کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 118
[سورة محمد (47): آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صفتها، و قد شرحناه في الرّعد «1» . و «المتّقون» عند المفسّرين: الذين يتّقون الشّرك. و «الآسن» المتغيّر الرّيح، قاله أبو عبيدة، و الزّجّاج. و قال ابن قتيبة:
هو المتغيّر الرّيح و الطّعم، و «الآجن» نحوه. و قرأ ابن كثير: «غير أسن» بغير مدّ. و قد شرحنا قوله:
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ في الصّافّات «2» : قوله تعالى: مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: من عسل ليس فيه عكر و لا كدر كعسل أهل الدنيا. قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال الفرّاء: أراد: من كان في هذا النّعيم، كمن هو خالد في النّار؟!. قوله تعالى: ماءً حَمِيماً أي: حارّا شديد الحرارة. و «الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا.
[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 18]
قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين. و فيما يستمعون قولان: أحدهما: أنه سماع خطبة رسول صلّى الله عليه و سلّم يوم الجمعة. و الثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأمّا الذين أُوتُوا الْعِلْمَ ، فالمراد بهم: علماء الصحابة.
قوله تعالى: ما ذا قالَ آنِفاً قال الزّجّاج: أي: ماذا قال السّاعة، و هو من قولك: استأنفت الشيء: إذا ابتدأته، و روضة أنف: لم ترع، أي: لها أوّل يرعى؛ فالمعنى: ماذا قال في أوّل وقت يقرب منّا. و حدّثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال: «آنفا» مذ ساعة. و قرأ ابن كثير، في بعض الرّوايات عنه:
«أنفا» بالقصر، و هذه قراءة عكرمة، و حميد، و ابن محيصن. قال أبو عليّ: يجوز أن يكون ابن كثير توهّم، مثل حاذر و حذر، و فاكه و فكه. و في استفهامهم قولان: أحدهما: لأنهم لم يعقلوا ما يقول، و يدلّ عليه باقي الآية. و الثاني: أنهم قالوه استهزاء.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا فيهم قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، قاله الجمهور. و الثاني:
قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم و بمحمّد صلّى الله عليه و سلّم، فلمّا بعث محمّد صلّى الله عليه و سلّم آمنوا به، قاله عكرمة. و في الذي زادهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ و جلّ. و الثاني: قول الرّسول. و الثالث:
استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى، ذكرهنّ الزّجّاج. و في معنى الهدى قولان: أحدهما: أنه العلم.
و الثاني: البصيرة. و في قوله: وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السّدّيّ. و الثاني: اتّقاء المنسوخ و العمل بالنّاسخ، قاله عطيّة. و الثالث: أعطاهم التقوى مع الهدى، فاتّقوا معصيته خوفا من عقوبته، قاله أبو سليمان الدّمشقي. و يَنْظُرُونَ بمعنى ينتظرون، أَنْ تَأْتِيَهُمْ و قرأ أبيّ بن كعب، و أبو الأشهب، و حميد: «إن تأتهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. و الأشراط:
العلامات؛ قال أبو عبيدة: الأشراط: الأعلام، و إنما سمّي الشّرط- فيما ترى- لأنهم أعلموا أنفسهم.
قال المفسّرون: ظهور النبيّ صلّى الله عليه و سلّم من أشراط الساعة، و انشقاق القمر و الدّخان و غير ذلك. فَأَنَّى لَهُمْ
(1) الرعد: 35.
(2) الصافات: 46.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 119
أي: فمن أين لهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ ؟! قال قتادة: أنّى لهم أن يذّكّروا و يتوبوا إذا جاءت؟!
[سورة محمد (47): الآيات 19 الى 21]
قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال بعضهم: اثبت على علمك، و قال قوم: المراد بهذا الخطاب غيره؛ و قد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. و قيل: إنه كان يضيق صدره بما يقولون، فقيل له:
اعلم أنه لا كاشف لما بك إلّا الله.
فأمّا قوله: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإنه كان يستغفر في اليوم مائة مرّة، و أمر أن يستغفر للمؤمنين و المؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
متقلّبكم في الدنيا و مثواكم في الآخرة، و هو معنى قول ابن عباس. و الثاني: متقلّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، و مقامكم في القبور، قاله عكرمة. و الثالث: «متقلّبكم» بالنهار و «مثواكم» أي: مأواكم بالليل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ قال المفسّرون: سألوا ربّهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله، اشتياقا منهم إلى الوحي و حرصا على الجهاد، فقالوا: «لو لا» أي: هلّا؛ و كان أبو مالك الأشجعي يقول: «لا» هاهنا صلة، فالمعنى: لو أنزلت سورة، شوقا منهم إلى الزيادة في العلم، و رغبة في الثّواب و الأجر بالاستكثار من الفرائض. و في معنى «محكمة» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التي يذكر فيها القتال، قاله قتادة. و الثاني: أنها التي يذكر فيها الحلال و الحرام. و الثالث:
التي لا منسوخ فيها، حكاهما أبو سليمان الدّمشقي. و معنى قوله: وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: فرض فيها الجهاد. و في المراد بالمرض قولان: أحدهما: النّفاق، قاله ابن عباس، و الحسن، و مجاهد، و الجمهور. و الثاني: الشّكّ، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت، لأنهم يكرهون القتال، و يخافون إن قعدوا أن يتبيّن نفاقهم.
فَأَوْلى لَهُمْ قال الأصمعيّ: معنى قولهم في التّهديد: «أولى لك» أي: وليك و قاربك ما تكره.
و قال ابن قتيبة: هذا وعيد و تهديد، تقول للرجل- إذا أردت به سوءا، ففاتك- أولى لك، ثم ابتدأ، فقال: طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ... . و قال سيبويه و الخليل: المعنى: طاعة و قول معروف أمثل. و قال الفرّاء: الطاعة معروفة في كلام العرب، إذا قيل لهم: افعلوا كذلك، قالوا: سمع و طاعة، فوصف الله قولهم قبل أن تنزل السّورة أنهم يقولون: سمع و طاعة، فإذا نزل الأمر كرهوا. و أخبرني حبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: فَأَوْلى ، ثم قال: لَهُمْ أي: للذين آمنوا منهم (طاعة)، فصارت «أولى» وعيدا لمن كرهها، و استأنف الطاعة ب «لهم»؛ و الأول عندنا كلام
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 120
العرب، و هذا غير مردود، يعني حديث أبي صالح. و ذكر بعض المفسّرين أنّ الكلام متّصل بما قبله؛ و المعنى: فأولى لهم أن يطيعوا و أن يقولوا معروفا بالإجابة. قوله تعالى: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ قال الحسن: جدّ الأمر. و قال غيره: جدّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و أصحابه في الجهاد، و لزم فرض القتال، و صار الأمر معروفا عليه. و جواب «إذا» محذوف، تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا؛ يدلّ على المحذوف فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: في إيمانهم و جهادهم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من المعصية و الكراهة.
[سورة محمد (47): الآيات 22 الى 28]
قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ في المخاطب بهذا أربعة أقوال: أحدها: المنافقون، و هو الظّاهر. و الثاني: منافقو اليهود، قاله مقاتل. و الثالث: الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني. و الرابع:
قريش، حكاه جماعة منهم الماوردي. و في قوله: تَوَلَّيْتُمْ قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإعراض. فالمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن تعودوا إلى الجاهليّة يقتل بعضكم بعضا، و يغير بعضكم على بعض، ذكره جماعة من المفسّرين. و الثاني: أنه من الولاية لأمور الناس، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تفسدوا في الأرض»: بالجور و الظّلم. و قرأ يعقوب:
«و تقطعوا» بفتح التاء و الطاء و تخفيفها و سكون القاف، ثم ذمّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. و ما بعد هذا قد سبق «2» إلى قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «أم» بمعنى «بل»، و ذكر الأقفال استعارة، و المراد أنّ القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى. قال مجاهد: الرّان أيسر من الطّبع، و الطّبع أيسر من الإقفال، و الإقفال أشدّ ذلك كلّه. و قال خالد بن معدان: ما من آدميّ إلّا و له أربع أعين، عينان في رأسه لدنياه و ما يصلحه من معيشته، و عينان في قلبه لدينه و ما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، و إذا أراد به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: «أم على قلوب أقفالها».
