کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 110
لهم طيّباتهم، و هي وشيكة الانقطاع، و إنّا أخّرت لنا طيّباتنا».
و روى جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطّاب لحما معلّقا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟
فقلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال: أو كلّما اشتهيت اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا . و روي عن عمر أنه قيل له: لو أمرت أن نصنع لك طعاما ألين من هذا، فقال: إني سمعت الله عيّر أقواما فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا .
قوله تعالى: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ أي: تتكبّرون عن عبادة الله و الإيمان به.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 25]
قوله تعالى: وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال الخليل: الأحقاف: الرّمال العظام، و قال ابن قتيبة: واحد الأحقاف: حقف، و هو من الرّمل: ما أشرف من كثبانه و استطال و انحنى. و قال ابن جرير: هو ما استطال من الرّمل و لم يبلغ أن يكون جبلا. و اختلفوا في المكان الذي سمّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبل بالشّام، قاله ابن عباس، و الضّحّاك. و الثاني: أنه واد، ذكره عطيّة. و قال مجاهد: هي أرض. و حكى ابن جرير أنه واد بين عمان و مهرة. و قال ابن إسحاق: كانوا ينزلون ما بين عمان و حضر موت، و اليمن كلّه. و الثالث: أنّ الأحقاف: رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشّحر، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: قد مضت الرّسل من قبل هود و من بعده بإنذار أممها أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ و المعنى: لم يبعث رسول قبل هود و لا بعده إلّا بالأمر بعبادة الله وحده. و هذا كلام اعترض بين إنذار هود و كلامه لقومه، ثم عاد إلى كلام هود فقال إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ .
قوله تعالى: لِتَأْفِكَنا أي: لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك.
قوله تعالى: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو يعلم متى يأتيكم العذاب. فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني ما يوعدون في قوله: «بما تعدنا» عارِضاً أي: سحاب يعرض من ناحية السماء. قال ابن قتيبة:
العارض: السّحاب. قال المفسّرون: كان المطر قد حبس عن عاد، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فلمّا رأوها فرحوا و قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فقال لهم هود: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ، ثم بيّن ما هو فقال:
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، فنشأت الرّيح من تلك السّحابة، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي: تهلك كلّ شيء مرّت به من الناس و الدّوابّ و الأموال. قال عمرو بن ميمون: لقد كانت الرّيح تحتمل الظّعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة، فَأَصْبَحُوا يعني عادا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرأ عاصم، و حمزة: «لا يرى» برفع الياء «إلّا مساكنهم» برفع النون. و قرأ عليّ، و أبو عبد الرّحمن السّلميّ، و الحسن، و قتادة، و الجحدري: «لا
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 111
ترى» بتاء مضمومة. و قرأ أبو عمران، و ابن السّميفع: «لا ترى» بتاء مفتوحة «إلّا مسكنهم» على التوحيد. و هذا لأنّ السّكّان هلكوا، فقيل: أصبحوا و قد غطّتهم الرّيح بالرّمل فلا يرون.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 26 الى 28]
ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ في «إن» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى «لم» فتقديره: فيما لم نمكّنكم فيه، قاله ابن عباس، و ابن قتيبة. و قال الفرّاء: هي بمنزلة «ما» في الجحد، فتقدير الكلام: في الذي لم نمكّنكم فيه. و الثاني: أنها زائدة؛ و المعنى: فيما مكّنّاكم فيه، و حكاه ابن قتيبة أيضا.
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبّروا بها، و لم يتفكّروا فيما يدلّهم على التوحيد، قال المفسّرون: و المراد بالأفئدة: القلوب؛ و هذه الآلات لم تردّ عنهم عذاب الله.
ثم زاد كفّار مكّة في التّخويف، فقال: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى كديار عاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم من الأمم المهلكة وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ أي: بيّنّاها لَعَلَّهُمْ يعني أهل القرى يَرْجِعُونَ عن كفرهم. و هاهنا محذوف، تقديره: فما رجعوا عن كفرهم. فَلَوْ لا أي: فهلّا نَصَرَهُمُ أي: منعهم من عذاب الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني الأصنام التي تقرّبوا بعبادتها إلى الله على زعمهم؛ و هذا استفهام إنكار، معناه: لم ينصروهم بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب وَ ذلِكَ يعني دعاءهم الآلهة إِفْكُهُمْ أي: كذبهم، و قرأ سعد بن أبي وقّاص و ابن يعمر و أبو عمران: «و ذلك أفّكهم» بفتح الهمزة و قصرها و فتح الفاء و تشديدها و نصب الكاف. و قرأ أبيّ بن كعب و ابن عباس و أبو رزين و الشّعبي و أبو العالية و الجحدري: «أفكهم» بفتح الهمزة و قصرها و نصب الكاف و الفاء و تخفيفها. قال ابن جرير: أي: أضلّهم. و قال الزّجّاج: معناها: صرفهم عن الحقّ فجعلهم ضلّالا. و قرأ ابن مسعود و أبو المتوكّل: «آفكهم» بفتح الهمزة و مدّها و كسر الفاء و تخفيفها و رفع الكاف، أي: مضلّهم.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 32]
قوله تعالى: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ وبّخ الله عزّ و جلّ بهذه الآية كفّار قريش بما آمنت به
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 112
الجنّ. و في سبب صرفهم إلى النبيّ صلّى الله عليه و سلّم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشّهب. روى البخاريّ و مسلم في الصّحيحين من حديث ابن عباس قال:
(1268) انطلق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء، و أرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشّهب، قالوا: ما ذاك إلّا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمرّ النّفر الذين توجّهوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى الله عليه و سلّم و هو ب «نخلة» و هو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم و بين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «1» ، فأنزل الله على نبيّه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ «2» .
(1269) و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم على الجنّ، و لا رآهم، و إنّما أتوه و هو ب «نخلة» فسمعوا القرآن.
و الثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم و أمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة، منهم قتادة.
(1270) و في أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبيّ صلّى الله عليه و سلّم ليلة الجنّ؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة و نحن بمكّة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشّعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: «إنه أتاني داعي الجنّ، فذهبت أقرئهم القرآن»، فذهب بنا، فأرانا آثارهم و آثار نيرانهم.
(1271) و قال قتادة: ذكر لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال: «إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ، فأيّكم يتبعني؟» فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل (1268) صحيح. أخرجه البخاري 773 عن مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
و أخرجه البخاري 3320 و مسلم 449 و الترمذي 3320 و أحمد 1/ 252 و 270 و أبو يعلى 2369 من طرق عن أبي عوانة به. و أخرجه أحمد 1/ 274 و أبو يعلى 2502 من طريق أبي إسحاق عن سعيد به.
(1269) هو صدر الحديث المتقدم.
(1270) صحيح. أخرجه مسلم 450 عن محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى ثنا داود قال سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود.
و أخرجه أبو داود 85 مختصرا و الترمذي 18 و 4258 و ابن أبي شيبة 1/ 155 و ابن خزيمة 82 و أبو عوانة 1/ 219 و ابن حبان 1432 و البيهقي 1/ 108- 109 و في «دلائل النبوة» 2/ 229 و البغوي في «شرح السنة» 178 مختصرا من طرق عن داود بن أبي هند به.
(1271) هذا الخبر هو عند الطبري منجما 31315 من طريق سعيد عن قتادة مرسلا. و 31316 من طريق معمر عن قتادة و 31317 من طريق عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود و 31318 من طريق عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي عن ابن مسعود. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها من جهة الإسناد، لكن هي معارضة بالحديث الصحيح المتقدم.
(1) الجن: 1- 2.
(2) الجن: 1.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 113
نبيّ الله صلّى الله عليه و سلّم شعبا يقال له: «شعب الحجون»، و خطّ على عبد الله خطّا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبيّ الله صلّى الله عليه و سلّم، فلمّا رجع قلت: يا نبيّ الله، ما اللّغط الذي سمعت؟ قال:
«اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحقّ».
و الثالث: أنهم مرّوا به و هو يقرأ، فسمعوا القرآن.
(1272) فذكر بعض المفسّرين أنه لمّا يئس من أهل مكّة أن يجيبوه، خرج إلى الطّائف ليدعوهم إلى الإسلام- و قيل: ليلتمس نصرهم- و ذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرّ به نفر من أشراف جنّ نصيبين، فاستمعوا القرآن.
فعلى هذا القول و القول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى؛ و على القول الثاني:
علم بهم حين جاءوا. و في المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبيّ صلّى الله عليه و سلّم قولان: أحدهما: الحجون، و قد ذكرناه عن ابن مسعود، و به قال قتادة. و الثاني: بطن نخلة، و قد ذكرناه عن ابن عباس، و به قال مجاهد. و أمّا النّفر، فقال ابن قتيبة: يقال: إنّ النّفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. و للمفسّرين في عدد هؤلاء النّفر ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود و زرّ بن حبيش و مجاهد، و رواه عكرمة عن ابن عباس. و الثاني: تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. و الثالث: اثني عشر ألفا، روي عن عكرمة، و لا يصحّ، لأنّ النّفر لا يطلق على الكثير.
قوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: حضروا استماعه، و قُضِيَ يعني: فرغ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: محذّرين عذاب الله عزّ و جلّ إن لم يؤمنوا. و هل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان.
قال عطاء: كان دين أولئك الجنّ اليهودية، فلذلك قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسى .
قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى الله عليه و سلّم. و هذا يدلّ على أنّه أرسل إلى الجنّ و الإنس.
قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «من» هاهنا صلة.
قوله تعالى: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يعجز الله تعالى وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أُولئِكَ الذين لا يجيبون الرّسل فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
[سورة الأحقاف (46): الآيات 33 الى 35]
ثم احتجّ على إحياء الموتى بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا ... إلى آخر الآية. و الرّؤية هاهنا بمعنى العلم.
وَ لَمْ يَعْيَ أي: لم يعجز عن ذلك؛ يقال: عيّ فلان بأمره، إذا لم يهتد له و لم يقدر عليه. قال الزّجّاج: يقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه، و أعييت، إذا تعبت.
(1272) ضعيف. رواه ابن هشام في «السيرة» 2/ 21- 23 من طريق ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ... فذكره. و هذا مرسل، فهو ضعيف، و يزيد غير قوي.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 114
قوله تعالى: بِقادِرٍ قال أبو عبيدة و الأخفش: الباء زائدة مؤكّدة. و قال الفرّاء: العرب تدخل الباء مع الجحد، مثل قولك: ما أظنّك بقائم، و هذا قول الكسائيّ، و الزّجّاج: و قرأ يعقوب: «يقدر» بياء مفتوحة مكان الباء و سكون القاف و رفع الراء من غير ألف. و ما بعد هذا ظاهر إلى قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: ذوو الحزم و الصّبر؛ و فيهم عشرة أقوال «1» :
أحدها: أنهم نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمّد صلّى الله عليه و سلّم، رواه الضّحّاك عن ابن عباس، و به قال مجاهد، و قتادة، و عطاء الخراساني، و ابن السّائب. و الثاني: نوح، و هود، و إبراهيم، و محمّد صلّى الله عليه و سلّم، قاله أبو العالية الرّياحي. و الثالث: أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء، قاله الحسن.
و الرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، و الشّعبي. و الخامس: أنهم إبراهيم، و موسى، و داود، و سليمان، و عيسى، و محمّد صلّى الله عليه و سلّم، قاله السّدّيّ. و السادس: أنّ منهم إسماعيل، و يعقوب؛ و أيّوب، و ليس منهم آدم، و لا يونس، و لا سليمان، قاله ابن جريج. و السابع: أنهم الذين أمروا بالجهاد و القتال، قاله ابن السّائب، و حكي عن السّدّيّ. و الثامن: أنّهم جميع الرّسل، فإنّ الله لم يبعث رسولا إلّا كان من أولي العزم، قاله ابن زيد، و اختاره ابن الأنباري، و قال: «من» دخلت للتّجنيس لا للتّبعيض، كما تقول: قد رأيت الثياب من الخزّ و الجباب من القزّ. و التاسع: أنهم الأنبياء الثّمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام)، قاله الحسين بن الفضل. العاشر: أنهم جميع الأنبياء إلّا يونس، حكاه الثّعلبي.
قوله تعالى: وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني العذاب، قال بعض المفسّرين: كان النبيّ صلّى الله عليه و سلّم ضجر بعض الضّجر، و أحبّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصّبر.
قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي: من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لأنّ ما مضى كأنه لم يكن و إن كان طويلا. و قيل: لأنّ مقدار مكثهم في الدّنيا قليل في جنب مكثهم في عذاب الآخرة. و هاهنا تمّ الكلام. ثم قال: بَلاغٌ أي: هذا القرآن و ما فيه من البيان بلاغ عن الله إليكم. و في معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان: أحدهما: أنّ البلاغ بمعنى التبليغ. و الثاني: أنّ معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية و غنى.
و ذكر ابن جرير وجها آخر، و هو أنّ المعنى: لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، أي:
ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، ثمّ حذفت «ذلك لبث» اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام عليها. و قرأ أبو العالية، و أبو عمران: «بلّغ» بكسر اللام و تشديدها و سكون الغين من غير ألف.
قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ و قرأ أبو رزين و أبو المتوكّل و ابن محيصن: «يهلك» بفتح الياء و كسر اللام، أي عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن أمر الله عزّ و جلّ؟!.
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 11/ 302: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه و سلّم مثبته على المضي لما قلّده من عبء الرسالة، و ثقل أحمال النبوة صلّى الله عليه و سلّم، و آمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا من قومهم من المكاره، و نالهم فيه من الأذى و الشدائد (فاصبر) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كما صبر أولو العزم) على القيام بأمر الله و الانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم فيه من شدة. و قيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح و إبراهيم و موسى و من أشبههم.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 115
سورة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم
و فيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، و مقاتل، و حكي عن ابن عباس و قتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة و جعل ينظر إلى البيت، و هي قوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ «1» . و الثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك، و السّدّيّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَ صَدُّوا الناس عن الإيمان به، و هم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها، و لم يجعل لها ثوابا، فكأنّها لم تكن، و قد كانوا يطعمون الطّعام، و يصلون الأرحام، و يتصدّقون، و يفعلون ما يعتقدونه قربة. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم. وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ و قرأ ابن مسعود: «نزّل» بفتح النون و الزّاي و تشديدها. و قرأ أبيّ بن كعب و معاذ القارئ: «أنزل» بهمزة مضمومة مكسورة الزّاي. و قرأ أبو رزين و أبو الجوزاء و أبو عمران: «نزل» بفتح النون و الزّاي و تخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم، قاله قتادة، و المبرّد.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزّجّاج: معناه: الأمر ذلك، و جائز أن يكون: ذلك الإضلال، لاتّباعهم الباطل، و تلك الهداية و الكفّارات باتّباع المؤمنين الحقّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي:
كذلك يبيّن أمثال حسنات المؤمنين و سيّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،
(1) محمد: 13.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 116
و المعنى: فاقتلوهم «1» ، لأنّ الأغلب في موضع القتل ضرب العنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر؛ و إنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوثاق» اسم من الإيثاق؛ تقول: أوثقته إيثاقا و وثاقا، إذا شددت أسره لئلّا يفلت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إمّا أن تمنّوا، و إمّا أن تفادوا، و مثله: سقيا، و رعيا، و إنما هو سقيت و رعيت. و قال الزّجّاج: إمّا مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منّا، و إمّا أطلقتموهم بفداء.
فصل:
و هذه الآية محكمة عند عامّة العلماء. و ممّن ذهب إلى أنّ حكم المنّ و الفداء باق لم ينسخ ابن عمر، و مجاهد، و الحسن، و ابن سيرين، و أحمد، و الشّافعيّ. و ذهب قوم إلى نسخ المنّ و الفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ، و ممّن ذهب إلى هذا ابن جريح، و السّدّيّ، و أبو حنيفة و قد أشرنا إلى القولين في براءة.
قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. و قال مجاهد: حتى لا يكون دين إلّا دين الإسلام. و قال سعيد بن جبير: حتى يخرج المسيح. و قال الفرّاء:
حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. و في معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضع أهل الحرب سلاحهم؛ قال الأعشى:
و أعددت للحرب أوزارها :
رماحا طوالا و خيلا ذكورا
و أصل «الوزر» ما حملته، فسمّي السلاح «أوزارا» لأنه يحمل، هذا قول ابن قتيبة.
و الثاني: حتى تضع حربكم و قتالكم أوزار المشركين و قبائح أعمالهم بأن يسلموا و لا يعبدوا إلّا الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذكرنا وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَ لكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيثيب المؤمن و يكرمه بالشهادة، و يخزي الكافر بالقتل و العذاب. قوله تعالى: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، و حفص عن عاصم: «قتلوا» بضمّ القاف و كسر التاء؛ و الباقون: «قاتلوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:
(1) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 131: اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات و محكماتها، أمر الله سبحانه فيها بالقتال، و بين كيفيته كما في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، و إذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه و يتناول قتال غيره فعل ذلك به، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه، و المآل إعلاء كلمة الله تعالى، و ذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا، و علم أن ستبلغ إلى الإثخان و الغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن و الفداء و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: إنما لهم القتل و الاسترقاق، و هذه الآية عنده منسوخة. و الصحيح إحكامها، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة، و تحصيل المتقدم من المتأخر. و قد عضدت السنة ذلك كله، فروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه و سلّم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين، و قد هبط على النبيّ صلّى الله عليه و سلّم من أهل مكة قوم، فأخذهم النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و منّ عليهم. و قال الحسن و عطاء: المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، و ليس للإمام أن يقتل الأسير.