کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 498
قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هو القتل، و الأسر، و السّقم، فهو لهم في الدنيا عذاب، و للمؤمنين كفّارة، وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أي: أشدّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي: مانع يقيهم عذابه.
[سورة الرعد (13): آية 35]
قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتها أنّ الأنهار تجري من تحتها، هذا قول الجمهور. و قال ثعلب: خبر المثل مضمر قبله، و المعنى: فيما نصف لكم مثل الجنّة، و فيما نقصّه عليكم خبر الجنّة أُكُلُها دائِمٌ قال الحسن: يريد أنّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا وَ ظِلُّها لأنه لا يزول و لا تنسخه الشّمس.
قوله تعالى: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: عاقبة أمرهم المصير إليها.
[سورة الرعد (13): آية 36]
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. و قال مقاتل: هم عبد الله بن سلام و أصحابه. و الثاني: أنهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، قاله قتادة. و الثالث: مؤمنو أهل الكتابين من اليهود و النّصارى، ذكره الماوردي. و الذي أنزل إليه: القرآن، فرح به المسلمون و صدّقوه، و فرح به مؤمنو أهل الكتاب، لأنه صدّق ما عندهم.
و قيل: إنّ عبد الله بن سلام و من آمن معه من أهل الكتاب، ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التّوراة، فلمّا نزل ذكره فرحوا، و كفر المشركون به، فنزلت هذه الآية.
فأمّا الأحزاب، فهم الكفّار الذين تحزّبوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالمعاداة، و فيهم أربعة أقوال «1» :
أحدها: أنهم اليهود و النّصارى، قاله قتادة. و الثاني: أنهم اليهود و النّصارى و المجوس، قاله ابن زيد.
و الثالث: بنو أميّة و بنو المغيرة و آل أبي طلحة بن عبد العزّى، قاله مقاتل. و الرابع: كفّار قريش، ذكره الماوردي. و في بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذكر الرّحمن و البعث و محمّد صلّى اللّه عليه و سلم، قاله مقاتل. و الثاني: أنهم عرفوا بعثة الرّسول في كتبهم و أنكروا نبوّته. و الثالث: أنهم عرفوا صدقه، و أنكروا تصديقه، ذكرهما الماوردي.
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه اللّه 2/ 639: و قوله وَ مِنَ الْأَحْزابِ أي: و من الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. و قال مجاهد: وَ مِنَ الْأَحْزابِ اليهود و النصارى من ينكر بعض ما جاءك من الحق. و كذا قال قتادة و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. و هذا كما قال تعالى: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ .
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 499
[سورة الرعد (13): آية 37]
قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: و كما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا قال ابن عباس: يريد ما فيه من الفرائض. و قال أبو عبيدة: دينا عربيّا.
قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيه قولان: أحدهما: في صلاتك إلى بيت المقدس بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أنّ قبلتك الكعبة، قاله ابن السّائب. و الثاني: في قبول ما دعوك إليه من ملّة آبائك، قاله مقاتل. قوله تعالى: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍ أي: ما لك من عذاب اللّه من قريب ينفعك وَ لا واقٍ يقيك.
[سورة الرعد (13): آية 38]
قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية.
(834) سبب نزولها أنّ اليهود عيّروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بكثرة التّزويج، و قالوا: لو كان نبيّا كما يزعم، شغلته النبوّة عن تزويج النّساء، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
و معنى الآية: أنّ الرّسل قبلك كانوا بشرا لهم أزواج، يعني النّساء، و ذريّة، يعني الأولاد. وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره، و هذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات.
قوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لكلّ أجل من آجال الخلق كتاب عند اللّه، قاله الحسن. و الثاني: أنه من المقدّم و المؤخّر، و المعنى: لكلّ كتاب ينزل من السماء أجل، قاله الضّحّاك و الفرّاء. و الثالث: لكلّ أجل قدّره اللّه عزّ و جلّ و لكلّ أمر قضاه كتاب أثبت فيه و لا تكون آية و لا غيرها إلّا بأجل قد قضاه اللّه في كتاب، هذا معنى قول ابن جرير.
[سورة الرعد (13): آية 39]
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و عاصم: «و يثبت» ساكنة الثاء خفيفة الباء. و قرأ ابن عامر: و حمزة، و الكسائيّ: «و يثبّت» مشددة الباء مفتوحة الثاء. قال أبو عليّ: المعنى: و يثبّته، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني.
و اختلف المفسّرون في المراد بالذي يمحو و يثبت على ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه عامّ، في (834) لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، و راوية أبي صالح هو الكلبي و تقدم مرارا، أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. و ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 551 عن الكلبي.
(1) قال الإمام الطبري رحمه اللّه 7/ 403: و أولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية و أشبهها بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن و مجاهد، و ذلك أن اللّه تعالى ذكره توعّد المشركين الذين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الآيات بالعقوبة، و تهددهم بها، و قال لهم: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ، يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مثبتا في كتاب، هم مؤخّرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل، ثم قال لهم:
فإذا جاء ذلك الأجل، يجيء اللّه بما شاء ممن قد دنا أجله و انقطع رزقه، أو حان هلاكه أو اتضاعه من رفعة أو هلاك مال، فيقضي ذلك في خلقه، فذلك محوه، و يثبت ما شاء ممن بقي أجله و رزقه و أكله فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 500
الرّزق، و الأجل، و السعادة. و الشّقاوة، و هذا مذهب عمر، و ابن مسعود، و أبي وائل، و الضّحّاك، و ابن جريج. و الثاني: أنه النّاسخ و المنسوخ، فيمحو المنسوخ، و يثبت النّاسخ، روى هذا المعنى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، و به قال سعيد بن جبير، و قتادة، و القرظيّ، و ابن زيد. و قال ابن قتيبة: «يمحو الله ما يشاء» أي: ينسخ من القرآن ما يشاء «و يثبت» أي: يدعه ثابتا لا ينسخه، و هو المحكم. و الثالث:
أنه يمحو ما يشاء، و يثبت، إلّا الشّقاوة و السّعادة، و الحياة و الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، و دليل هذا القول ما روى مسلم في (صحيحه) من حديث حذيفة بن أسيد قال:
(835) سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «إذا مضت على النّطفة خمس و أربعون ليلة، يقول الملك الموكّل: أذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه عزّ و جلّ، و يكتب الملك، فيقول: أ شقيّ، أم سعيد؟ فيقضي اللّه، و يكتب الملك، فيقول: عمله و أجله؟ فيقضي اللّه، و يكتب الملك، ثم تطوى الصّحيفة، فلا يزاد فيها و لا ينقص منها».
و الرابع: يمحو ما يشاء و يثبت، إلّا الشقاوة و السعادة لا يغيّران، قاله مجاهد. و الخامس: يمحو من جاء أجله، و يثبت من لم يجئ أجله، قاله الحسن. و السادس: يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها، و يثبت ما يشاء فلا يغفرها، روي عن سعيد بن جبير. و السابع: يمحو ما يشاء بالتّوبة، و يثبت مكانها حسنات، قاله عكرمة. و الثامن: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب و لا عقاب، و يثبت ما فيه ثواب و عقاب، قاله الضّحّاك، و أبو صالح. و قال ابن السّائب: القول كلّه يكتب، حتى إذا كان في يوم الخميس، طرح منه كلّ شيء ليس فيه ثواب و لا عقاب، مثل قولك: أكلت، شربت، دخلت، خرجت، و نحوه، و هو صادق، و يثبت ما فيه الثواب و العقاب.
قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال الزّجّاج: أصل الكتاب. قال المفسّرون: و هو اللوح (835) صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه 2645، و الآجري في «الشريعة» ص 183- 184، و اللالكائي في «أصول الاعتقاد» 1047 من طريقين عن ابن جريج عن أبي الزبير به. و أخرجه الحميدي 826، و أحمد 4/ 6- 7، و الآجري ص 182- 183، و اللالكائي 1045، 1046، و ابن أبي عاصم في «السنة» 177 و 179 و 180، و الطبراني 3036 و 3043 و 3045 من طرق عن عامر بن واثلة به. و اللفظ عند مسلم: عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقيّ من شقي في بطن أمه، و السعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: و كيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكا. فصوّرها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء. و يكتب الملك. ثم يقول: يا رب! أجله. فيقول ربك ما شاء و يكتب الملك. ثم يقول: يا رب! رزقه. فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده. فلا يزيد على ما أمر و لا ينقص».
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 501
المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون و يحدث. و روى أبو الدّرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال:
(836) «إنّ اللّه تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء و يثبت». و روى عكرمة عن ابن عباس قال: هما كتابان، كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو منه ما يشاء و يثبت، و عنده أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء.
[سورة الرعد (13): آية 40]
قوله تعالى: وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي: من العذاب و أنت حيّ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك ذلك، فليس عليك إلّا أن تبلّغ، وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ قال مقاتل: يعني الجزاء. و روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنّ قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ نسخ بآية السّيف و فرض الجهاد، و به قال قتادة.
[سورة الرعد (13): آية 41]
قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فيه خمسة أقوال «1» :
أحدها: أنه ما يفتح اللّه على نبيّه من الأرض، رواه العوفيّ عن ابن عباس، و به قال الحسن، و الضّحّاك. قال مقاتل: (أو لم يروا) يعني: كفّار مكّة (أنّا نأتي الأرض) يعني: أرض مكّة «ننقصها من أطرافها» يعني: ما حولها. و الثاني: أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، و به قال عكرمة. و الثالث: أنه نقص أهلها و بركتها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
و قال الشّعبيّ: نقص الأنفس و الثّمرات. و الرابع: أنه ذهاب فقهائها و خيار أهلها، رواه عطاء عن ابن عباس. و الخامس: أنه موت أهلها، قاله مجاهد، و عطاء، و قتادة.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قال ابن قتيبة: لا يتعقّبه أحد بتغيير و لا نقص. و قد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة) «2» .
(836) ضعيف جدا. أخرجه الطبري 20502 و 20503 و البزار 3516 «كشف»، و أبو نعيم في «صفة الجنة» 8، و ابن الجوزي في «العلل» 21 من حديث أبي الدرداء. و قال ابن الجوزي: هذا الحديث من عمل زيادة بن محمد، و لم يتابعه عليه أحد اه. و قال في «المجمع» 18719: زيادة بن محمد، ضعيف.
- قلت: الصواب أنه ضعيف جدا، قال الذهبي في «الميزان» 2/ 98: قال البخاري و النسائي: منكر الحديث.
ثم ذكر الذهبي هذا الحديث بأتم منه، و قال: فهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة.
و قاعدة البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه.
(1) قال الإمام الطبري رحمه اللّه 7/ 408: و أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم عليها و قهرهم أهلها، أ فلا يعتبرون بذلك فيخافون ظهورهم على أرضهم و قهرهم إياهم؟ و ذلك أن اللّه توعد الذين سألوا رسوله الآيات من مشركي قومه بقوله: وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ... ، ثم وبّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم بما يعاينون من فعل اللّه بضربائهم من الكفار، و هم مع ذلك يسألون الآيات، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بقهر أهلها و الغلبة عليها من أطرافها و جوانبها، و هم لا يعتبرون بما يرون من ذلك.
(2) سورة البقرة: 202.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 502
[سورة الرعد (13): آية 42]
قوله تعالى: وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفّار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم، كما مكرت قريش برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليقتلوه. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني: أنّ مكر الماكرين مخلوق له، و لا يضرّ إلّا بإرادته؛ و في هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و تسكين له. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير و شرّ، و لا يقع ضرر إلّا بإذنه. وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو: «و سيعلم الكافر». قال ابن عباس: يعني: أبا جهل. و قال الزّجّاج: الكافر ها هنا: اسم جنس. و قرأ عاصم، و ابن عامر، و حمزة، و الكسائيّ: «الكفّار» على الجمع.
قوله تعالى: لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي: لمن الجنّة آخر الأمر.
[سورة الرعد (13): آية 43]
قوله تعالى: وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود و النّصارى. و الثاني: كفّار قريش. قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: شاهدا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ بما أظهر من الآيات، و أبان من الدّلالات على نبوّتي. قوله تعالى: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فيه سبعة أقوال «1» : أحدها: أنهم علماء اليهود و النّصارى، رواه العوفيّ عن ابن عباس. و الثاني: أنه عبد الله بن سلام، قاله الحسن، و مجاهد، و عكرمة، و ابن زيد، و ابن السّائب، و مقاتل. و الثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ، منهم عبد الله بن سلام، و سلمان الفارسيّ، و تميم الدّاريّ، قاله قتادة. و الرابع: أنه جبريل عليه السّلام، قاله سعيد بن جبير. و الخامس: أنه عليّ بن أبي طالب، قاله ابن الحنفيّة. و السادس: أنه ابن يامين، قاله شمر. و السابع: أنه اللّه عزّ و جلّ، روي عن الحسن، و مجاهد، و اختاره الزّجّاج و احتجّ له بقراءة من قرأ: «و من عنده علم الكتاب» و هي قراءة ابن السّميفع، و ابن أبي عبلة، و مجاهد، و أبي حياة. و رواية ابن أبي سريج عن الكسائيّ: «و من» بكسر الميم «عنده» بكسر الدّال «علم» بضمّ العين و كسر اللام و فتح الميم «الكتاب» بالرّفع. و قرأ الحسن «و من» بكسر الميم «عنده» بكسر الدّال «علم» بكسر العين و ضمّ الميم «الكتاب» مضاف، كأنه قال: أنزل من علم اللّه عزّ و جلّ.
