کتابخانه تفاسیر
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 346
سورة الجنّ
كلّها مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عزّ و جلّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) «1» و بيّنّا هنالك سبب استماعهم. و معنى «النّفر» و عددهم، فأمّا قوله عزّ و جلّ: قُرْآناً عَجَباً فمعناه: بليغا يعجب منه لبلاغته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصّواب من التوحيد و الإيمان وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أي: لن نعدل بربّنا أحدا من خلقه. و قيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشّرك باللّه.
قوله عزّ و جلّ: وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلف القرّاء في اثنتي عشرة همزة في هذه السّورة، و هي:
«و أنه تعالى»، «و أنه كان يقول»، «و أنّا ظننا»، «و أنه كان رجال»، «و أنهم ظنوا»، «و أنّا لمسنا»، «و أنّا كنّا»، «و أنّا لا ندري»، «و أنّا منّا»، «و أنّا ظننا أن لن نعجز اللّه»، «و أنّا لمّا سمعنا»، «و أنّا منّا»، ففتح
(1) الأحقاف: 29.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 347
الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، و حمزة، و الكسائيّ، و خلف، و حفص عن عاصم، و وافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «و أنه تعالى»، «و أنه كان يقول»، «و أنه كان رجال»، و كسر الباقيات. و قرأ الباقون بكسرهن. و قال الزجاج: و الذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه:
«أن» بالفتح، و ما كان من قول الجن قيل: «إن» بالكسر، معطوف على قوله عزّ و جلّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً و على هذا يكون المعنى: و قالوا: إنه تعالى جدّ ربّنا، و قالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النّحويين: يعني الفرّاء، أنه معطوف على الهاء في قوله عزّ و جلّ: فَآمَنَّا بِهِ و بأنه تعالى جدّ ربّنا. و كذلك ما بعد هذا. و هذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلّا بإظهار الخافض. و لكن وجهه أن يكون محمولا على معنى آمنّا به، فيكون المعنى: و صدّقنا أنه تعالى جدّ ربّنا.
و للمفسّرين في معنى تَعالى جَدُّ رَبِّنا سبعة أقوال: أحدها: قدرة ربّنا، قاله ابن عباس. و الثاني:
غنى ربّنا، قاله الحسن. و الثالث: جلال ربّنا، قاله مجاهد، و عكرمة. و الرابع: عظمة ربّنا، قاله قتادة.
و الخامس: أمر ربّنا، قاله السّدّيّ. و السادس: ارتفاع ذكره و عظمته، قاله مقاتل. و السابع: ملك ربّنا و ثناؤه و سلطانه، قاله أبو عبيدة.
قوله: وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا فيه قولان: أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، و قتادة. و الثاني: أنه كفّارهم، قاله مقاتل. و «الشّطط»: الجور، و الكذب، و هو: وصفه بالشريك، و الولد، ثم قالت الجنّ:
وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً و قرأ يعقوب: «أن لن تقوّل» بفتح القاف، و تشديد الواو.
و المعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: للّه صاحبة و ولد، و ما ظننّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ و ذلك أنّ الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح.
(1492) و منه حديث كردم بن أبي السّائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، و ذلك أول ما ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بمكّة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه و سلم وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية.
(1492) ضعيف جدا. أخرجه العقيلي 1/ 101 و ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، و الواحدي في «الوسيط» 4/ 364 من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، و إسناده ضعيف جدا، فيه عبد الرحمن بن إسحاق، و هو ضعيف متروك، و أبوه إسحاق بن الحارث، ضعفه أحمد و غيره، و لم يرو عنه سوى ابنه. و قال ابن حبان: منكر الحديث، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. و أخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 191- 192 و أبو الشيخ في «العظمة» 1122 من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. و ذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 129 و قال: و فيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، و هو ضعيف. و الظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق، و قد ضعفه أحمد و غيره كما نقل الذهبي في «الميزان» 1/ 189. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، و المتن منكر.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 348
و في قوله عزّ و جلّ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قولان: أحدهما: أنّ الإنس زادوا الجنّ رهقا لتعوّذهم بهم، قاله مقاتل. و المعنى: أنهم لمّا استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجنّ و الإنس. و الثاني: أنّ الجنّ زادوا الإنس رهقا، ذكره الزّجّاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سفها و طغيانا. و قال ابن قتيبة: زادوهم ضلالا. و أصل الرّهق: العيب. و منه يقال: فلان يرهق في دينه.
قوله عزّ و جلّ: وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا بقول اللّه عزّ و جلّ: ظنّ الجنّ كَما ظَنَنْتُمْ أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. و قالت الجنّ: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي: أتيناها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً و هم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السّمع وَ شُهُباً جمع شهاب، و هو النّجم المضيء وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: كنّا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلم رمينا بالشّهب. و معنى «رصدا» قد أرصد له المرمى به وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمّد إليهم، فيكذّبونه، فيهلكون أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً و هو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل.
و الثاني: أنه قول كفرة الجنّ، و المعنى: لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض بحدوث الرّجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفرّاء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ و هم المؤمنون المخلصون وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: المشركون. و الثاني: أنهم أهل الشرّ دون الشّرك كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً قال الفرّاء: أي: فرقا مختلفة أهواؤنا. و قال أبو عبيدة: واحد الطّرائق: طريقة، و واحد القدد: قدّة، أي: ضروبا و أجناسا و مللا. قال الحسن، و السّدّيّ: الجنّ مثلكم، فمنهم قدريّة، و مرجئة، و رافضة.
قوله عزّ و جلّ: وَ أَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نفوته إذا أراد بنا أمرا وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي: أنه يدركنا حيث كنّا وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى و هو القرآن الذي أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و سلم آمَنَّا بِهِ أي: صدّقنا أنه من عند اللّه عزّ و جلّ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصا من الثواب وَ لا رَهَقاً أي: و لا ظلما و مكروها يغشاه وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ قال مقاتل: المخلصون للّه وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ و هم المردة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا عدل، إذا جاور، و أقسط: إذا عدل. قال المفسّرون: هم الكافرون فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: توخّوه، و أمّوه. ثم انقطع كلام الجنّ. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزّ و جلّ: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني: طريقة الهدى، و هذا قول ابن عباس، و سعيد بن المسيّب، و الحسن، و مجاهد و قتادة و السدّي، و اختاره الزجاج، قال: لأن الطريقة هاهنا بالألف و اللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى: و ذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر، قال محمّد بن كعب، و الرّبيع، و الفرّاء، و ابن قتيبة، و ابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ أي: لنختبرهم فِيهِ فننظر كيف شكرهم. و الماء الغدق: الكثير. و إنما ذكر الماء مثلا، لأنّ الخير كلّه يكون بالمطر، فأقيم مقامه إذ كان سببه.
و على الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفّارا كلّهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة و استدراجا، ثم نعذبهم على ذلك. و قيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح، قوله:
وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني: القرآن يَسْلُكْهُ قرأ ابن كثير، و نافع، و أبو عمرو، و ابن عامر «نسلكه» بالنون. و قرأ عاصم، و حمزة، و الكسائيّ يسلكه بالياء. عَذاباً صَعَداً قال ابن قتيبة: أي:
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 349
عذابا شاقا. يقال: تصعّدني الأمر: إذا شقّ عليّ. و منه قول عمر: ما تصعّدني شيء ما تصعّدتني خطبة النّكاح. و نرى أصل هذا كلّه من الصّعود، لأنه شاقّ، فكني به عن المشقّات. و جاء في التفسير أنه جبل في النار يكلّف صعوده، و سنذكره عند قوله عزّ و جلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «1» إن شاء اللّه تعالى.
[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 28]
قوله عزّ و جلّ: وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود و النّصارى إذا دخلوا كنائسهم و بيعهم أشركوا، فأمر اللّه عزّ و جلّ المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. و الثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، و ابن الأنباري، و ذكره الفرّاء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. و الثالث:
أنّ المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أنّ الأرض كلّها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. و الرابع: أنّ المساجد: السجود، فإنها جمع مسجد. يقال:
سجدت سجودا، و مسجدا، كما يقال: ضربت في الأرض ضربا، و مضربا، ثم يجمع، فيقال:
المساجد، و المضارب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مسجدا، بفتح الجيم. و المعنى:
أخلصوا له، و لا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزّ و جلّ: وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمّدا صلّى اللّه عليه و سلم يَدْعُوهُ أي: يعبده. و كان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف «2» كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قرأ الأكثرون: بكسر اللام، و فتح الباء. و قرأ هشام عن ابن عامر، و ابن محيصن «لبدا» بضمّ اللام، و فتح الباء مع تخفيفها. قال الفرّاء: و معنى القراءتين واحد. يقال: لبدة، و لبدة. قال الزّجّاج: و المعنى: كادوا يركب بعضهم بعضا. و منه اشتقاق اللّبد الذي يفترش. و كلّ شيء أضفته إلى شيء فقد لبّدته. و قرأ قوم منهم الحسن، و الجحدريّ: «لبّدا» بضمّ اللام مع تشديد الباء. قال الفرّاء:
فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال، كقولك: ركّعا و ركوعا، و سجّدا و سجودا. و قال الزّجّاج: هو جمع لا بد، مثل راكع، و ركّع.
و في معنى الآية ثلاثة أقوال «3» : أحدها: أنه من إخبار اللّه تعالى عن الجنّ يحكي حالهم.
(1) المدثر: 17.
(2) الأحقاف: 29.
(3) قال الطبري رحمه اللّه في «تفسيره» 12/ 273: و أولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من اللّه عن أن رسوله محمدا صلّى اللّه عليه و سلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور اللّه.
