کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 80
قبلك ... الآية. فقال: لا أسأل، قد اكتفيت، رواه عطاء عن ابن عباس، و هذا قول سعيد بن جبير، و الزّهري، و ابن زيد، قالوا: جمع له الرّسل ليلة أسري به، فلقيهم، و أمر أن يسألهم، فما شكّ و لا سأل. و الثاني: أنّ المراد: أسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، و الحسن، و مجاهد، و قتادة، و الضّحّاك، و السّدّيّ في آخرين. قال ابن الأنباري: و المعنى سل أتباع من أرسلنا قبلك، كما تقول: السّخاء حاتم، أي: سخاء حاتم، و الشّعر زهير، أي: شعر زهير.
و عند المفسّرين أنه لم يسأل على القولين. و قال الزّجّاج: هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري. و الثالث: أنّ المراد بخطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: خطاب أمّته، فيكون المعنى سلوا، قاله الزّجّاج. و ما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ استهزاء بها و تكذيبا.
وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يعني ما ترادف عليهم من الطّوفان و الجراد و القمّل و الضّفادع و الدّم و الطّمس «1» ، فكانت كلّ آية أكبر من التي قبلها، و هي العذاب المذكور في قوله:
وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ، فكانت عذابا لهم، و معجزات لموسى عليه السلام. قوله تعالى: وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ، في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا: يا أيّها العالم، و كان السّاحر فيهم عظيما، رواه أبو صالح عن ابن عباس. و الثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن.
و الثالث: أنهم خاطبوه بما تقدّم له عندهم من التّسمية بالسّاحر، قاله الزّجّاج. قوله تعالى: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: مؤمنون بك. فدعا موسى، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا. و قد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف «2» . قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من تحت قصوري أَ فَلا تُبْصِرُونَ عظمتي و شدّة ملكي؟! أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال أبو عبيدة: أراد: بل أنا خير. و حكى الزّجّاج عن سيبويه و الخليل أنهما قالا: عطف «أنا» ب «أم» على «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» فكأنه قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء؟! لأنهم إذا قالوا:
أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء. قال الزّجّاج: و المهين: القليل؛ يقال: شيء مهين، أي: قليل.
و قال مقاتل: «مهين» بمعنى ذليل ضعيف. قوله تعالى: وَ لا يَكادُ يُبِينُ أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها اللّه عنه، فكأنه عيّره بشيء قد كان و زال، و يدل على زواله قوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «3» ، و كان في سؤاله وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «4» . و قال بعض العلماء: و لا يكاد يبين الحجّة و لا يأتي ببيان يفهم. فَلَوْ لا أي: فهلّا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ و قرأ حفص عن عاصم: «أسورة» بغير ألف. قال الفرّاء: واحد الأساورة إسوار، و قد تكون الأساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية: الأساقي، و في جمع الأكرع: الأكارع. و قال الزّجّاج: يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع، تقول: أسورة و أساورة، كما تقول: أقوال و أقاويل، و يجوز أن تكون جمع إسوار، و إنما صرفت أساورة، لأنك ضممت الهاء إلى أساور، فصار اسما واحدا، و صار له مثال في الواحد، نحو «علانية».
(1) في «اللسان»: الطموس: الدّروس و الانمحاء، و طموس البصر: ذهاب نوره وضوئه.
(2) الأعراف: 135.
(3) طه: 36.
(4) طه: 27.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 81
قال المفسّرون: إنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سوّدوا الرجل منهم سوّروه بسوار. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فيه قولان: أحدهما: متتابعين، قاله قتادة: و الثاني: يمشون معه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ قال الفرّاء: استفزّهم؛ و قال غيره: استخفّ أحلامهم و حملهم على خفّة الحلم بكيده و غروره فَأَطاعُوهُ في تكذيب موسى. فَلَمَّا آسَفُونا قال ابن عباس:
أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسف: الغضب، يقال: أسفت آسف أسفا، أي: غضبت. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي: قوما تقدّموا. و قرأها أبو هريرة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و حميد الأعرج: «سلفا» بضمّ السين و فتح اللام، كأنّ واحدته سلفة من الناس، مثل القطعة، يقال: تقدّمت سلفة من الناس، أي: قطعة منهم. و قرأ حمزة، و الكسائيّ: «سلفا» بضمّ السين و اللام، و هو جمع «سلف»، كما قالوا: خشب و خشب، و ثمر و ثمر، و يقال: هو جمع سليف، و كلّه من التقدّم. و قال الزّجّاج: السّليف جمع قد مضى؛ و المعنى: جعلناهم سلفا متقدّمين ليتّعظ بهم الآخرون. قوله تعالى: وَ مَثَلًا أي: عبرة و عظة.
[سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 66]
قوله تعالى: وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أكثر المفسّرين على أنّ هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم حين نزل قوله: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية «1» . و قد شرحنا القصة في سورة الأنبياء «2» . و المشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم و شبّههوه بها، لأنّ تلك الآية إنما تضمّنت ذكر الأصنام، لأنها عبدت من دون الله، فألزموه عيسى، و ضربوه مثلا لأصنامهم، لأنّه معبود النّصارى، و المراد بقومه: المشركون. فأمّا يَصِدُّونَ فقرأ ابن عامر، و نافع، و الكسائيّ: بضم الصاد، و كسرها الباقون؛ قال الزّجّاج: و معناهما جميعا: يضجّون، و يجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون. و قال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يضجّون، و من ضمّها، فمجازها: يعدلون.
قوله تعالى: وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ المعنى: ليست خيرا منه، فإن كان في النّار لأنه عبد من دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ذكروا عيسى إلّا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أنّ المراد ب حَصَبُ جَهَنَّمَ «3» ما اتّخذوه من الموات بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: أصحاب خصومات.
(1) الأنبياء: 98.
(2) الأنبياء: 101.
(3) الأنبياء: 101.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 82
قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا أي: آية و عبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرفون به قدرة الله على ما يريد، إذ خلقه من غير أب. ثم خاطب كفّار مكّة، فقال: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ فيه قولان:
دهما: أنّ المعنى: لجعلنا بدلا منكم ملائكة؛ ثم في معنى «يخلفون» ثلاثة أقوال: أحدها:
يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس. و الثاني: يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم، قاله مجاهد. و الثالث:
يخلفون الرّسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم، حكاه الماوردي.
و القول الثاني: أنّ المعنى: «و لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة» أي: قلبنا الخلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى عليه السلام. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم به قربها، و هذا قول ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضّحّاك و السّدّيّ. و الثاني: أنّ إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة و بعث الموتى، قاله ابن إسحاق. و القول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله الحسن و سعيد بن جبير. و قرأ الجمهور: «لعلم» بكسر العين و تسكين اللام؛ و قرأ ابن عباس و أبو رزين و أبو عبد الرّحمن و قتادة و حميد و ابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة، و من فتح العين و اللام فإنه بمعنى العلامة و الدليل.
قوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي: فلا تشكنّ فيها وَ اتَّبِعُونِ على التوحيد هذا الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ . وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قد شرحنا هذا في سورة البقرة «1» . قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ و فيها قولان: أحدهما: النبوّة، قاله عطاء، و السّدّيّ. و الثاني: الإنجيل، قاله مقاتل.
وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي: من أمر دينكم؛ و قال مجاهد: «بعض الذي تختلفون فيه» من تبديل التّوراة؛ و قال ابن جرير: من أحكام التّوراة. و قد ذهب قوم إلى أنّ البعض هاهنا بمعنى الكلّ.
و قد شرحنا ذلك في حم المؤمن «2» ؛ قال الزّجّاج: و الصحيح أنّ البعض لا يكون في معنى الكلّ، و إنما بيّن لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه ممّا احتاجوا إليه؛ و قد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم و دنياهم، فبيّن لهم أمر دينهم فقط. و ما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ يعني كفّار مكّة.
[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 73]
قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ أي في الدنيا يَوْمَئِذٍ أي في القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأنّ الخلّة إذا كانت في الكفر و المعصية صارت عداوة يوم القيامة؛ و قال مقاتل: نزلت في أميّة بن خلف و عقبة بن
(1) البقرة: 87.
(2) غافر: 28.
(3) النساء: 175- مريم: 37.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 83
أبي معيط إِلَّا الْمُتَّقِينَ يعني الموحّدين. فإذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقول: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ ، فينكّس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع، و أبو عمرو، و ابن عامر، و أبو بكر عن عاصم: «يا عبادي» بإثبات الياء في الحالين و إسكانها، و حذفها في الحالين ابن كثير، و حمزة، و الكسائيّ، و حفص، و المفضّل عن عاصم، و خلف. و في أزواجهم قولان: أحدهما: زوجاتهم. و الثاني:
قرناؤهم. و قد سبق معنى تُحْبَرُونَ «1» .
قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ قال الزّجّاج: واحدها صحفة، و هي القصعة. و الأكواب، واحدها: كوب، و هو إناء مستدير لا عروة له؛ قال الفرّاء: الكوب: الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له، و قال عديّ:
متّكئا تصفق أبوابه
يسعى عليه العبد بالكوب «2»
و قال ابن قتيبة: الأكواب: الأباريق التي لا عرى لها. و قال شيخنا أبو منصور اللغوي: و إنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين شاء، لأنّ العروة تردّ الشارب من بعض الجهات.
قوله تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ و قرأ نافع، و ابن عامر، و حفص عن عاصم: «تشتهيه» بزيادة هاء. و حذف الهاء كإثباتها في المعنى. قوله تعالى: وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لذّذت الشيء، و استلذذته، و المعنى: ما من شيء اشتهته نفس أو استلذّته عين إلّا و هو في الجنّة، و قد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنّة في هذين الوصفين، فإنه ما من نعمة إلّا و هي نصيب النّفس أو العين، و تمام النّعيم الخلود، لأنه لو انقطع لم تطب. وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ يعني التي ذكرها في قوله: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» الَّتِي أُورِثْتُمُوها قد شرحنا هذا في الأعراف «3» عند قوله: أُورِثْتُمُوها .
[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 83]
قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين، لا يُفَتَّرُ أي: لا يخفّف عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ يعني في العذاب مُبْلِسُونَ قال ابن قتيبة: آيسون من رحمة الله. و قد شرحنا هذا في الأنعام «4» . وَ ما ظَلَمْناهُمْ أي: ما عذّبناهم على غير ذنب وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بما جنوا عليها. قال الزّجّاج:
و البصريّون يقولون: «هم» هاهنا فصل، كذلك يسمّونها، و يسمّيها الكوفيّون: العماد. قوله تعالى:
(1) الروم: 15.
(2) البيت لعدي بن زيد و هو في «مجاز القرآن»: 2/ 206 و «تفسير القرطبي» 16/ 99.
(3) الأعراف: 43.
(4) الأنعام: 44.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 84
وَ نادَوْا يا مالِكُ و قرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، و ابن مسعود، و ابن يعمر: «يا مال» بغير كاف مع كسر اللام. قال الزّجّاج: و هذا يسميه النّحويون: التّرخيم، و لكني أكرهها لمخالفة المصحف. قال المفسّرون: يدعون مالكا خازن النّار فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: ليمتنا؛ و المعنى: أنهم توسّلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب؛ فيسكت عن جوابهم مدّة، فيها أربعة أقوال:
أحدها: أربعون عاما، قاله عبد الله بن عمرو، و مقاتل. و الثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس. و الثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس. و الرابع: مائة سنة، قاله كعب. و في سكوته عن جوابهم هذه المدّة قولان.
أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم، قاله مقاتل. و الثاني: لأنّ بعد ما بين النداء و الجواب أخزى لهم و أذلّ. قال الماوردي: فردّ عليهم مالك فقال: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي: مقيمون في العذاب. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ أي: أرسلنا رسلنا بالتوحيد وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ قال ابن عباس: يريد: كلّكم كارِهُونَ لما جاء به محمّد صلّى الله عليه و سلّم.
قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في «أم» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام. و الثاني: بمعنى «بل».
و الإبرام: الإحكام. و في هذا الأمر ثلاثة أقوال: أحدها: المكر برسول الله صلّى الله عليه و سلّم ليقتلوه أو يخرجوه حين اجتمعوا في دار النّدوة؛ و قد سبق بيان القصة «1» ، قاله الأكثرون. و الثاني: أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة. و الثالث: أنه: إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب، قاله الفرّاء. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي:
محكمون أمرا في مجازاتهم. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ و هو ما يسرّونه من غيرهم وَ نَجْواهُمْ ما يتناجون به بينهم بَلى و المعنى: إنّا نسمع ذلك وَ رُسُلُنا يعني من الحفظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ . قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ في «إن» قولان «2» : أحدهما: أنّها بمعنى الشّرط، و المعنى: إن كان له ولد في قولكم و على زعمكم، فعلى هذا في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: فأنا أوّل الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. و في رواية أخرى عن ابن عباس: أنّ أعرابيّين اختصما إليه، فقال أحدهما: إنّ هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أوّل
(1) الأنفال: 30.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 11/ 216: و أولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى (إن) الشرط الذي يقتضي الجزاء و ذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه و سلّم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أن يقولوا له: صدقت، و هو كما قلت و نحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد، و لم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلّى الله عليه و سلّم و على مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، ذلك إذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد على ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط، و معنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم، و لكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، و لا ينبغي أن يكون له، و هذا لم يكن على وجه الشك، و لكن على وجه الإلطاف في الكلام و حسن الخطاب. و وافقه ابن كثير و قال في «تفسيره» 4/ 160:
أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، و لكن هذا ممتنع في حقه تعالى، و الشرط لا يلزم منه الوقوع و لا الجواز أيضا، كما قال تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ .
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 85
العابدين الجاحدين أنّ للّه ولدا. و الثاني: فأنا أوّل من عبد الله مخالفا لقولكم، هذا قول مجاهد. و قال الزّجّاج: معناه: إن كنتم تزعمون للرّحمن ولدا، فأنا أوّل الموحّدين. و الثالث: فأنا أول الآنفين للّه مما قلتم، قاله ابن السّائب، و أبو عبيدة «1» . قال ابن قتيبة: يقال: عبدت من كذا، أعبد عبدا، فأنا عبد و عابد، قال الفرزدق:
و أعبد أن تهجى تميم بدارم «2»
أي: آنف. و أنشد أبو عبيدة:
و أعبد أن أسبّهم بقومي
و أوثر دارما و بني رزاح
و الرابع: أنّ معنى الآية: كما أنّي لست أول عابد للّه، فكذلك ليس له ولد؛ و هذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، أي: لست كاتبا و لا أنا حاسب؛ حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة. و القول الثاني: أنّ «إن» بمعنى «ما»، قاله الحسن، و مجاهد، و قتادة، و ابن زيد؛ فيكون المعنى:
ما كان للرّحمن ولد، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له. و قال أبو عبيدة: الفاء على هذا القول بمعنى الواو.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يعني كفّار مكّة يَخُوضُوا في باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا و قرأ أبو المتوكّل و أبو الجوزاء و ابن محيصن و أبو جعفر: «حتى يلقوا» بفتح الياء و القاف و سكون اللام من غير ألف. و المراد: يلاقوا يوم القيامة، و هذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السّيف.
[سورة الزخرف (43): الآيات 84 الى 89]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال مجاهد، و قتادة: يعبد في السماء و يعبد في الأرض. و قال الزّجّاج: هو الموحّد في السماء و في الأرض. و قرأ عمر بن الخطّاب، و ابن مسعود، و ابن عباس، و ابن السّميفع، و ابن يعمر، و الجحدري: «في السماء الله و في الأرض الله» بألف و لام من غير تنوين و لا همز فيهما. و ما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ .
(1254) سبب نزولها أنّ النّضر بن الحارث و نفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمّد حقّا، فنحن (1254) عزاه المصنف لمقاتل، و هو ممن يضع الحديث.
(1) قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 161: و هذا القول فيه نظر، لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره: إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر فليتأمل. اللهم إلا أن يقال: إن (إن) ليست شرطا، و إنما هي نافية.
(2) هو عجز بيت و صدره: أولئك قوم إن هجوني هجوتهم.
(3) الأعراف: 54، لقمان: 34.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 86
نتولّى الملائكة، فهم أحقّ بالشّفاعة من محمّد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
و في معنى الآية قولان «1» : أحدهما: أنه أراد بالذين يدعون من دونه: آلهتهم، ثم استثنى عيسى و عزير و الملائكة، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هو أن يشهد أن لا إله إلّا الله وَ هُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، و هذا مذهب الأكثرين، منهم قتادة. و الثاني: أنّ المراد بالذين يدعون:
عيسى و عزير و الملائكة الذين عبدهم المشركون باللّه لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد إِلَّا مَنْ شَهِدَ أي:
إلّا لمن شهد بِالْحَقِ و هي كلمة الإخلاص وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ الله عزّ و جلّ خلق عيسى و عزير و الملائكة، و هذا مذهب قوم، منهم مجاهد. و في الآية دليل على أنّ شرط جميع الشّهادات أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به.
قوله تعالى: وَ قِيلِهِ يا رَبِ قال قتادة: هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربّه. و قال ابن عباس: شكا إلى الله تخلّف قومه عن الإيمان. قرأ ابن كثير، و نافع، و ابن عامر، و أبو عمرو: «و قيله» بنصب اللام؛ و فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أضمر معها قولا، كأنّه قال: و قال قيله، و شكا شكواه إلى ربّه. و الثاني:
أنه عطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ و قيله فالمعنى: و نسمع قيله، ذكر القولين الفرّاء، و الأخفش. و الثالث: أنه منصوب على معنى: و عنده علم الساعة و يعلم قيله، لأنّ معنى «وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» : يعلم الساعة و يعلم قيله، هذا اختيار الزّجّاج. و قرأ عاصم و حمزة: «و قيله» بكسر اللام و الهاء حتى تبلغ إلى الياء؛ و المعنى: و عنده علم الساعة و علم قيله. و قرأ أبو هريرة و أبو رزين و سعيد بن جبير و أبو رجاء و الجحدري و قتادة و حميد برفع اللام؛ و المعنى: و نداؤه هذه الكلمة: يا ربّ؛ ذكر علّة الخفض و الرّفع الفرّاء و الزّجّاج.
قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: فأعرض عنهم وَ قُلْ سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قل خيرا بدلا من شرّهم، قاله السّدّيّ. و الثاني: اردد عليهم معروفا، قاله مقاتل. و الثالث: قل ما تسلم به من شرّهم، حكاه الماوردي. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يعلمون عاقبة كفرهم. و الثاني:
أنك صادق. و الثالث: حلول العذاب بهم، و هذا تهديد لهم: «فسوف يعلمون». و قرأ نافع، و ابن عامر: «تعلمون» بالتاء. و من قرأ بالياء، فعلى الأمر للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم بأن يخاطبهم بهذا، قاله مقاتل؛ فنسخت آية السيف الإعراض و السّلام.