلط، و ضعفه أحمد، و قال: منكر الحديث، يحدث بأعاجيب، و قال ابن معين: ليس بشيء. و ضعف هذا الحديث البيهقي عقب روايته، و كذا ضعفه أحمد كما في «تخريج الإحياء» 2/ 204. و هو ضعيف بهذا اللفظ، و بهذا الإسناد، فقد وردت أحاديث مرفوعة و موقوفة في جواز المعانقة و الالتزام. و أما سياق المصنف ابن الجوزي: فله طرق و شواهد تقويه.