و وافقه ابن كثير رحمه اللّه في «تفسيره» 4/ 510: و اختيار ابن جرير، و هو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما آذوه و خالفوه و كذبوه و تظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ و اجتمعوا على عداوته: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، و أستجير به و أتوكل عليه.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 350
و المعنى: أنه لمّا قام يصلي كاد الجنّ لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضا، حرصا على سماع القرآن، رواه عطيّة عن ابن عباس. و الثاني: أنه من قول الجنّ لقومهم لمّا رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ائتمامهم به في الركوع، و السجود، فكأنهم قالوا: لمّا قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبدا. و هذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. و الثالث: أنّ المعنى: لمّا قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالدّعوة تلبّدت الإنس و الجنّ، و تظاهروا عليه، ليبطلوا الحقّ الذي جاء به، قاله الحسن، و قتادة، و ابن زيد.
قوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي قرأ عاصم، و حمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. و قرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم. قال مقاتل: إنّ كفّار مكّة قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية «1» .
قوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: لا أدفعه عنكم وَ لا أسوق إليكم رَشَداً أي: خيرا، أي: إنّ اللّه تعالى يملك ذلك، لا أنا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، و ذلك أنهم قالوا له: اترك ما تدعو إليه و نحن نجيرك وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قد بيّنّاه في الكهف «2» قوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فيه وجهان، ذكرهما الفرّاء: أحدهما: أنه استثناء من قوله عزّ و جلّ: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً إلا أن أبلغكم. و الثاني: لن يجيرني من اللّه أحد إن لم أبلّغ رسالته. و بالأول قال ابن السّائب. و بالثاني قال مقاتل. و قال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب اللّه إلّا أن أبلّغ عن اللّه ما أرسلت به، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بترك الإيمان و التوحيد.
قوله عزّ و جلّ: حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني: الكفار ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا، و هو القتل، و في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً أي: جندا و نصيرا، أهم، أم المؤمنون؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية و بعدا.
و ذلك لأنّ علم الغيب للّه وحده فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحدا من الناس إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لأنّ من الدليل على صدق الرّسل إخبارهم بالغيب. و المعنى: أنّ من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. و في هذا دليل على أنّ من زعم أن النجوم تدلّه على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزّ و جلّ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي:
من بين يدي الرسول وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي: يجعل له حفظة من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، فيتكلّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم الناس. و قال الزّجّاج يسلك
(1) عزاه المصنف لمقاتل، و هو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
(2) الكهف: 27.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 351
من بين يدي الوحي. و الرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.
قوله عزّ و جلّ: لِيَعْلَمَ فيه خمسة أقوال «1» : أحدها: ليعلم محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أنّ جبرائيل قد بلّغ إليه، قاله ابن جبير. و الثاني: ليعلم محمّد صلّى اللّه عليه و سلم أنّ الرسل قبله قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ و أنّ اللّه قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. و الثالث: ليعلم مكذّبو الرسل أنّ الرسل قد أبلغوا رسالات ربّهم، قاله مجاهد.
و الرابع: ليعلم اللّه عزّ و جلّ ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب، فهو كقوله عزّ و جلّ: وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ* «2» قاله ابن قتيبة. و الخامس: ليعلم النبيّ أنّ الرّسل قد أتته، و لم تصلّ إلى غيره، ذكره الزّجّاج. و قرأ رويس عن يعقوب «ليعلم» بضمّ الياء على ما لم يسمّ فاعله. و قال ابن قتيبة: و يقرأ «لتعلم» بالتاء، يريد: لتعلم الجنّ أنّ الرّسل قد بلّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع، قوله:
وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: علم اللّه ما عند الرّسل وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يفته شيء حتى الذّرّ و الخردل.
(1) قال الطبري رحمه اللّه في «تفسيره» 12/ 277: و أولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم.
(2) آل عمران: 142.
زاد المسير فى علم التفسير، ج4، ص: 352
سورة المزّمّل
و هي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلّا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله عزّ و جلّ وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ و التي بعدها «1» . و قال ابن يسار، و مقاتل: فيها آية مدنيّة، و هي قوله عزّ و جلّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ «2» .
[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ و قرأ أبيّ بن كعب، و أبو العالية، و أبو مجلز، و أبو عمران، و الأعمش «المتزمّل» بإظهار التاء. و قرأ عكرمة، و ابن يعمر: «المزمل» بحذف التاء، و تخفيف الزاي.
قال اللغويون: «المزّمّل» الملتفّ في ثيابه، و أصله «المتزمّل» فأدغمت التاء في الزاي، فثقّلت. و كلّ من التفّ بثوبه فقد تزمّل. قال الزّجّاج: و إنما أدغمت فيها لقربها منها.
(1493) قال المفسّرون: و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يتزمّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به. و قال السّدّيّ: كان قد تزمّل للنّوم. و قال مقاتل: خرج من البيت و قد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا (1493) صحيح. أخرجه البخاري 4956 و مسلم 160 و الواحدي في «أسباب النزول» 5 من حديث عائشة مطوّلا، و تقدّم في «الجزء الأول من هذا الكتاب». و انظر «تفسير الشوكاني» 2598 بتخريجنا.
(1) المزمل: 10- 11.