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجعوا كفّارا؛ و فيهم قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، قاله ابن عباس، و السّدّيّ، و ابن زيد. و الثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة، و مقاتل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي: من بعد ما وضح لهم الحقّ. و من قال: هم اليهود، قال: من بعد أن تبيّن لهم
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 211: و هذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، و عن قطع الأرحام خصوصا، بل قل أمر تعالى بالإصلاح في الأرض و صلة الأرحام.
(2) النساء: 82.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 121
وصف رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و نعته في كتابهم. و سَوَّلَ بمعنى زيّن. وَ أَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو، و زيد عن يعقوب: «و أملي لهم» بضمّ الهمزة و كسر اللام و بعدها ياء مفتوحة. و قرأ يعقوب إلّا زيدا، و أبان عن عاصم كذلك، إلّا أنهما أسكنا الياء. و قرأ الباقون بفتح الهمزة و اللام. و قد سبق معنى الإملاء «1» .
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزّجّاج: المعنى: الأمر ذلك، أي: ذلك الإضلال بقولهم: لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ و في الكارهين قولان: أحدهما: أنهم المنافقون، فعلى هذا في معنى قوله:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ثلاثة أقوال: أحدها: في القعود عن نصرة محمّد صلّى الله عليه و سلّم، قاله السّدّيّ.
و الثاني: في الميل إليكم و المظاهرة على محمّد صلّى الله عليه و سلّم و الثالث: في الارتداد بعد الإيمان، حكاهما الماوردي. و الثاني: أنهم اليهود، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان: أحدهما: في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، قاله الضّحّاك. و الثاني: في كتم ما علموه من نبوّته، قاله ابن جريج.
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ حمزة، و الكسائيّ، و خلف، و حفص عن عاصم، و الوليد عن يعقوب: بكسر الألف على أنه مصدر أسررت: و قرأ الباقون: بفتحها على أنه جمع سرّ، و المعنى أنه يعلم ما بين اليهود و المنافقين من السّرّ.
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ؟ أي: فكيف يكون حالهم حينئذ؟ و قد بيّنّا في الأنفال «2» معنى قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ .
قوله تعالى: وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ أي: كرهوا ما فيه الرّضوان، و هو الإيمان و الطّاعة.
[سورة محمد (47): الآيات 29 الى 34]
قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال الفرّاء: أي لن يبدي الله عداوتهم و بغضهم لمحمّد صلّى الله عليه و سلّم. و قال الزّجّاج: أي: لن يبدي عداوتهم لرسوله صلّى الله عليه و سلّم و يظهره على نفاقهم. وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي: لعرّفناكهم، تقول: قد أريتك هذا الأمر، أي: قد عرّفتك إيّاه، المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، و هي السّيماء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: بتلك العلامة وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: في فحوى القول، فدلّ بهذا على أنّ قول القائل و فعله يدلّ على نيّته. و قول الناس: قد لحن فلان، تأويله: قد أخذ في ناحية عن الصّواب، و عدل عن الصّواب إليها. و قول الشاعر:
منطق صائب و تلحن أحيانا
، و خير الحديث ما كان لحنا «3»
(1) آل عمران: 178، و الأعراف: 183.
(2) الأنفال: 50.
(3) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي و هو في «اللسان»- لحن- قال في «اللسان»: و معنى صائب: قاصد الصواب و إن لم يصب، و تلحن أحيانا أي تصيب و تفطن قال: فصار تفسير اللحن في البيت على ثلاثة أوجه:
الفطنة و الفهم، و التعرض، و الخطأ في الإعراب.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 122
تأويله: خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كلّ أحد، إنّما يعرف قولها في أنحاء قولها.
قال المفسّرون: و لتعرفنّهم في فحوى الكلام و معناه و مقصده، فإنهم يتعرّضون بتهجين أمرك و الاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير: ثم عرّفه الله إيّاهم.
قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: و لنعاملنّكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ العلم الذي هو علم وجود، و به يقع الجزاء؛ و قد شرحنا هذا في العنكبوت «1» .
قوله تعالى: وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي: نظهرها و نكشفها بإباء من يأبى القتال و لا يصبر على الجهاد.
و قرأ أبو بكر عن عاصم: «و ليبلونّكم» بالياء «حتى يعلم» بالياء «و يبلو» بالياء فيهنّ. و قرأ معاذ القارئ، و أيّوب السّختياني: «أخياركم» بالياء جمع «خير».
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها في المطعمين يوم بدر، قاله ابن عباس. و الثاني: أنها نزلت في الحارث بن سويد، و وحوح الأنصاري، أسلما ثم ارتدّا، فتاب الحارث و رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، و أبى صاحبه أن يرجع حتى مات، قاله السّدّيّ «2» . و الثالث: أنها في اليهود، قاله مقاتل. و الرابع: أنها في قريظة و النّضير، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال: أحدها: المعاصي و الكبائر، قاله الحسن. و الثاني: الشّكّ و النّفاق، قاله عطاء. و الثالث: الرّياء و السّمعة، قاله ابن السّائب. و الرابع: بالمن.
(1273) و ذلك أنّ قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فقالوا: أتيناك طائعين، فلنا عليك حقّ، فنزلت هذه الآية، و نزل قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «3» ، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى: و هذا يدلّ على أنّ كلّ من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها، و هذا على ظاهره في الحجّ، فأمّا في الصّلاة و الصيام، فهو على سبيل الاستحباب «4» .
[سورة محمد (47): الآيات 35 الى 38]
(1273) عزاه المصنف لمقاتل، و هو متروك متهم بالكذب.
(1) العنكبوت: 3.
(2) عزاه المصنف للسدي، و هذا مرسل، فهو واه.
(3) الحجرات: 17.
(4) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 4/ 133: اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة، ثم أراد تركها، قال الشافعي: له ذلك. و قال مالك و أبو حنيفة: ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له، و قال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية. قلنا: إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل، فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. و لا تكون عبادة ببعض ركعة و لا ببعض يوم في صوم، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال: إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع، و إن قال: إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام.
و ذلك مستقصى في مسائل الخلاف.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 123
قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: فلا تضعفوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و ابن عامر، و الكسائيّ، و حفص عن عاصم: «إلى السّلم» بفتح السين؛ و قرأ حمزة، و أبو بكر عن عاصم: بكسر السين، و المعنى: لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. و في هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين، و دلالة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه و سلّم لم يدخل مكّة صلحا، لأنه نهاه عن الصّلح. قوله تعالى: وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: أنتم أعزّ منهم، و الحجّة لكم، و آخر الأمر لكم و إن غلبوكم في بعض الأوقات وَ اللَّهُ مَعَكُمْ بالعون و النّصرة وَ لَنْ يَتِرَكُمْ قال ابن قتيبة: أي لن ينقصكم و لن يظلمكم، يقال: وترتني حقّي، أي: بخستنيه. قال المفسّرون: المعنى: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.
قوله تعالى: وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لن يسألكموها كلّها.
قوله تعالى: فَيُحْفِكُمْ قال الفرّاء: يجهدكم. و قال ابن قتيبة: يلحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم تَبْخَلُوا ، يقال: أحفاني بالمسألة و ألحف: إذا ألحّ. و قال السّدّيّ: إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا. وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ و قرأ سعد بن أبي وقّاص، و ابن عباس، و ابن يعمر: «و يخرج» بياء مرفوعة و فتح الراء «أضغانكم» بالرفع. و قرأ أبيّ بن كعب، و أبو رزين، و عكرمة، و ابن السّميفع، و ابن محيصن، و الجحدري: «و تخرج» بتاء مفتوحة و رفع الراء «أضغانكم» بالرفع. و قرأ ابن مسعود، و الوليد عن يعقوب: «و نخرج» بنون مرفوعة و كسر الراء «أضغانكم» بنصب النون، أي: يظهر بغضكم و عداوتكم للّه و لرسوله صلّى الله عليه و سلّم؛ و لكنه فرض عليكم يسيرا. و فيمن يضاف إليه هذا الإخراج وجهان:
أحدهما: إلى الله عزّ و جلّ. و الثاني: البخل، حكاهما الفرّاء. و قد زعم قوم أنّ هذه الآية منسوخة بآية الزّكاة، و ليس بصحيح لأنّا قد بيّنّا أنّ معنى الآية: إن يسألكم جميع أموالكم، و الزّكاة لا تنافي ذلك.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ما فرض عليكم في أموالكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فرض عليه من الزّكاة وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: على نفسه بما ينفعها في الآخرة وَ اللَّهُ الْغَنِيُ عنكم و عن أموالكم وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه و إلى ما عنده من الخير و الرّحمة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أطوع له منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل خيرا منكم. و في هؤلاء القوم ثمانية أقوال:
أحدها: أنهم العجم، قاله الحسن، و فيه حديث يرويه أبو هريرة قال:
(1274) لمّا نزلت: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، (1274) عجزه صحيح، و تأويل الآية بأهل فارس لا يصح، فهو حديث ضعيف، فيه مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» 3895. و أخرجه الطبري 31443 و ابن حبان 7123 و أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3 من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. و أخرجه الطبري 31442 و 3144 و أبو نعيم 1/ 2 و 3 من طرق عن مسلم بن خالد به. و أخرجه الترمذي 3261 و أبو نعيم 1/ 3 و الواحدي 4/ 131 من
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 124
فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إذا تولّينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يده على منكب سلمان، فقال: «هذا و قومه، و الذي نفسي بيده! لو أنّ الدّين معلّق بالثّريّا لتناوله رجال من فارس».
و الثاني: فارس و الرّوم، قاله عكرمة. و الثالث: من يشاء من جميع الناس، قاله مجاهد. و الرابع:
يأتي بخلق جديد غيركم. و هو معنى قول قتادة. و الخامس: كندة و النّخع، قاله ابن السّائب. و السادس:
أهل اليمن، قاله راشد بن سعد، و عبد الرّحمن بن جبير، و شريح بن عبيد. و السابع: الأنصار، قاله مقاتل. و الثامن: أنهم الملائكة، حكاه الزّجّاج و قال: فيه بعد لأنه لا يقال للملائكة «قوم»؛ إنّما يقال ذلك للآدميّين، قال: و قد قيل: إن تولّى أهل مكّة استبدل الله بهم أهل المدينة، و هذا معنى ما ذكرنا عن مقاتل.
طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن العلاء به و عبد الله بن جعفر، ضعيف متروك. و أخرجه البيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به، و الظاهر أنه منقطع بين إسماعيل و سليمان بدليل الواسطة بينهما. و أخرجه الترمذي 3260 من طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال الترمذي: هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت: هو ضعيف فيه من لم يسم، و لعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. و أخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» 1/ 3- 4 من طريق عبد الله بن جعفر و من طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. و عبد الله بن جعفر ضعيف، و المدني أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم. و عجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم 2546 ح 230 و أحمد 2/ 309 و أبو نعيم 1/ 4 من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. و يشهد لعجزه حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري 4798 و مسلم 2546 ح 231 و النسائي في «فضائل الصحابة» 173 و أحمد 2/ 417 و ابن حبان 7308 من طرق عن عبد العزيز الدارودي به. و رواية البخاري لعبد العزيز إنما هي متابعة، فقد تابعه سليمان بن بلال، و أخرجه البخاري 4897 و الترمذي 3310 و 3933 من طريق ثور بن يزيد به. و أخرجه الترمذي 3261 و ابن حبان 7123 و البيهقي في «الدلائل» 6/ 334 من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به.
و لفظ البخاري في الرواية 4898 «لناله رجال من هؤلاء». و لفظ البخاري في الرواية 4897 «عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه و سلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم قال: