کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 14
و أعلمهم أنّ ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر، هو الذي يلزمه أعناقهم. و قال الأزهريّ: الأصل في هذا أنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم، علم المطيع من ذريّته، و العاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، و قضى سعادة من علمه مطيعا، و شقاوة من علمه عاصيا، فصار لكلّ منهم ما هو صائر إليه عند خلقه و إنشائه، فذلك قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ . و الرابع: أنه ما يتطيّر من مثله من شيء عمله، و ذكر العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزّجّاج. و قال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائرا، أنهم كانوا يتطيّرون من بعض الأعمال.
قوله تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ قرأ أبو جعفر: «و يخرج» بياء مضمومة و فتح الراء. و قرأ يعقوب.
و عبد الوارث: بالياء مفتوحة و ضمّ الراء. و قرأ قتادة، و أبو المتوكل: «و يخرج» بياء مرفوعة و كسر الراء.
و قرأ أبو الجوزاء، و الأعرج: «و تخرج» بتاء مفتوحة و رفع الراء، يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً و قرأ ابن عباس، و عكرمة، و الضّحّاك: «كتاب» بالرفع، يلقاه و قرأ ابن عامر، و أبو جعفر «يلقّاه» بضمّ الياء و تشديد القاف. و أمال حمزة، و الكسائيّ القاف. قال المفسّرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل. و كان أبو السّوّار العدوي إذا قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطيّة، أمّا ما حييت يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها شئت، فإذا متّ، طويت، ثم إذا بعثت، نشرت.
قوله تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ ، و قرأ أبو جعفر: «اقرأ» بتخفيف الهمزة و فيه إضمار تقديره، فيقال له اقرأ كتابك. قال الحسن: يقرؤه أميّا كان أو غير أمّيّ، و لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. و في معنى حَسِيباً ثلاثة أقوال: أحدها: محاسبا. و الثاني: شاهدا. و الثالث: كافيا، و المعنى: أنّ الإنسان يفوّض إليه حسابه، ليعلم عدل اللّه بين العباد، و يرى وجوب حجّة اللّه عليه، و استحقاقه العقوبة، و يعلم أنه إن دخل الجنّة، فبفضل اللّه، لا بعمله، و إن دخل النار، فبذنبه. قال ابن الأنباري: و إنّما قال:
حَسِيباً و النّفس مؤنّثة، لأنه يعني بالنّفس: الشّخص، أو لأنه لا علامة للتّأنيث في لفظ النّفس، فشبّهت بالسماء و الأرض، قال اللّه تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «1» ، قال الشاعر:
و لا أرض أبقل إبقالها
«2»
[سورة الإسراء (17): آية 15]
قوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: له ثواب اهتدائه، و عليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ أي: نفس وازرة وِزْرَ أُخْرى قال ابن عباس: إنّ الوليد بن المغيرة قال: اتّبعوني و أنا أحمل أوزاركم، فقال اللّه تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، قال أبو عبيدة:
و المعنى: و لا تأثم آثمة إثم أخرى. قال الزّجاج: يقال: وزر، يزر، فهو وازر، وزرا، و وزرا، و وزرة، و معناه: أثم إثما. و في تأويل هذه الآية و جهان: أحدهما: أنّ الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. و الثاني: أنه
(1) سورة المزمل: 18.
(2) هو عجز بيت لعامر بن جوين و صدره: «فلا مزنة ودقت ودقها». كما في «الكتاب» 1/ 205. و في «اللسان» المزنة: السحابة، و الودق: المطر.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 15
لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأنّ غيره عمله، كما قال الكفّار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ* «1» و معنى حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: حتى نبيّن ما به نعذّب، و ما من أجله ندخل الجنّة.
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أنّ معرفة اللّه لا تجب عقلا، و إنما تجب بالشّرع، و هو بعثة الرّسل، و أنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار «2» . قال: و قيل معناه:
أنه لا يعذب في ما طريقه السّمع إلّا بقيام حجّة السّمع من جهة الرّسول، و لهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب و لم يسمع بالصّلاة و الزّكاة و نحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إلّا بعد قيام حجّة السّمع، و الأصل فيه قصّة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة و لم يستأنفوا «3» ، و لو أسلم في دار الإسلام و لم يعلم بفرض الصّلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلّون في المساجد بأذان و إقامة، و ذلك دعاء إليها.
[سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 17]
(1) سورة الزخرف: 22.
(2) قال القرطبي رحمه اللّه 10/ 203: قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. و في هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح و يحسّن و يبيح و يحظر، و الجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن اللّه لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم و الإنذار. و قالت فرقة: هذا عام في الدنيا و الآخرة، لقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا الملك: 8. قال ابن عطية: و الذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد و بث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان و اتباع شريعة اللّه، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. و هذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة و هم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. و أما ما روي أن اللّه يبعث إليهم يوم القيامة و إلى المجانين و الأطفال، فحديث لم يصح، و لا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. و قد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب و لا رسول- ثم تلا- وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا و يقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا و لا شرا، و يقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها و ادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم اللّه سعيدا لو أدرك العمل، و يمسك عنها من كان في علم اللّه شقيا لو أدرك العمل فيقول اللّه تبارك و تعالى: «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». قلت: ضعيف. أخرجه الطبري 24466 من حديث أبي سعيد و فيه عطية العوفي ضعيف و لو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود و أهل الفترة و نحوهم. و روي عن أبي سعيد موقوفا، و فيه نظر. و اللّه أعلم.
(3) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة: 142. و قد خرّج البخاري 7252 و 399 و 4492 و مسلم 525 و الترمذي 340 و 2962 و النسائي 2/ 60 و ابن ماجة 1010 و ابن حبان 1716 كلهم من حديث البراء: أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، و كان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، و إنه صلى أول صلاة صلّاها العصر و صلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى اللّه عليه و سلّم فمرّ على أهل المسجد و هم راكعون فقال: أشهد باللّه، لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه و سلّم قبل البيت، فداروا كما هم قبل البيت. و كان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللّه عز و جل وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 16
قوله تعالى: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً في سبب إرادته لذلك قولان: أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشّقاء. و الثاني: عنادهم الأنبياء و تكذيبهم إيّاهم.
قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها قرأ الأكثرون: «أمرنا» مخفّفة، على وزن «فعلنا»، و فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الأمر، و في الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطّاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزّجّاج: و مثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
و الثاني: كثرنا، يقال: أمرت الشيء و أمرته، أي: كثرته، و منه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أمر بنو فلان يأمرون أمرا: إذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، و ابن قتيبة. و الثالث: أنّ معنى «أمرنا»: أمرنا، يقال: أمرت الرّجل، بمعنى: أمرته، و المعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة، ذكره ابن الأنباري. و روى خارجة عن نافع: «أمرنا» ممدودة، مثل «آمنّا»، و كذلك روى حمّاد بن سلمة عن ابن كثير، و هي قراءة ابن عباس، و أبي الدّرداء، و أبي رزين، و الحسن، و الضّحّاك، و يعقوب. قال ابن قتيبة: و هي اللغة العالية المشهورة، و معناه: كثرنا، أيضا. و روى ابن مجاهد أنّ أبا عمرو قرأ: «أمرنا» مشددة الميم، و هي رواية أبان عن عاصم، و هي قراءة أبي العالية، و النّخعيّ، و الجحدريّ. قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أمراء، و قرأ أبو المتوكّل، و أبو الجوزاء، و ابن يعمر: «أمرنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخفّفة. فأمّا المترفون، فهم المتنعّمون الذين أبطرتهم النّعمة و سعة العيش، و المفسّرون يقولون: هم الجبّارون و المسلّطون و الملوك، و إنما خصّ المترفين بالذّكر، لأنهم الرّؤساء، و من عداهم تبع لهم.
قوله تعالى: فَفَسَقُوا فِيها أي: تمرّدوا في كفرهم، لأنّ الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه.
و قد شرحنا معنى «الفسق» في البقرة «1» . قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ قال مقاتل: وجب عليها العذاب. و قد ذكرنا معنى «التّدمير» في الأعراف «2» . قوله تعالى: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ و هو جمع قرن. و قد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الأنعام «3» و شرحنا معنى الخبير و البصير في سورة البقرة «4» قال مقاتل: و هذه الآية تخويف لكفّار مكّة.
[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني: من كان يريد بعمله الدّنيا، فعبّر بالنّعت عن الاسم، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من عرض الدنيا، و قيل: من البسط و التّقتير، لِمَنْ نُرِيدُ فيه قولان: أحدهما:
لمن نريد هلكته، قاله أبو إسحاق الفزاري. و الثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئا و في هذا ذمّ لمن أراد بعمله الدّنيا، و بيان أنه لا ينال ما يقصده منها إلّا ما قدر له، ثم يدخل النار في الآخرة. و قال ابن جرير:
(1) سورة البقرة: 26، 197.
(2) سورة الأعراف: 137.
(3) سورة الأنعام: 6.
(4) سورة البقرة: 234 و عند الآية: 96.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 17
هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد. و قد ذكرنا معنى «جهنّم» في سورة البقرة «1» ، و معنى يَصْلاها في سورة النساء «2» ، و معنى مَذْمُوماً مَدْحُوراً في الأعراف «3» .
قوله تعالى: وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ يعني: الجنّة وَ سَعى لَها سَعْيَها أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، و إنّما قال: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ لأنّ الإيمان شرط في صحة الأعمال، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي: مقبولا. و شكر اللّه عزّ و جلّ لهم: ثوابه إيّاهم، و ثناؤه عليهم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 22]
قوله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ قال الزّجّاج: «كلّا» منصوب ب «نمدّ»، «هؤلاء» بدل من «كل» و المعنى: نمدّ هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربّك، قال المفسّرون: كلّا نعطي من الدنيا، البرّ و الفاجر، و العطاء ها هنا: الرّزق، و المحظور: الممنوع، و المعنى: أنّ الرزق يعمّ المؤمن و الكافر، و الآخرة للمتّقين خاصّة. انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ و فيما فضّلوا فيه قولان: أحدهما:
الرّزق، منهم مقلّ، و منهم مكثر. و الثاني: الرّزق و العمل، فمنهم موفّق لعمل صالح، و منهم ممنوع من ذلك. قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلّم، و المعنى عامّ لجميع المكلّفين.
و المخذول: الذي لا ناصر له، و الخذلان: ترك العون. قال مقاتل: نزلت حين دعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم إلى ملّة آبائه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 25]
قوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر ربّك. و نقل عنه الضّحّاك أنه قال: إنّما هي «و وصى ربك» فالتصقت إحدى الواوين ب «الصّاد»، و كذلك قرأ أبيّ بن كعب، و أبو المتوكّل، و سعيد بن جبير: «و وصى»، و هذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه. و قرأ أبو عمران، و عاصم الجحدريّ، و معاذ القارئ: «و قضاء ربك» بقاف و ضاد بالمدّ و الهمز و الرّفع و خفض اسم الرّب. قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحتم و الوجوب، لكنه من باب الأمر و الفرض، و أصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام و إتقان، قال الشاعر يرثي عمر:
قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتّق «4»
(1) سورة البقرة: 206.
(2) سورة النساء: عند الآية 10.
(3) سورة الأعراف: 18.
(4) البيت للشمّاخ كما في «حماسة أبي تمام» 3/ 109. و يروى أيضا للمزرد بن ضرار كما في «البيان و التبيين» 3/ 364. و قيل إن هذا الشعر للجنّ قالته قبل أن يقتل عمر بثلاث، فكان ذلك نعيا قبل أن يقتل. و في «اللسان»:
البوائق: جمع بائقة و هي الداهية و البلية.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 18
أراد: قطعتها محكما لها.
قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: و أمر بالوالدين إحسانا و هو البرّ و الإكرام، و قد ذكرنا هذا في البقرة «1» . قوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَ قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو و عاصم، و ابن عامر: «يبلغنّ» على التّوحيد. و قرأ حمزة، و الكسائيّ، و خلف: «يبلغان» على التّثنية. قال الفرّاء: جعلت «يبلغن» فعلا لأحدهما و كرّت عليهما «كلاهما» و من قرأ «يبلغان» فإنه ثنّى لأنّ الوالدين قد ذكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما على الاستئناف، كقوله تعالى: فَعَمُوا وَ صَمُّوا «2» ثم استأنف فقال: وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ .
قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ قرأ أبو عمرو، و حمزة، و الكسائيّ، و أبو بكر عن عاصم: «أفّ» بالكسر من غير تنوين، و قرأ ابن كثير، و ابن عامر، و يعقوب، و المفضّل: «أفّ» بالفتح من غير تنوين.
و قرأ نافع، و حفص عن عاصم: أُفٍ بالكسر و التنوين. و قرأ أبو الجوزاء و ابن يعمر: «أفّ» بالرفع و التنوين و تشديد الفاء. و قرأ معاذ القارئ، و عاصم، الجحدريّ، و حميد بن قيس: «أفا» مثل «تعسا».
و قرأ أبو عمران الجوني، و أبو السّمّال العدويّ: «أفّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، و هي رواية الأصمعيّ عن أبي عمرو. و قال عكرمة، و أبو المتوكّل، و أبو رجاء، و أبو الجوزاء: «أف» بإسكان الفاء و تخفيفها؛ قال الأخفش: و هذا لأن بعض العرب يقول: أف لك، على الحكاية، و الرّفع قبيح، لأنه لم يجئ بعده بلام. و قرأ أبو العالية، و أبو حصين الأسديّ: «أفّي» بتشديد الفاء و بياء و روى ابن الأنباري أنّ بعضهم قرأها: «أف» بكسر الهمزة. و قال الزّجّاج: فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين، و بتنوين و الضّمّ بلا تنوين، و بتنوين، و الفتح بلا تنوين، و بتنوين، و اللغة السابعة لا تجوز في القراءة: «أفي» بالياء، هكذا قال الزّجّاج. و قال ابن الأنباري: في «أفّ» عشرة أوجه: «أفّ» بفتح الفاء، و «أفّ» بكسرها، و «أفّ»، و «أفّا» لك بالنّصب و التنوين على مذهب الدّعاء كما تقول: «ويلا» للكافرين، و «أفّ» لك، بالرّفع و التنوين، و هو رفع باللام، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «3» و «أفه» لك، بالخفض و التنوين، تشبيها بالأصوات، كقولك: «صه» و «مه»، و «أفها» لك، على مذهب الدّعاء أيضا، و «أفّي» لك، على الإضافة إلى النّفس، و «أف» لك، بسكون الفاء تشبيها بالأدوات، مثل: «كم» و «هل» و «بل»، و «إف» لك، بكسر الألف، و قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: و تقول: «أف» منه، و «أف»، و «أف»، و «أف»، و «أفا»، و «أفّ»، و «أفّي» مضاف، و «أفها» و «أفا» بالألف، و لا تقل:
«أفي» بالياء فإنه خطأ.
فأما معنى أُفٍ ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه وسخ الظّفر، قاله الخليل. و الثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعيّ. و الثالث: قلامة الظّفر، قاله ثعلب. و الرابع: أن «الأفّ» الاحتقار و الاستصغار، من «الأفف»، و الأفف عند العرب: القلّة، ذكره ابن الأنباري. و الخامس: أن «الأفّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي. و قرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى «الأفّ»: النّتن، و التّضجّر، و أصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب و رماد، و للمكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيلت لكلّ مستثقل، قلت: و أما قولهم: «تف»، فقد جعلها قوم بمعنى «أف»، فروي عن
(1) سورة البقرة عند الآية: 83.
(2) سورة المائدة: 71.
(3) سورة المطففين: 1.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 19
أبي عبيد أنه قال: أصل «الأفّ» و «التفّ»: الوسخ على الأصابع إذا فتلته. و حكى ابن الأنباري فرقا، فقال: قال اللغويون: أصل «الأفّ» في اللغة: وسخ الأذن، و «التّفّ»: وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره و يستقذر و يضجر منه. و حكى الزّجّاج فرقا آخر، فقال: قد قيل: إنّ «أف»: وسخ الأظفار، و «التفّ»: الشيء الحقير، و نحو وسخ الأذن، أو الشّظيّة تؤخذ من الأرض، و معنى «أف»:
النّتن، و معنى الآية: لا تقل لهما كلاما تتبرّم فيه بهما إذا كبرا و أسنّا، فينبغي أن تتولّى من خدمتهما مثل الذي تولّيا من القيام بشأنك و خدمتك، وَ لا تَنْهَرْهُما أي: لا تكلّمهما ضجرا صائحا في وجوههما.
و قال عطاء بن أبي رباح: لا تنقض يدك عليهما، يقال: نهرته أنهره نهرا، و انتهرته انتهارا، بمعنى واحد، و قال ابن فارس: نهرت الرجل و انتهرته مثل: زجرته. قال المفسّرون: و إنما نهى عن أذاهما في الكبر، و إن كان منهيا عنه على كلّ حال، لأنّ حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر و يؤذي، و تكثر خدمتهما.
قوله تعالى: وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي: لينا لطيفا أحسن ما تجد. و قال سعيد بن المسيّب:
قول العبد المذنب للسيّد الفظ. قوله تعالى: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي: ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إيّاهما. و خفض الجناح قد شرحناه في الحجر «1» . قال عطاء: جناحك:
يداك، فلا ترفعهما على والديك. و الجمهور يضمّون الذال من «الذّلّ» و قرأ أبو رزين، و الحسن، و سعيد بن جبير، و قتادة، و عاصم الجحدريّ، و ابن أبي عبلة: بكسر الذال. قال الفراء: الذلّ: أن تتذلّل لهما، من الذّل، و الذّل: أن تتذلّل و لست بذليل في الخدمة «2» و الذلّ و الذّلّة: مصدر الذّليل، و الذّلّ بالكسر: مصدر الذّلول، مثل الدّابّة و الأرض. قال ابن الأنباري: من قرأ «الذّل»، بكسر الذّال، جعله بمعنى الذّل، بضم الذّال، و الذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذّلّ من الرجل الذّليل، و الذّلّ من الدابّة الذّلول.
قوله تعالى: وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي: مثل رحمتها إيّاي في صغري حتى ربّياني، و قد ذهب قوم إلى أنّ هذا الدّعاء المطلق نسخ منه الدّعاء لأهل الشّرك بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «3» ، و هذا المعنى منقول عن ابن عباس، و الحسن، و عكرمة، و مقاتل. قال المصنف: و لا أرى هذا نسخا عند الفقهاء، لأنه عامّ دخله التّخصيص، و قد ذكر قريبا ممّا قلته ابن جرير. قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي: بما تضمرون من البرّ و العقوق، فمن بدرت منه بادرة و هو لا يضمر العقوق، غفر له ذلك، و هو قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي:
طائعين لله، و قيل بارين، و قيل: توّابين، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً في الأوّاب عشرة أقوال «4» :
أحدها: أنه المسلم، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. و الثاني: أنه التّوّاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، و به قال مجاهد، و سعيد بن جبير، و الضّحّاك، و أبو عبيدة، و قال ابن قتيبة: هو التّائب مرّة بعد مرّة.
و قال الزّجّاج: هو التّوّاب المقلع عن جميع ما نهاه اللّه عنه، يقال: قد آب يؤوب أوبا: إذا رجع.
(1) الحجر عند الآية: 88.
(2) في نسخة «الخلق».
(3) سورة التوبة: 113.
(4) قال الإمام الطبري رحمه اللّه 8/ 66: و أولى الأقوال بالصواب: قول من قال: الأوّاب: هو التائب من الذنب الراجع عن معصية اللّه إلى طاعته، و مما يكرهه إلى ما يرضاه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج3، ص: 20
و الثالث: أنه المسبّح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. و الرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. و الخامس: أنه الذي يذكر ذنبه في الخلاء، فيستغفر اللّه منه، قاله عبيد بن عمير. و السادس: أنه المقبل إلى اللّه تعالى بقلبه و عمله، قاله الحسن. و السابع: المصلّي، قاله قتادة.
و الثامن: هو الذي يصلّي بين المغرب و العشاء، قاله ابن المنكدر. و التاسع: الذي يصلّي صلاة الضّحى، قاله عون العقيليّ. و العاشر: أنّه الذي يذنب سرا و يتوب سرا، قاله السّديّ.
[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 28]
قوله تعالى: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ فيه قولان «1» : أحدهما: أنه قرابة الرجل من قبل أبيه و أمّه، قاله ابن عباس، و الحسن، فعلى هذا في حقّهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ المراد به: برّهم و صلتهم.
و الثاني: النّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة. و الثالث: الوصيّة لهم عند الوفاة.
و الثاني: أنهم قرابة الرّسول، قاله عليّ بن الحسين عليهما السّلام و السّديّ. فعلى هذا، يكون حقّهم: إعطاؤهم من الخمس، و يكون الخطاب للولاة.
قوله تعالى: وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يكون المراد: الصّدقات الواجبة، يعني، الزّكاة، و يجوز أن يكون الحقّ الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه. و قيل: حقّ المسكين، من الصّدقة، و ابن السّبيل، من الضّيافة.
قوله تعالى: وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً في التّبذير قولان: أحدهما: أنه إنفاق المال في غير حقّ، قاله ابن مسعود، و ابن عباس. و قال مجاهد: لو أنفق الرجل ماله كلّه في حقّ، ما كان مبذّرا، و أنفق مدّا في غير حقّ، كان مبذرا. قال الزّجّاج: التّبذير: النّفقة في غير طاعة اللّه، و كانت الجاهلية تنحر الإبل و تبذر الأموال تطلب بذلك الفخر و السّمعة، فأمر اللّه عزّ و جلّ بالنّفقة في وجهها فيما يقرب منه. و الثاني: أنه الإسراف المتلف للمال، ذكره الماوردي. و قال أبو عبيدة: المبذر: هو المسرف المفسد العائث. قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه، و يشاكلونهم في معصية اللّه تعالى: وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي: جاحدا لنعمه. و هذا يتضمّن أنّ المسرف كفور للنّعم.
قوله تعالى: وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ في المشار إليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين تقدّم ذكرهم من الأقارب و المساكين و أبناء السّبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علّة هذا الإعراض قولان:
أحدهما: الإعسار، قاله الجمهور. و الثاني: خوف إنفاقهم ذلك في معصية اللّه، قاله ابن زيد. و على هذا في الرّحمة قولان: أحدهما: الرّزق، قاله الأكثرون. و الثاني: أنه الصّلاح و التّوبة. هذا على قول ابن زيد. و الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: و إمّا تعرضنّ عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير.
فتحتمل إذا الرّحمة وجهين: أحدهما: انتظار النّصر عليهم. و الثاني: الهداية لهم.