کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 40
خلاف فى أن للذكر مثل حظ الأنثيين، و لا فى أن الميراث يكون للأقرب فالأقرب، و لكن الاختلاف فى معنى القرابة أحيانا، و أحيانا نجد النص القرآنى يقرب، و لا يبعد.
و مسلكنا فى آيات الأحكام أن نذكر الأحكام الثابتة بالقرآن بإجمال مستعينين بالسنة القولية و العملية فى العبادات، و فى الأنكحة، و غيرها.
نذكر الأحكام بإجمال تفسير الآيات القرآنية مبينين ما يحتاج إلى بيان بالسنة النبوية، مرجحين ما يتفق مع السنة، أو ما نراه أقرب إلى النص، كمعنى قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... (228) [البقرة] فإنا فى هذه نأخذ بما يفهم من السنة.
و هكذا لا نتعرض للخلاف الفقهى إلا فى أضيق دائرة، و ما يوجبه علينا ذكر معانى القرآن واضحة نيرة كشأنها دائما، و لا نخضع هذه المعانى لآراء الفقهاء، إنما نخضع آراء الفقهاء لها؛ لأنها الحكم الذى لا ترد حكومته، و القرآن هو الحاكم بالصحة لآراء الفقهاء و ليس محكوما بها.
النسخ فى القرآن الكريم:
لا بد قبل أن نبدي رأينا فى النسخ في القرآن الكريم أن نقرر حقائق ثلاثا لا بد من بيانها أو الإشارة إليها، نكتفى هنا بالإشارة إليها:
الحقيقة الأولى: أن القرآن الكريم نسخ من الشرائع السابقة التى أتى بها الوحى و هى الشرائع السماوية، فما بقي منها أبقاه القرآن الكريم، و نص على بقائها كبعض أحكام القصاص، و كتحريم الربا، و كتحريم المحرمات و غير ذلك، و كان النص عليه فى القرآن الكريم دليلا على بقائه من غير نسخ.
الحقيقة الثانية: أن النسخ جرى فى السنة، ذلك أن السنة كما تتولى بيان الأحكام تتولى علاج المسائل الوقتية، و يختلف الحكم الوقتى فى بعض الأوقات عنه فى بعضها؛ و لذا جرى النسخ فى السنة.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 41
الحقيقة الثالثة: أن القرآن الكريم سجل هذه الشريعة الخالدة، بل سجل الشرائع السماوية، و معجزات النبيين جميعا، و ما نسخ منها أشار إلى نسخه، و ما بقي منها صرح ببقائه، كالقصاص، و خصوصا فى الأطراف، كما جاء فى قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) [المائدة].
و لذا نحن نرى ما رآه من قبل أبو مسلم الأصفهانى، و هو أنه لا نسخ فى القرآن قط؛ لأنه شريعة الله تعالى الباقية إلى يوم القيامة؛ و لأن النسخ لم يثبت بنص عن النبى صلى اللّه عليه و سلم، و أنه لم يصرح النبى صلى اللّه عليه و سلم بنسخ آية من القرآن، و ما جاء من عبارات النسخ في القرآن إنما في نسخ المعجزات الحسية بالقرآن الكريم، و قد بينا ذلك فى موضعه من معانى الذكر الحكيم.
و لأن النسخ يقتضى أن تكون آيتان فى القرآن موضعهما واحد، و إحداهما مثبتة و الأخرى نافية، و لا يمكن الجمع بين النفى و الإثبات، و ما ادّعى النسخ فيه التوفيق بينهما سهل ممكن، و ما أمكن التوفيق فلا نسخ، و قد اشتركنا فى كتابة التفسير مع بعض العلماء و لم نجد آيتين متعارضتين لم يمكن التوفيق بينهما، و قد طبع ذلك التفسير و سمى ب «المنتخب» طبعته إحدى الجامعات الإسلامية، و الله الهادى إلى سواء السبيل.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 43
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
ابتدأ كلام الله تعالى ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و هى مقدمة لتلاوة كل سورة من سور القرآن، و روى عن بعض الصحابة: «إننا كنا نعرف نهاية سورة و ابتداء سورة بنزول قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» و روى عن جعفر الصادق بن محمد رضى الله عنهما، أنه قال: «البسملة تيجان السور»، و قد قال عبد الله بن المبارك: «إنها جزء من كل سورة؛ و لذلك يجب ابتداء ال سورة بقراءتها.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 44
على أنها جزء منها»، و قال الشافعى: «إنها جزء من الفاتحة»، و تردّد فى عدها جزءا من كل سورة، و لكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة، و هى لازمة للفصل بين سورة و سورة من السور التى ابتدأت بذكرها.
و لأن ثمة كلاما فى كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال، و عدها الأكثرون جزءا منها- لم تكن مبتدأة بالبسملة، و ينسب إلى الإمام مالك رضى الله تبارك و تعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها، و مؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة «آمين» فى آخر الفاتحة؛ إذ إن الفاتحة ضراعة إلى الله تعالى، فناسب أن تذكر بعدها «آمين»، و عدّ القرطبى فى كتابه «أحكام القرآن» أن فى مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح، و ذكر أن القرآن كله متواتر، و البسملة ليست متواترة، فلا تعد من القرآن، و لكن تكون علامة على انتهاء سورة، و ابتداء سورة أخرى.
و مع أنه قرر ذلك- يقرر أن مالكا يرى أنها يبتدأ بها فى الفرض و النافلة، كما رواه ابن نافع، و فى الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن، و ذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن، فلم تثبت بحديث آحاد، بل ثبتت بالقرآن نفسه، فقد كتبت فى مصحف عثمان و ما قبله، و لا تواتر أبلغ من هذا، و ما كان للشيخين أبى بكر و عمر، و ذى النورين و جميع الصحابة أن يدوّنوا فى المصحف ما ليس من القرآن، و «آمين» هى التى أمر النبى صلى اللّه عليه و سلم بالنطق بها فى عقب قراءة الفاتحة.
إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضى ذكر ذلك الخبر، و رواته، و مقدار قوتهم، وضعفهم، و عددهم، و ليس كذلك، بل هى ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة و سورة.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 45
و ال سورة التى لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه ال سورة بالتواتر، فهى متواترة بالذكر فى كل السور، و متواترة بالسلب فى سورة واحدة.
و لهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو فى ذاته موضع نظر، و قد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه و سلم، فيقول القرطبى عفا الله عنه: «فى مسجد النبى صلى اللّه عليه و سلم بالمدينة انقرضت عليه العصور و مرت عليه الأزمنة و الدهور من لدن رسول الله صلى اللّه عليه و سلم إلى زمان مالك، و لم يقرأ أحد فيه قط بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اتباعا لسنة رسول الله صلى اللّه عليه و سلم.
و إن لنا أن نرد ذلك القول، و نأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، و عليا، و ابن مسعود، و عمار بن ياسر، كانوا يقرأونها و يسرون بها.
و روى هو أيضا عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه كان يسر بها و لا يجهر، فقد روى عن أنس ابن مالك رضى الله عنه أنه قال: «كان يصلى بنا رسول الله صلى اللّه عليه و سلم فلم يسمعنا قراءة «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* «1» و روى عنه أيضا: صليت خلف رسول الله صلى اللّه عليه و سلم، و خلف أبى بكر، و عمر، فلم أسمع أحدا منهم يجهر ب «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* «2» .
فالأمر أمر الجهر بها، لا أمر تركها، و فرق كبير بين الترك لها أصلا، و ترك الجهر بها.
و بذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، اتباعا للسنة إن كانت سنة، و ذلك لأنهم قرأوها خفية و فى سر، آخذين ذلك من سنة النبى صلى اللّه عليه و سلم.
(1) رواه النسائي: كتاب الافتتاح- باب: ترك الجهر ب «بسم الله الرحمن الرحيم» (906) و بنحوه عند البخاري (743)، و مسلم (399)، و الترمذي (246)، و أبو داود (782)، و ابن ماجه (813)، و أحمد (11580).
(2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي: كتاب الافتتاح (907)، راجع التخريج السابق.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 46
و من كتاب اللّه عز و جل: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) [الأعراف].
و ننته من هذا إلى أن البسملة جزء من القرآن الكريم، و هى فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة و الابتداء ب سورة أخرى.
و إن الشافعى يعدها جزءا من الفاتحة، و مهما يكن فإنه لا بد من البدء بقراءتها، و غيره يوجب البدء بها لا على أنها جزء من الفاتحة، و لكن على أنها قرآن يبدأ به فى أول كل سورة.
و الأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لا جهرا أو تضرعا فى خفية، و دون الجهر من القول، و الله سبحانه و تعالى أعلم.
التعوذ فى ابتداء التلاوة: