کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 7
الجزء الثالث
سورة الإسراء
فصل في نزولها:
هي مكيّة في قول الجماعة، إلّا أنّ بعضهم يقول: فيها مدنيّ، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي مكيّة إلّا ثمان آيات: من قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله تعالى:
نَصِيراً «1» ، و هذا قول قتادة. و قال مقاتل: فيها من المدنيّ: وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «2» و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ «3» و قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «4» و قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ «5» و قوله تعالى: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «6» و قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ و التي تليها «7» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإسراء (17): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: سُبْحانَ .
(889) روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم أنه سئل عن تفسير «سبحان اللّه»، فقال: «تنزيه اللّه عن كلّ سوء»، و قد ذكرنا هذا المعنى في سورة البقرة «8» .
قال الزّجّاج: و «أسرى»: بمعنى: «سيّر عبده»، يقال: أسريت و سريت: إذا سرت ليلا. و قد جاءت اللغتان في القرآن، قال اللّه تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) «9» .
و في معنى التّسبيح ها هنا قولان: أحدهما: أنّ العرب تسبّح عند الأمر المعجب، فكأنّ الله تعالى عجّب العباد ممّا أسدى إلى رسوله من النّعمة. و الثاني: أن يكون خرّج الرّدّ عليهم، لأنه لمّا حدّثهم (889) ضعيف جدا. أخرجه البزار 3082 و الحاكم 1/ 502 من طريق عبد الرحمن بن حماد عن حفص بن سليمان عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم عن تفسير ...
الحديث. صححه الحاكم، و تعقبه الذهبي بقوله: بل لم يصح، فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، و حفص واه و عبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر الحديث. قلت: فهو إسناد ضعيف جدا، مسلسل بالضعفاء.
(1) سورة الإسراء: 73، 75.
(2) سورة الإسراء: 80.
(3) سورة الإسراء: 17.
(4) سورة الإسراء: 60.
(5) سورة الإسراء: 73.
(6) سورة الإسراء: 76.
(7) سورة الإسراء: 74 و 75.
(8) سورة البقرة: 32.
(9) سورة الفجر: 4.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 8
بالاسراء، كذّبوه، فيكون المعنى: تنزّه اللّه أن يتّخذ رسولا كذّابا. و لا خلاف أنّ المراد بعبده هاهنا:
محمّد صلى اللّه عليه و سلّم. و في قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قولان: أحدهما: أنه أسري به من نفس المسجد، قاله الحسن، و قتادة. و يسنده حديث مالك بن صعصعة، و هو في (الصحيحين):
(890) «بينما أنا في الحطيم» و ربما قال بعض الرّواة: في «الحجر» «1» .
و الثاني: أنه أسري به من بيت أمّ هانئ «2» ، و هو قول أكثر المفسّرين «3» ، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام: الحرم. و الحرم كلّه مسجد، ذكره القاضي أبو يعلى و غيره.
فأمّا الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فهو بيت المقدس، و قيل له: الأقصى، لبعد المسافة بين المسجدين.
و معنى بارَكْنا حَوْلَهُ : أنّ اللّه أجرى حوله الأنهار، و أنبت الثّمار. و قيل: لأنه مقرّ الأنبياء، و مهبط الملائكة. و اختلف العلماء، هل دخل بيت المقدس، أم لا؟
(891) فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس، و صلّى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء.
و قال حذيفة بن اليمان: لم يدخل بيت المقدس و لم يصلّ فيه، و لا نزل عن البراق حتى عرج به «4» . فإن (890) صحيح. أخرجه البخاري 3207 و 3393 و 3430 و 3887، و ابن حبان 48، و البيهقي في «الدلائل» 2/ 387 من طرق عن أنس عن مالك بن صعصعة.
(891) صحيح. أخرجه مسلم 172 و النسائي في «الكبرى» 11284، و ابن مندة في «الإيمان» 740 من طريق حجين بن المثنى به. و أخرجه أبو عوانة 1/ 131، و ابن مندة 740 من طريق أحمد بن خالد الوهبي به و أربعتهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به، من حديث أبي هريرة؛ قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «لقد رأيتني في الحجر. و قريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال: فرفعه اللّه لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. و قد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. و إذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي. و إذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم. فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه. فالتفت إليه فبدأني بالسلام». و اللفظ لمسلم.
(1) هو عند مسلم 172 من حديث أبي هريرة، و انظر الآتي.
(2) ورد من وجوه متعددة بأسانيد بعضها ضعيف، و بعضها حسن، انظر «الدر المنثور». و انظر التعليق الآتي.
(3) قال الحافظ في «الفتح» 7/ 204: هو شك من قتادة كما بينه أحمد، عن عفان عن همام و لفظه «بينا أنا نائم في الحطيم، و ربما قال قتادة: في الحجر» و المراد بالحطيم هنا الحجر، و أبعد من قال: المراد به ما بين الركن و المقام، أو بين زمزم و الحجر، و هو و إن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا، لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع فيها ذلك، و معلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها. و جاء في رواية: «بينا أنا عند البيت» و هو أعم، و في رواية أخرى: «فرج سقف بيتي و أنا بمكة» و في رواية غيرها أنه أسري به من شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته- و أضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه- فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكأن به مضطجعا و به أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد، فأركبه البراق. و قد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، و هو يؤيد هذا الجمع.
(4) أخرجه الطبري 22030 عن حذيفة به، و إسناده حسن لأجل عاصم بن بهدلة، فإنه صدوق يخطئ، و باقي الإسناد على شرطهما. و مع ذلك المتن غريب، و الصحيح خلاف ما ذهب إليه حذيفة. و جاء في «الفتح» 1/ 465:
فائدة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد. و ذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة و ركعتين بالعشي.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 9
قيل: ما معنى قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى و أنتم تقولون: صعد إلى السماء؟ فالجواب: أنّ الإسراء كان إلى هنالك، و المعراج كان من هنالك. و قيل: إنّ الحكمة في ذكر ذلك، أنه لو أخبر بصعوده إلى السماء في بدء الحديث، لاشتدّ إنكارهم، فلمّا أخبر ببيت المقدس، و بان لهم صدقه فيما أخبرهم به من العلامات الصّادقة، أخبر بمعراجه.
قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني: ما رأى تلك الليلة من العجائب التي أخبر بها الناس. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمقالة قريش، الْبَصِيرُ بها. و قد ذكرنا في كتابنا المسمّى ب «الحدائق» أحاديث المعراج، و كرهنا الإطالة ها هنا.
[سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]
قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لمّا ذكر في الآية الأولى إكرام محمّد صلى اللّه عليه و سلّم، ذكر في هذه كرامة موسى. و الْكِتابَ : التّوراة. وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي: دللناهم به على الهدى. أَلَّا تَتَّخِذُوا قرأ أبو عمرو: «يتخذوا» بالياء، و المعنى: هديناهم لئلّا يتّخذوا، و قرأ الباقون بالتاء، قال أبو عليّ: و هو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة، مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ . قوله تعالى: وَكِيلًا قال مجاهد: شريكا. و قال الزّجاج: ربّا. قال ابن الأنباري: و إنما قيل للرّبّ: وكيل، لكفايته و قيامه بشأن عباده، من أجل أنّ الوكيل عند الناس قد علم أنه يقوم بشئون أصحابه، و تفقّد أمورهم، فكان الرّبّ وكيلا من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكّل و انحطاط أمر الوكيل.
قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا قال مجاهد: هو نداء: يا ذرّيّة من حملنا. قال ابن الأنباري:
من قرأ: «ألّا تتخذوا» بالتاء، فإنه يقول: بعد الذّريّة مضمر حذف اعتمادا على دلالة ما سبق، تلخيصه:
يا ذريّة من حملنا مع نوح لا تتّخذوا وكيلا، و يجوز أن يستغنى عن الإضمار بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً لأنه بمعنى: اشكروني كشكره. و من قرأ: «ألّا يتّخذوا» بالياء، جعل النداء متصلا بالخطاب، و «الذّريّة» تنتصب بالنداء، و يجوز نصبها بالاتّخاذ على أنها مفعول ثان، تلخيص الكلام: ألّا يتخذوا ذريّة من حملنا مع نوح وكيلا. قال قتادة: الناس كلّهم ذريّة من أنجى اللّه في تلك السفينة. قال العلماء: و وجه الإنعام على الخلق بهذا القول، أنهم كانوا في صلب من نجا. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال سلمان الفارسي: كان إذا أكل قال: «الحمد لله» و إذا شرب قال: «الحمد لله». و قال غيره: كان إذا لبس ثوبا قال: «الحمد لله» فسمّاه اللّه «عبدا شكورا».
[سورة الإسراء (17): الآيات 4 الى 6]
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 10
قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فيه قولان «1» : أحدهما: أخبرناهم، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. و الثاني: قضينا عليهم، رواه العوفيّ عن ابن عباس. و به قال قتادة، فعلى الأوّل: تكون إِلى على أصلها، و يكون الكتاب: التّوراة، و على الثاني: تكون إِلى بمعنى «على»، و يكون «الكتاب»: الذّكر الأوّل.
قوله تعالى: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ يعني: أرض مصر مَرَّتَيْنِ بالمعاصي و مخالفة التّوراة. و في من قتلوه من الأنبياء في الفساد الأوّل قولان: أحدهما: زكريّا، قاله السّديّ عن أشياخه. و الثاني:
شعيا، قاله ابن إسحاق. فأمّا المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني: فهو يحيى بن زكريّا. قال مقاتل:
كان بين الفسادين مائتا سنة و عشر سنين. فأمّا السّبب في قتلهم زكريّا، فأنهم اتّهموه بمريم، و قالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها و بقي من ردائه هدب، فجاءهم الشّيطان فدلّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار و هو فيها. و أما السبب في قتلهم «شعيا»، فهو أنه قام فيهم برسالة من اللّه ينهاهم عن المعاصي. و قيل: هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، و أنّ زكريّا مات حتف أنفه. فأمّا السبب في قتلهم يحيى بن زكريّا، ففيه قولان: أحدهما: أنّ ملكهم أراد نكاح امرأة لا تحلّ له، فنهاه عنها يحيى. ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس.
و الثاني: ابنته، قاله عبد اللّه بن الزّبير. و الثالث: أنها امرأة أخيه، و كان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن عليّ عليهما السلام. و الرابع: ابنة امرأته، قاله السّديّ عن أشياخه، و ذكر أنّ السبب في ذلك: أنّ ملك بني إسرائيل هوي بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمّها على يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها، و عمدت إلى ابنتها فزيّنتها و أرسلتها إلى الملك حين جلس على شرابه، و أمرتها أن تسقيه، و أن تعرض له، فإن أرادها على نفسها، أبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريّا في طست، ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إلّا هذا، فأمر، فأتي برأسه و الرأس يتكلّم و يقول: لا تحلّ لك، لا تحلّ لك. و القول الثاني: أنّ امرأة الملك رأت يحيى عليه السّلام و كان قد أعطي حسنا و جمالا، فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الرّبيع بن أنس. قال العلماء بالسّير: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا، فسكن، و قيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقتل، فسكن.
قوله تعالى: وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي: لتعظمنّ عن الطّاعة و لتبغنّ.
قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي: عقوبة أولى المرّتين بَعَثْنا أي: أرسلنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا و فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم جالوت و جنوده، قاله ابن عباس، و قتادة. و الثاني: «بختنصّر»، قاله سعيد بن المسيّب، و اختاره الفرّاء، و الزّجّاج. و الثالث: العمالقة، و كانوا كفّارا، قاله الحسن.
و الرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير. و الخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد. و قال ابن زيد:
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه اللّه في «تفسيره» 3/ 34: يقول اللّه تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي تقدّم إليهم و أخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم: أنهم سيفسدون في الأرض مرتين و يعلون علوا كبيرا، أي يتجبرون و يطغون على الناس. كما قال تعالى: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ، أي تقدمنا إليه و أخبرناه بذلك و أعلمناه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 11
سلّط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: ذوي عدد و قوة في القتال.
و في قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ثلاثة أقوال: أحدها: مشوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. و قال مجاهد: يتجسسون أخبارهم و لم يكن قتال. و قال الزّجّاج: طافوا خلال الدّيار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس»: طلب الشيء باستقصاء. و الثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفرّاء، و أبو عبيدة. و الثالث: عاثوا و أفسدوا، يقال: جاسوا و حاسوا، فهم يجوسون و يحوسون إذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة. فأمّا الخلال: فهي جمع خلل، و هو الانفراج بين الشيئين. و قرأ أبو رزين، و الحسن، و ابن جبير، و أبو المتوكّل: «خلل الديار» بفتح الخاء و اللام من غير ألف. وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: لا بدّ من كونه.
قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: أظفرناكم بهم. و الكرّة، معناها: الرّجعة و الدّولة، و ذلك حين قتل داود جالوت و عاد ملكهم إليهم. و حكى الفرّاء أنّ رجلا دعا على «بختنصّر»؛ فقتله اللّه، و عاد ملكهم إليهم. و قيل: غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال و الأسرى. قوله تعالى: وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: أكثر عددا و أنصارا منهم. قال ابن قتيبة: النّفير و النّافر واحد، كما يقال: قدير و قادر، و أصله: من ينفر مع الرجل من عشيرته و أهل بيته.
[سورة الإسراء (17): الآيات 7 الى 8]
قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أي: و قلنا لكم إن أحسنتم فأطعتم اللّه أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي:
عاقبة الطاعة لكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد و المعاصي فَلَها و فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: فإليها.
و الثاني: فعليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جواب «فإذا» محذوف، تقديره: فإذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، و هذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريّا، و قصدهم قتل «عيسى» فرفع، و سلّط اللّه عليهم ملوك فارس و الرّوم فقتلوهم و سبوهم، فذلك قوله تعالى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ . قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و حفص عن عاصم: «ليسوؤوا» بالياء على الجميع و الهمز بين الواوين، و الإشارة إلى المبعوثين. و قرأ ابن عامر، و حمزة، و أبو بكر عن عاصم: «ليسوء وجوهكم» على التّوحيد؛ قال أبو عليّ: فيه و جهان. أحدهما: ليسوء اللّه عزّ و جلّ.
و الثاني: ليسوء البعث. و قرأ الكسائيّ: «لنسوء» بالنون، و ذلك راجع إلى اللّه تعالى. و فيمن بعث عليهم في المرّة الثانية قولان: أحدهما: بختنصّر، قاله مجاهد، و قتادة. و كثير من الرّواة يأبى هذا القول، و يقولون: كان بين تخريب «بختنصّر» بيت المقدس، و بين مولد يحيى بن زكريّا زمان طويل. و الثاني:
أنطياخوس الرّوميّ، قاله مقاتل. و معنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم و سبيكم، و خصّت المساءة بالوجوه، و المراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن و الكآبة.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 12
قوله تعالى: وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعنى: بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ في المرّة الأولى وَ لِيُتَبِّرُوا أي: ليدمروا و يخربوا. قال الزّجاج: يقال لكلّ شيء ينكسر من الزّجاج و الحديد و الذّهب:
تبر. و معنى ما عَلَوْا أي: ليدمروا في حال علوّهم عليكم.
قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ هذا ممّا وعدوا به في التّوراة، و «عسى» من اللّه واجبة، فرحمهم اللّه بعد انتقامه منهم، و عمر بلادهم، و أعاد نعمهم بعد سبعين سنة. وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى معصيتنا عُدْنا إلى عقوبتكم. قال المفسّرون: ثم إنهم عادوا إلى المعصية، فبعث اللّه عليهم ملوكا من ملوك فارس و الرّوم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث اللّه عليهم محمّدا صلى اللّه عليه و سلّم، فهم في عذاب إلى يوم القيامة، فيعطون الجزية عن يد و هم صاغرون.
قوله تعالى: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً فيه قولان: أحدهما: سجنا، قاله ابن عباس، و الضّحّاك، و قتادة. و قال مجاهد: يحصرون فيها. و قال أبو عبيدة، و ابن قتيبة: محبسا، و قال الزّجّاج:
«حصيرا»: حبسا، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إذا حبسته، فهو محصور، و هذا حصيره، أي:
محبسه، و الحصير: المنسوج. سمّي حصيرا، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، و يقال للجنب:
حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. و قال ابن الأنباري: حصيرا: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إلى حصير، كما صرف «مؤلم» إلى أليم. و الثاني: فراشا و مهادا، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: و يجوز أن تكون جهنّم لهم مهادا بمنزلة الحصير، و الحصير: البساط الصغير.
[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 10]
قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال ابن الأنباري: «التي» وصف للجمع، و المعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسّرون: و هي توحيد اللّه و الإيمان به و برسله و العمل بطاعته، وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أي: بأنّ لهم أَجْراً و هو الجنّة، وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: و يبشّرهم بالعذاب، لأعدائهم، و ذلك أنّ المؤمنين كانوا في أذى من المشركين، فعجّل اللّه لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
[سورة الإسراء (17): آية 11]
وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
قوله تعالى: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ و ذلك أنّ الإنسان يدعو في حال الضّجر و الغضب على نفسه و أهله بما لا يحبّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعجّل بالدّعاء بالشرّ عند الغضب و الضّجر عجلته بالدّعاء بالخير.
و في المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزّجّاج و غيره. و الثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري. و الثالث: أنه النّضر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» ، قاله مقاتل. و قال سلمان الفارسي: أول ما خلق