(1) قال ابن كثير رحمه اللّه 2/ 643: و الصحيح في هذا: أن وَ مَنْ عِنْدَهُ اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى اللّه عليه و سلم و نعته في كتبهم المتقدمة، من بشارات الأنبياء، كما قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ، و أمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل:
أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزّلة.
و قال في أنها نزلت في عبد الله بن سلام: و هذا القول غريب، لأن هذه الآية مكية، و عبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المدينة، و الأظهر في هذا ما قاله العوفي.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 503
سورة ابراهيم
و هي مكيّة من غير خلاف علمناه بينهم، إلّا ما روي عن ابن عباس، و قتادة أنهما قالا: سوى آيتين منها، و هما قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً و التي بعدها «1» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الر قد سبق بيانه. و قوله: كِتابٌ قال الزّجّاج: المعنى: هذا كتاب، و الكتاب: القرآن. و في المراد بالظّلمات و النّور ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الظّلمات: الكفر. و النّور:
الإيمان، رواه العوفيّ عن ابن عباس. و الثاني: أنّ الظّلمات: الضّلالة. و النّور: الهدى، قاله مجاهد، و قتادة. و الثالث: أنّ الظّلمات: الشّكّ. و النّور: اليقين، ذكره الماوردي. و في قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: بأمر ربّهم، قاله مقاتل. و الثاني: بتوفيق ربّهم، قاله أبو سليمان. و الثالث: أنه الإذن نفسه، فالمعنى: بما أذن لك من تعليمهم، قاله الزّجّاج، قال: ثم بيّن ما النّور، فقال: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ قال ابن الأنباري: و هذا مثل قول العرب: جلست إلى زيد، إلى العاقل الفاضل، و إنما تعاد «إلى» بمعنى التّعظيم للأمر، قال الشاعر «2» :
إذا خدرت رجلي تذكّرت من لها
فناديت لبنى باسمها و دعوت
دعوت الّتي لو أنّ نفسي تطيعني
لألقيتها من حبّها و قضيت
فأعاد «دعوت» لتفخيم الأمر.
قوله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و عاصم، و حمزة، و الكسائيّ: «الحميد اللّه» على البدل. و قرأ نافع، و ابن عامر، و أبان، و المفضّل: «الحميد. اللّه» رفعا على الاستئناف، و قد سبق بيان ألفاظ الآية.
(1) سورة إبراهيم: 28- 29.
(2) البيتان لقيس لبنى كما في ديوانه: 69.
زاد المسير فى علم التفسير، ج2، ص: 504
[سورة إبراهيم (14): الآيات 3 الى 6]
قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: يؤثرونها عَلَى الْآخِرَةِ قال ابن عباس:
يأخذون ما تعجّل لهم منها تهاونا بأمر الآخرة. قوله تعالى: وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يمنعون الناس من الدّخول في دينه، وَ يَبْغُونَها عِوَجاً قد شرحناه في (آل عمران) «1» . قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ أي: في ذهاب عن الحقّ بَعِيدٍ من الصّواب.
قوله تعالى: إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي: بلغتهم. قال ابن الأنباري: و معنى اللغة عند العرب:
الكلام المنطوق به، و هو مأخوذ من قولهم: لغا الطائر يلغو: إذا صوّت في الغلس. و قرأ أبو رجاء، و أبو المتوكّل، و الجحدريّ: «إلّا بلسن قومه» برفع اللام و السين من غير ألف. و قرأ أبو الجوزاء، و أبو عمران: «بلسن قومه» بكسر اللام و سكون السين من غير ألف.
قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي: الذي أرسل به فيفهمونه عنه. و هذا نزل، لأنّ قريشا قالوا: ما بال الكتاب كلّها أعجميّة، و هذا عربيّ! قوله تعالى: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ قال الزّجّاج: «أن» مفسّر، و المعنى: قلنا له: أخرج قومك، و قد سبق بيان الظّلمات و النّور. و في قوله: وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ثلاثة أقوال «2» :
(837) أحدها: أنّها نعم اللّه، رواه أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و به قال مجاهد و قتادة و ابن قتيبة.
(837) أخرجه أحمد 5/ 122 من طريق محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب مرفوعا، و كرره عبد الله بن أحمد من طريق الطيالسي عن الجعفي به موقوفا. و أخرجه مسلم 2380 ح 71 من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا في أثناء خبر مطول، و فيه «و أيام اللّه نعماؤه و بلاؤه».
و أخرجه النسائي في «التفسير» 280 من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا، و ليس فيه لفظ «بلاؤه».
الخلاصة هذه الروايات تتأيد بمجموعها، و قد ورد موقوفا عن جماعة من التابعين، فهو صحيح إن شاء اللّه تعالى، و اللّه أعلم.
(1) سورة آل عمران: 99.