کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 11
سلّط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: ذوي عدد و قوة في القتال.
و في قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ثلاثة أقوال: أحدها: مشوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. و قال مجاهد: يتجسسون أخبارهم و لم يكن قتال. و قال الزّجّاج: طافوا خلال الدّيار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس»: طلب الشيء باستقصاء. و الثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفرّاء، و أبو عبيدة. و الثالث: عاثوا و أفسدوا، يقال: جاسوا و حاسوا، فهم يجوسون و يحوسون إذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة. فأمّا الخلال: فهي جمع خلل، و هو الانفراج بين الشيئين. و قرأ أبو رزين، و الحسن، و ابن جبير، و أبو المتوكّل: «خلل الديار» بفتح الخاء و اللام من غير ألف. وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: لا بدّ من كونه.
قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: أظفرناكم بهم. و الكرّة، معناها: الرّجعة و الدّولة، و ذلك حين قتل داود جالوت و عاد ملكهم إليهم. و حكى الفرّاء أنّ رجلا دعا على «بختنصّر»؛ فقتله اللّه، و عاد ملكهم إليهم. و قيل: غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال و الأسرى. قوله تعالى: وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: أكثر عددا و أنصارا منهم. قال ابن قتيبة: النّفير و النّافر واحد، كما يقال: قدير و قادر، و أصله: من ينفر مع الرجل من عشيرته و أهل بيته.
[سورة الإسراء (17): الآيات 7 الى 8]
قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أي: و قلنا لكم إن أحسنتم فأطعتم اللّه أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي:
عاقبة الطاعة لكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد و المعاصي فَلَها و فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: فإليها.
و الثاني: فعليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جواب «فإذا» محذوف، تقديره: فإذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، و هذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريّا، و قصدهم قتل «عيسى» فرفع، و سلّط اللّه عليهم ملوك فارس و الرّوم فقتلوهم و سبوهم، فذلك قوله تعالى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ . قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و حفص عن عاصم: «ليسوؤوا» بالياء على الجميع و الهمز بين الواوين، و الإشارة إلى المبعوثين. و قرأ ابن عامر، و حمزة، و أبو بكر عن عاصم: «ليسوء وجوهكم» على التّوحيد؛ قال أبو عليّ: فيه و جهان. أحدهما: ليسوء اللّه عزّ و جلّ.
و الثاني: ليسوء البعث. و قرأ الكسائيّ: «لنسوء» بالنون، و ذلك راجع إلى اللّه تعالى. و فيمن بعث عليهم في المرّة الثانية قولان: أحدهما: بختنصّر، قاله مجاهد، و قتادة. و كثير من الرّواة يأبى هذا القول، و يقولون: كان بين تخريب «بختنصّر» بيت المقدس، و بين مولد يحيى بن زكريّا زمان طويل. و الثاني:
أنطياخوس الرّوميّ، قاله مقاتل. و معنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم و سبيكم، و خصّت المساءة بالوجوه، و المراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن و الكآبة.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 12
قوله تعالى: وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعنى: بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ في المرّة الأولى وَ لِيُتَبِّرُوا أي: ليدمروا و يخربوا. قال الزّجاج: يقال لكلّ شيء ينكسر من الزّجاج و الحديد و الذّهب:
تبر. و معنى ما عَلَوْا أي: ليدمروا في حال علوّهم عليكم.
قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ هذا ممّا وعدوا به في التّوراة، و «عسى» من اللّه واجبة، فرحمهم اللّه بعد انتقامه منهم، و عمر بلادهم، و أعاد نعمهم بعد سبعين سنة. وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى معصيتنا عُدْنا إلى عقوبتكم. قال المفسّرون: ثم إنهم عادوا إلى المعصية، فبعث اللّه عليهم ملوكا من ملوك فارس و الرّوم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث اللّه عليهم محمّدا صلى اللّه عليه و سلّم، فهم في عذاب إلى يوم القيامة، فيعطون الجزية عن يد و هم صاغرون.
قوله تعالى: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً فيه قولان: أحدهما: سجنا، قاله ابن عباس، و الضّحّاك، و قتادة. و قال مجاهد: يحصرون فيها. و قال أبو عبيدة، و ابن قتيبة: محبسا، و قال الزّجّاج:
«حصيرا»: حبسا، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إذا حبسته، فهو محصور، و هذا حصيره، أي:
محبسه، و الحصير: المنسوج. سمّي حصيرا، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، و يقال للجنب:
حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. و قال ابن الأنباري: حصيرا: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إلى حصير، كما صرف «مؤلم» إلى أليم. و الثاني: فراشا و مهادا، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: و يجوز أن تكون جهنّم لهم مهادا بمنزلة الحصير، و الحصير: البساط الصغير.
[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 10]
قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال ابن الأنباري: «التي» وصف للجمع، و المعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسّرون: و هي توحيد اللّه و الإيمان به و برسله و العمل بطاعته، وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أي: بأنّ لهم أَجْراً و هو الجنّة، وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: و يبشّرهم بالعذاب، لأعدائهم، و ذلك أنّ المؤمنين كانوا في أذى من المشركين، فعجّل اللّه لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
[سورة الإسراء (17): آية 11]
وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
قوله تعالى: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ و ذلك أنّ الإنسان يدعو في حال الضّجر و الغضب على نفسه و أهله بما لا يحبّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعجّل بالدّعاء بالشرّ عند الغضب و الضّجر عجلته بالدّعاء بالخير.
و في المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزّجّاج و غيره. و الثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري. و الثالث: أنه النّضر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» ، قاله مقاتل. و قال سلمان الفارسي: أول ما خلق
(1) سورة الأنفال: 32.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 13
اللّه من آدم رأسه، فجعل ينظر إلى جسده كيف يخلق، قال: فبقيت رجلاه، فقال: يا ربّ عجل، فذلك قوله: وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» .
[سورة الإسراء (17): آية 12]
قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ أي: علامتين يدلّان على قدرة خالقهما. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فيه قولان: أحدهما: أنّ آية الليل: القمر، و محوها: ما في بعض القمر من الاسوداد. و إلى هذا المعنى ذهب عليّ رضي اللّه عنه، و ابن عباس في آخرين. و الثاني: آية الليل محيت بالظّلمة التي جعلت ملازمة للّيل؛ فنسب المحو إلى الظّلمة إذ كانت تمحو الأنوار و تبطلها، ذكره ابن الأنباري. و يروى أنّ الشمس و القمر كانا في النّور و الضّوء سواء، فأرسل اللّه جبريل فأمرّ جناحه على وجه القمر و طمس عنه الضّوء.
قوله تعالى: وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ يعني: الشمس مُبْصِرَةً فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منيرة، قاله قتادة. قال ابن الأنباري: و إنما صلح وصف الآية بالإبصار على جهة المجاز، كما يقال: لعب الدّهر ببني فلان. و الثاني: أنّ معنى مُبْصِرَةً : مبصرا بها، قاله ابن قتيبة.
و الثالث: أنّ معنى مُبْصِرَةً مبصّرة، فجرى «مفعل»، مجرى «مفعّل»، و المعنى: أنها تبصّر الناس، أي: تريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري. و معاني الأقوال تتقارب.
قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: لتبصروا كيف تتصرّفون في أعمالكم و تطلبون رزقكم بالنهار وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ بمحو آية الليل، و لو لا ذلك، لم يعرف الليل من النّهار، و لم يتبيّن العدد. وَ كُلَّ شَيْءٍ أي: ما يحتاج إليه، فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّنّاه تبيينا لا يلتبس معه بغيره.
[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 14]
قوله تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ و قرأ ابن أبي عبلة «و كلّ» برفع و قرأ ابن مسعود، و أبيّ، و الحسن «ألزمناه طيره» بياء ساكنة من غير ألف. و في الطّائر أربعة أقوال: أحدها: شقاوته و سعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: ما من مولود يولد إلّا و في عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ، أو سعيد.
و الثاني: عمله، قاله الفرّاء، و عن الحسن كالقولين. و الثالث: أنه ما يصيبه، قاله خصيف. و قال أبو عبيدة: حظّه. قال ابن قتيبة: و المعنى فيما أرى- و اللّه أعلم-: أنّ لكلّ امرئ حظّا من الخير و الشرّ قد قضاه اللّه عليه، فهو لازم عنقه، و العرب تقول لكلّ ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه، و هذا لك عليّ و في عنقي حتى أخرج منه، و إنما قيل للحظّ من الخير و الشرّ: «طائر»، لقول العرب: جرى له الطّائر بكذا من الخير، و جرى له الطّائر بكذا من الشرّ، على طريق الفأل و الطّيرة، فخاطبهم اللّه بما يستعملون،
(1) منكر. أخرجه الطبري 22116 عن سلمان الفارسي موقوفا، و إسناده ضعيف، إبراهيم النخعي عن سلمان منقطع، و المتن منكر، و الأشبه أنه متلقى عن كتب الأقدمين.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 14
و أعلمهم أنّ ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر، هو الذي يلزمه أعناقهم. و قال الأزهريّ: الأصل في هذا أنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم، علم المطيع من ذريّته، و العاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، و قضى سعادة من علمه مطيعا، و شقاوة من علمه عاصيا، فصار لكلّ منهم ما هو صائر إليه عند خلقه و إنشائه، فذلك قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ . و الرابع: أنه ما يتطيّر من مثله من شيء عمله، و ذكر العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزّجّاج. و قال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائرا، أنهم كانوا يتطيّرون من بعض الأعمال.
قوله تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ قرأ أبو جعفر: «و يخرج» بياء مضمومة و فتح الراء. و قرأ يعقوب.
و عبد الوارث: بالياء مفتوحة و ضمّ الراء. و قرأ قتادة، و أبو المتوكل: «و يخرج» بياء مرفوعة و كسر الراء.
و قرأ أبو الجوزاء، و الأعرج: «و تخرج» بتاء مفتوحة و رفع الراء، يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً و قرأ ابن عباس، و عكرمة، و الضّحّاك: «كتاب» بالرفع، يلقاه و قرأ ابن عامر، و أبو جعفر «يلقّاه» بضمّ الياء و تشديد القاف. و أمال حمزة، و الكسائيّ القاف. قال المفسّرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل. و كان أبو السّوّار العدوي إذا قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطيّة، أمّا ما حييت يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها شئت، فإذا متّ، طويت، ثم إذا بعثت، نشرت.
قوله تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ ، و قرأ أبو جعفر: «اقرأ» بتخفيف الهمزة و فيه إضمار تقديره، فيقال له اقرأ كتابك. قال الحسن: يقرؤه أميّا كان أو غير أمّيّ، و لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. و في معنى حَسِيباً ثلاثة أقوال: أحدها: محاسبا. و الثاني: شاهدا. و الثالث: كافيا، و المعنى: أنّ الإنسان يفوّض إليه حسابه، ليعلم عدل اللّه بين العباد، و يرى وجوب حجّة اللّه عليه، و استحقاقه العقوبة، و يعلم أنه إن دخل الجنّة، فبفضل اللّه، لا بعمله، و إن دخل النار، فبذنبه. قال ابن الأنباري: و إنّما قال:
حَسِيباً و النّفس مؤنّثة، لأنه يعني بالنّفس: الشّخص، أو لأنه لا علامة للتّأنيث في لفظ النّفس، فشبّهت بالسماء و الأرض، قال اللّه تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» ، قال الشاعر:
و لا أرض أبقل إبقالها
«2»
[سورة الإسراء (17): آية 15]
قوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: له ثواب اهتدائه، و عليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ أي: نفس وازرة وِزْرَ أُخْرى قال ابن عباس: إنّ الوليد بن المغيرة قال: اتّبعوني و أنا أحمل أوزاركم، فقال اللّه تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، قال أبو عبيدة:
و المعنى: و لا تأثم آثمة إثم أخرى. قال الزّجاج: يقال: وزر، يزر، فهو وازر، وزرا، و وزرا، و وزرة، و معناه: أثم إثما. و في تأويل هذه الآية و جهان: أحدهما: أنّ الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. و الثاني: أنه
(1) سورة المزمل: 18.
(2) هو عجز بيت لعامر بن جوين و صدره: «فلا مزنة ودقت ودقها». كما في «الكتاب» 1/ 205. و في «اللسان» المزنة: السحابة، و الودق: المطر.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 15
لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأنّ غيره عمله، كما قال الكفّار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ* «1» و معنى حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: حتى نبيّن ما به نعذّب، و ما من أجله ندخل الجنّة.
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أنّ معرفة اللّه لا تجب عقلا، و إنما تجب بالشّرع، و هو بعثة الرّسل، و أنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار «2» . قال: و قيل معناه:
أنه لا يعذب في ما طريقه السّمع إلّا بقيام حجّة السّمع من جهة الرّسول، و لهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب و لم يسمع بالصّلاة و الزّكاة و نحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إلّا بعد قيام حجّة السّمع، و الأصل فيه قصّة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة و لم يستأنفوا «3» ، و لو أسلم في دار الإسلام و لم يعلم بفرض الصّلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلّون في المساجد بأذان و إقامة، و ذلك دعاء إليها.
[سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 17]
(1) سورة الزخرف: 22.
(2) قال القرطبي رحمه اللّه 10/ 203: قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. و في هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح و يحسّن و يبيح و يحظر، و الجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن اللّه لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم و الإنذار. و قالت فرقة: هذا عام في الدنيا و الآخرة، لقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا الملك: 8. قال ابن عطية: و الذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد و بث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان و اتباع شريعة اللّه، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. و هذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة و هم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. و أما ما روي أن اللّه يبعث إليهم يوم القيامة و إلى المجانين و الأطفال، فحديث لم يصح، و لا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. و قد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب و لا رسول- ثم تلا- وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا و يقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا و لا شرا، و يقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها و ادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم اللّه سعيدا لو أدرك العمل، و يمسك عنها من كان في علم اللّه شقيا لو أدرك العمل فيقول اللّه تبارك و تعالى: «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». قلت: ضعيف. أخرجه الطبري 24466 من حديث أبي سعيد و فيه عطية العوفي ضعيف و لو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود و أهل الفترة و نحوهم. و روي عن أبي سعيد موقوفا، و فيه نظر. و اللّه أعلم.
(3) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة: 142. و قد خرّج البخاري 7252 و 399 و 4492 و مسلم 525 و الترمذي 340 و 2962 و النسائي 2/ 60 و ابن ماجة 1010 و ابن حبان 1716 كلهم من حديث البراء: أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، و كان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، و إنه صلى أول صلاة صلّاها العصر و صلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى اللّه عليه و سلّم فمرّ على أهل المسجد و هم راكعون فقال: أشهد باللّه، لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه و سلّم قبل البيت، فداروا كما هم قبل البيت. و كان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللّه عز و جل وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 16
قوله تعالى: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً في سبب إرادته لذلك قولان: أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشّقاء. و الثاني: عنادهم الأنبياء و تكذيبهم إيّاهم.
قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها قرأ الأكثرون: «أمرنا» مخفّفة، على وزن «فعلنا»، و فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الأمر، و في الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطّاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزّجّاج: و مثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
و الثاني: كثرنا، يقال: أمرت الشيء و أمرته، أي: كثرته، و منه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أمر بنو فلان يأمرون أمرا: إذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، و ابن قتيبة. و الثالث: أنّ معنى «أمرنا»: أمرنا، يقال: أمرت الرّجل، بمعنى: أمرته، و المعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة، ذكره ابن الأنباري. و روى خارجة عن نافع: «أمرنا» ممدودة، مثل «آمنّا»، و كذلك روى حمّاد بن سلمة عن ابن كثير، و هي قراءة ابن عباس، و أبي الدّرداء، و أبي رزين، و الحسن، و الضّحّاك، و يعقوب. قال ابن قتيبة: و هي اللغة العالية المشهورة، و معناه: كثرنا، أيضا. و روى ابن مجاهد أنّ أبا عمرو قرأ: «أمرنا» مشددة الميم، و هي رواية أبان عن عاصم، و هي قراءة أبي العالية، و النّخعيّ، و الجحدريّ. قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أمراء، و قرأ أبو المتوكّل، و أبو الجوزاء، و ابن يعمر: «أمرنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخفّفة. فأمّا المترفون، فهم المتنعّمون الذين أبطرتهم النّعمة و سعة العيش، و المفسّرون يقولون: هم الجبّارون و المسلّطون و الملوك، و إنما خصّ المترفين بالذّكر، لأنهم الرّؤساء، و من عداهم تبع لهم.
قوله تعالى: فَفَسَقُوا فِيها أي: تمرّدوا في كفرهم، لأنّ الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه.
و قد شرحنا معنى «الفسق» في البقرة «1» . قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ قال مقاتل: وجب عليها العذاب. و قد ذكرنا معنى «التّدمير» في الأعراف «2» . قوله تعالى: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ و هو جمع قرن. و قد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الأنعام «3» و شرحنا معنى الخبير و البصير في سورة البقرة «4» قال مقاتل: و هذه الآية تخويف لكفّار مكّة.
[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني: من كان يريد بعمله الدّنيا، فعبّر بالنّعت عن الاسم، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من عرض الدنيا، و قيل: من البسط و التّقتير، لِمَنْ نُرِيدُ فيه قولان: أحدهما:
لمن نريد هلكته، قاله أبو إسحاق الفزاري. و الثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئا و في هذا ذمّ لمن أراد بعمله الدّنيا، و بيان أنه لا ينال ما يقصده منها إلّا ما قدر له، ثم يدخل النار في الآخرة. و قال ابن جرير:
(1) سورة البقرة: 26، 197.
(2) سورة الأعراف: 137.
(3) سورة الأنعام: 6.
(4) سورة البقرة: 234 و عند الآية: 96.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 17
هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد. و قد ذكرنا معنى «جهنّم» في سورة البقرة «1» ، و معنى يَصْلاها في سورة النساء «2» ، و معنى مَذْمُوماً مَدْحُوراً في الأعراف «3» .
قوله تعالى: وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ يعني: الجنّة وَ سَعى لَها سَعْيَها أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، و إنّما قال: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ لأنّ الإيمان شرط في صحة الأعمال، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي: مقبولا. و شكر اللّه عزّ و جلّ لهم: ثوابه إيّاهم، و ثناؤه عليهم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 22]
قوله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ قال الزّجّاج: «كلّا» منصوب ب «نمدّ»، «هؤلاء» بدل من «كل» و المعنى: نمدّ هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربّك، قال المفسّرون: كلّا نعطي من الدنيا، البرّ و الفاجر، و العطاء ها هنا: الرّزق، و المحظور: الممنوع، و المعنى: أنّ الرزق يعمّ المؤمن و الكافر، و الآخرة للمتّقين خاصّة. انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ و فيما فضّلوا فيه قولان: أحدهما:
الرّزق، منهم مقلّ، و منهم مكثر. و الثاني: الرّزق و العمل، فمنهم موفّق لعمل صالح، و منهم ممنوع من ذلك. قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلّم، و المعنى عامّ لجميع المكلّفين.
و المخذول: الذي لا ناصر له، و الخذلان: ترك العون. قال مقاتل: نزلت حين دعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم إلى ملّة آبائه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 25]
قوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر ربّك. و نقل عنه الضّحّاك أنه قال: إنّما هي «و وصى ربك» فالتصقت إحدى الواوين ب «الصّاد»، و كذلك قرأ أبيّ بن كعب، و أبو المتوكّل، و سعيد بن جبير: «و وصى»، و هذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه. و قرأ أبو عمران، و عاصم الجحدريّ، و معاذ القارئ: «و قضاء ربك» بقاف و ضاد بالمدّ و الهمز و الرّفع و خفض اسم الرّب. قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحتم و الوجوب، لكنه من باب الأمر و الفرض، و أصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام و إتقان، قال الشاعر يرثي عمر:
قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتّق «4»
(1) سورة البقرة: 206.
(2) سورة النساء: عند الآية 10.
(3) سورة الأعراف: 18.
(4) البيت للشمّاخ كما في «حماسة أبي تمام» 3/ 109. و يروى أيضا للمزرد بن ضرار كما في «البيان و التبيين» 3/ 364. و قيل إن هذا الشعر للجنّ قالته قبل أن يقتل عمر بثلاث، فكان ذلك نعيا قبل أن يقتل. و في «اللسان»: