کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 51
عنهم: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) [لقمان] و كان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، و جدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السموات و الأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) [النمل]
و نرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه و تعالى، و أنه الخالق لكل شىء و ما كانوا يطلقون كلمة «الله» إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد و الإبداع، و ما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، و هذا عرف لغتهم و دلالتها.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذان و صفان لله تعالى قرنا فى البسملة، و كلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى فى ذاته و على خلقه، و الرحمة رقة فى القلب، و الله تعالى لا يتصف بذلك؛ لأن هذا من صفات الحوادث، و الله تعالى ليس كمثله شىء و هو السميع البصير، و إنما يراد من الأوصاف التى يتصف بمثلها العباد غايتها، و ثمرتها، و ثمرة الرحمة الإنعام الكامل، و النفع و دفع الضر، و الرزق، و غفران الذنوب، و كلاءة الله تعالى لهم، و القيام على كل ما يمدهم به بالخير و النعمة.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 52
و الوصفان اقترنا و اجتمعا فى البسملة، كما اجتمعا فى بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل] و هذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان فى آيتين أخريين من آيات القرآن، ففى أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، و قال سبحانه عن الذكر تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت] و جاء فى سورة الحشر هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) [الحشر].
و لا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى و صفاته، و لا شك أن لكل منهما معنى قائما بذاته، منفردا به عن الآخر. يقول الزمخشرى (نقلا عن الزجاج):
إن صيغة فعلان من الصيغ التى تدل على الامتلاء، كغضبان، و شبعان، و سكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذى اشتقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، و رحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التى تليق بذاته العلية من غير امتلاء.
و لذلك يقول الزمخشرى و من تبعه فى دراساته البيانية للقرآن الكريم: إن «الرحمن» أبلغ من «الرحيم»، و إن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشرى و ما ترى فيه من تفاوت، و إن كان كله فى أعلى درجات البيان لا يساويه بيان للإنسان. و بدراسة اللفظين فى القرآن يتبين لنا الفرق بينهما فى الاستعمال القرآنى السامى فى بلاغته إلى ما لا يتسامى إليه كلام بشر، و لا يدانيه شىء من الكلام الإنسانى.
و عند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين فى آيتين غير البسملة و قد ذكرتا، و ذكر وصف الرحمن منفردا فى نحو ستين
زهرة التفاسير، ج1، ص: 53
موضعا من كتاب الله العزيز، و كان يذكر ذلك الوصف السامى غير مضاف إلى فعل من الأفعال، و لا واقع على أحد كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ... (110) [الإسراء] و كقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) [مريم] و قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرحمن] و مثل قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) [الزخرف].
و هكذا فى نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شىء أو شخص أو فعل كما يذكر «الله» تعالى، و ذكر وصف الرحيم منفردا عن الرحمن فى أكثر من ثلاثين و مائة آية، و نجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه و تعالى بالعباد مثل قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [البقرة] و مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) [الحج] و مثل قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) [البقرة].
و من هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة «رحمن»، و استعماله لكلمة «رحيم» ننته إلى ما يأتى:
أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتى للذات العلية لا يتعلق بفعل و لا بشخص يذكر، و لكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، و لكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية و استحقاق العبادة؛ و لذلك قال بعض العلماء: إن كلمة «الرحمن» اسم لله تعالى، و أما «الرحيم» فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، و الذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى فى إجابة أوامره، و اجتناب نواهيه؛ و لذلك يقترن كثيرا بالتوبة و المغفرة.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 54
ثانيا: أن الرحمة فى «الرحمن» أكثر من «الرحيم»؛ و لذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هى الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من فى السموات و الأرض، و برحمته الواسعة ينزل الغيث، و يرسل الرياح، و مهّد الأرض، و جعل الجبال، و برحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين و منذرين، و برحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، و المسىء بإساءته مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) [الأنعام].
و هكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، و الرحيم متعلق فى رحمته بالمكلفين.
ثالثا: أن «الرحمن» أكثر رحمة لما فى الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنسانى كله، و وصف «الرحيم» خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ فى القرآن الكريم.
و من هذا الاستقراء و التتبع، و استنباط المعانى لألفاظ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من استعمال القرآن ننته إلى أن بيان معانى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أن الله سبحانه و تعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به و نتيمن و نسبح باسمه، و هو الله الإله المتفرد بالخلق و التكوين و التدبير و المتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السموات و الأرض و الوجود كله، و هو «الرحمن» ذو الرحمة الواسعة التى تعم الوجود كله فى السموات و الأرض، و الدنيا و الآخرة، المدبر للوجود برحمته، و هو «الرحيم» بعباده يغفر لهم و يتوب عليهم، و يشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرا لهم فى معادهم و معاشهم، و هو بكل شىء عليم.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 55
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
و سورة الفاتحة كما ذكرنا مكية، و قد أجمع العلماء على ذلك، بل إن بعض العلماء يدعى أنها أول سورة نزلت من القرآن، و لكن يخالفهم الأكثرون فى ذلك، و يقررون أن أوّل ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق] و قد روى البيهقى فى ذلك خبرا عن النبى صلى اللّه عليه و سلم. و قد وفق العلماء بين ما رواه البيهقى و ما هو مقرر من أن أول ما نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ بأن الفاتحة هى الأولى نزولا، و هى سورة نزلت دفعة واحدة، أما الثانية فآية، و هى قد أخبرت عن الأولى- أى عن الفاتحة- الأمر بالقراءة، فالأمر بالقراءة يقتضى مقروءا.
و الذى أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن، و يرجح عندى أنها نزلت عندما فرضت الصلاة فى الإسراء و المعراج.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية، و على من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها و هى مصدر الخير لهذا الوجود الكونى و الإنسانى.
و هناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها فى جملتها، و تختلف فى دقتها، و هى كلمة «حمد»، و هى تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع، و دافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها، و الكلمة الثانية «المدح»، و هى الثناء على الصفات الذاتية، و الشخصية الطيبة، فيقال: مدحت الصفات الطيبة فى فلان، و لا يقال: حمدتها، إنما يقال: حمدت الله تعالى و مدحت خصال فلان، و قيل: إن الحمد و المدح مترادفان، و لعل قائل هذا القول
زهرة التفاسير، ج1، ص: 56
نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث، فإن الباعث فى الحمد أعمال الإنعام و الخير، و الباعث على المدح الشخص و الذات، فيقال: مدحت الجميل في صفاته الحسنة، و خلاله الكريمة، و لا يقال حمدته، و من العلماء من قال إن المدح أعم، و من قال العكس، و نميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع.
و «الشكر» امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة، و اندفاع النفس إلى الطاعة و الخضوع، و القيام بحق المنعم و مقابلة الفضل و النعمة بالإحسان فى الطاعة و الواجبات، و قد قال تعالى فى ذلك: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... (7) [إبراهيم] و يقول ابن جرير الطبرى: إن الحمد و الشكر بمعنى واحد، و الحق أنهما يتلاقيان و يختلفان، فيتلاقيان فى معنى الإحساس بالنعمة و القيام بحقها، و ما يجب بالنسبة للمنعم، و لكنهما يختلفان فى القيام بحق المنعم، فالقيام بحق المنعم فى الشكر الطاعة و العمل و جعل الجوارح كلها فى طاعة الله تعالى، و الخضوع المطلق لله تعالى فى كل شأن من شئونه، و حال من أحواله. و القيام بحق المنعم فى الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه، و تذكر ما يحيطه من الوجود كله، لا فى ناحية من نواحى شخصه؛ و لذلك روى عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الحمد رأس الشكر» «1» و الحمد ذاته عبادة و الشكر يكون على النعمة و بالمثابرة على الطاعة و العبادة.
و مهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة فى مؤداها- و إن تخالفت فى مدلولاتها و «ال» فى قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ للاستغراق و الكمال، أى الحمد كله و بكماله لله تعالى وحده، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا؛ لأن الحمد كما ذكرنا عبادة، و العبادة لله تعالى، وحده و حمد غيره عبادة لغيره، و شرك بالله تعالى، و أصل
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف، و البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 57
الضلال يبتدئ من حمد غير الله، و الثناء عليه، ثم ينقاد من بعد ذلك إلى ما يخرجه عن طاعة الله، فلا حمد إلا اللّه و لا ثناء إلا لله.
و إن الحمد إنما هو ابتداء على ما أنعم الله تعالى على الوجود الكونى و الإنسانى من غير وجود فيكون الحمد له وحده، و تقرأ كلمة «الحمد لله» برفع الدال. و المعنى: الحمد الثابت الكامل المستغرق لكل صنوف الحمد هو لله وحده، و لا يحمد سواه؛ لأن كل نعم هذا الوجود الكونى و الإنسانى لله تعالى، فكل خير الوجود منه و إليه.
و هناك قراءة بفتح الدال على أنه مصدر، و منصوب بفعل محذوف، و يكون المؤدّى للقول: احمد الحمد كلّه لله تعالى، فلا تحمد سواه، و إن حمد سواه شرك لما ذكرنا من أن الحمد ذاته عبادة، و هذه القراءة تفيد تجدد الحمد آنا بعد آن بالتذكير بنعم الله تعالى و آلائه، و القراءة السابقة تفيد دوام الحمد، كما تدل على ذلك الجملة الاسمية؛ لأنها تفيد الاستمرار.
و إنى أرى أن القراءات المتواترة كلها لا تتباين، و لا تتضارب، بل تتلاقى، و تكمل واحدة معنى فى الأخرى، فبالجمع بين القراءتين يكون معنى النص السامى: اجعل الحمد دائما مستمرا و متجددا؛ ليكون القلب دائما عامرا بذكر الله تعالى.
رَبِّ الْعالَمِينَ فى هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل، الدائم المستمر المتجدد؛ لأنه هو المالك و السيد، و المربى لهم و الرقيب عليهم، الذى ميزهم بالنعم المستمرة، و الآلاء المتكررة التى لا تنقطع أبدا.