کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 53
موضعا من كتاب الله العزيز، و كان يذكر ذلك الوصف السامى غير مضاف إلى فعل من الأفعال، و لا واقع على أحد كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ... (110) [الإسراء] و كقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) [مريم] و قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرحمن] و مثل قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) [الزخرف].
و هكذا فى نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شىء أو شخص أو فعل كما يذكر «الله» تعالى، و ذكر وصف الرحيم منفردا عن الرحمن فى أكثر من ثلاثين و مائة آية، و نجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه و تعالى بالعباد مثل قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [البقرة] و مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) [الحج] و مثل قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) [البقرة].
و من هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة «رحمن»، و استعماله لكلمة «رحيم» ننته إلى ما يأتى:
أولا: أن وصف الرحمن وصف ذاتى للذات العلية لا يتعلق بفعل و لا بشخص يذكر، و لكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، و لكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية و استحقاق العبادة؛ و لذلك قال بعض العلماء: إن كلمة «الرحمن» اسم لله تعالى، و أما «الرحيم» فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، و الذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى فى إجابة أوامره، و اجتناب نواهيه؛ و لذلك يقترن كثيرا بالتوبة و المغفرة.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 54
ثانيا: أن الرحمة فى «الرحمن» أكثر من «الرحيم»؛ و لذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هى الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من فى السموات و الأرض، و برحمته الواسعة ينزل الغيث، و يرسل الرياح، و مهّد الأرض، و جعل الجبال، و برحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين و منذرين، و برحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، و المسىء بإساءته مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) [الأنعام].
و هكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، و الرحيم متعلق فى رحمته بالمكلفين.
ثالثا: أن «الرحمن» أكثر رحمة لما فى الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنسانى كله، و وصف «الرحيم» خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ فى القرآن الكريم.
و من هذا الاستقراء و التتبع، و استنباط المعانى لألفاظ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من استعمال القرآن ننته إلى أن بيان معانى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أن الله سبحانه و تعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به و نتيمن و نسبح باسمه، و هو الله الإله المتفرد بالخلق و التكوين و التدبير و المتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السموات و الأرض و الوجود كله، و هو «الرحمن» ذو الرحمة الواسعة التى تعم الوجود كله فى السموات و الأرض، و الدنيا و الآخرة، المدبر للوجود برحمته، و هو «الرحيم» بعباده يغفر لهم و يتوب عليهم، و يشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرا لهم فى معادهم و معاشهم، و هو بكل شىء عليم.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 55
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
و سورة الفاتحة كما ذكرنا مكية، و قد أجمع العلماء على ذلك، بل إن بعض العلماء يدعى أنها أول سورة نزلت من القرآن، و لكن يخالفهم الأكثرون فى ذلك، و يقررون أن أوّل ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق] و قد روى البيهقى فى ذلك خبرا عن النبى صلى اللّه عليه و سلم. و قد وفق العلماء بين ما رواه البيهقى و ما هو مقرر من أن أول ما نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ بأن الفاتحة هى الأولى نزولا، و هى سورة نزلت دفعة واحدة، أما الثانية فآية، و هى قد أخبرت عن الأولى- أى عن الفاتحة- الأمر بالقراءة، فالأمر بالقراءة يقتضى مقروءا.
و الذى أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن، و يرجح عندى أنها نزلت عندما فرضت الصلاة فى الإسراء و المعراج.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية، و على من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها و هى مصدر الخير لهذا الوجود الكونى و الإنسانى.
و هناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها فى جملتها، و تختلف فى دقتها، و هى كلمة «حمد»، و هى تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع، و دافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها، و الكلمة الثانية «المدح»، و هى الثناء على الصفات الذاتية، و الشخصية الطيبة، فيقال: مدحت الصفات الطيبة فى فلان، و لا يقال: حمدتها، إنما يقال: حمدت الله تعالى و مدحت خصال فلان، و قيل: إن الحمد و المدح مترادفان، و لعل قائل هذا القول
زهرة التفاسير، ج1، ص: 56
نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث، فإن الباعث فى الحمد أعمال الإنعام و الخير، و الباعث على المدح الشخص و الذات، فيقال: مدحت الجميل في صفاته الحسنة، و خلاله الكريمة، و لا يقال حمدته، و من العلماء من قال إن المدح أعم، و من قال العكس، و نميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع.
و «الشكر» امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة، و اندفاع النفس إلى الطاعة و الخضوع، و القيام بحق المنعم و مقابلة الفضل و النعمة بالإحسان فى الطاعة و الواجبات، و قد قال تعالى فى ذلك: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... (7) [إبراهيم] و يقول ابن جرير الطبرى: إن الحمد و الشكر بمعنى واحد، و الحق أنهما يتلاقيان و يختلفان، فيتلاقيان فى معنى الإحساس بالنعمة و القيام بحقها، و ما يجب بالنسبة للمنعم، و لكنهما يختلفان فى القيام بحق المنعم، فالقيام بحق المنعم فى الشكر الطاعة و العمل و جعل الجوارح كلها فى طاعة الله تعالى، و الخضوع المطلق لله تعالى فى كل شأن من شئونه، و حال من أحواله. و القيام بحق المنعم فى الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه، و تذكر ما يحيطه من الوجود كله، لا فى ناحية من نواحى شخصه؛ و لذلك روى عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الحمد رأس الشكر» «1» و الحمد ذاته عبادة و الشكر يكون على النعمة و بالمثابرة على الطاعة و العبادة.
و مهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة فى مؤداها- و إن تخالفت فى مدلولاتها و «ال» فى قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ للاستغراق و الكمال، أى الحمد كله و بكماله لله تعالى وحده، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا؛ لأن الحمد كما ذكرنا عبادة، و العبادة لله تعالى، وحده و حمد غيره عبادة لغيره، و شرك بالله تعالى، و أصل
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف، و البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 57
الضلال يبتدئ من حمد غير الله، و الثناء عليه، ثم ينقاد من بعد ذلك إلى ما يخرجه عن طاعة الله، فلا حمد إلا اللّه و لا ثناء إلا لله.
و إن الحمد إنما هو ابتداء على ما أنعم الله تعالى على الوجود الكونى و الإنسانى من غير وجود فيكون الحمد له وحده، و تقرأ كلمة «الحمد لله» برفع الدال. و المعنى: الحمد الثابت الكامل المستغرق لكل صنوف الحمد هو لله وحده، و لا يحمد سواه؛ لأن كل نعم هذا الوجود الكونى و الإنسانى لله تعالى، فكل خير الوجود منه و إليه.
و هناك قراءة بفتح الدال على أنه مصدر، و منصوب بفعل محذوف، و يكون المؤدّى للقول: احمد الحمد كلّه لله تعالى، فلا تحمد سواه، و إن حمد سواه شرك لما ذكرنا من أن الحمد ذاته عبادة، و هذه القراءة تفيد تجدد الحمد آنا بعد آن بالتذكير بنعم الله تعالى و آلائه، و القراءة السابقة تفيد دوام الحمد، كما تدل على ذلك الجملة الاسمية؛ لأنها تفيد الاستمرار.
و إنى أرى أن القراءات المتواترة كلها لا تتباين، و لا تتضارب، بل تتلاقى، و تكمل واحدة معنى فى الأخرى، فبالجمع بين القراءتين يكون معنى النص السامى: اجعل الحمد دائما مستمرا و متجددا؛ ليكون القلب دائما عامرا بذكر الله تعالى.
رَبِّ الْعالَمِينَ فى هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل، الدائم المستمر المتجدد؛ لأنه هو المالك و السيد، و المربى لهم و الرقيب عليهم، الذى ميزهم بالنعم المستمرة، و الآلاء المتكررة التى لا تنقطع أبدا.
فالرب هو المالك و هو السيد، و هو المصلح و المدبر، و الجابر و القائم على كل شىء، الذى يسير الوجود كله بحكمته و بقدره و إرادته.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 58
و «الرب» وصف لله تعالى مأخوذ من ربّ الشىء يربّه بمعنى قام بإصلاحه و تقويمه، و تتبّعه بالإصلاح و التنمية فى كل أدواره، و روى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: «هل لك عليه من نعمة تربّها» «1» أى تصلحها و تنميها، ثم أطلقت كلمة «رب» على الله سبحانه و تعالى، و هذا المعنى يتلاقى مع «ربّى»، فإن التربية هى الإصلاح و التغذية، و العمل على الإنماء، و لقد جاء فى الصحاح للجوهري: «ربّ فلان ولده يربّه ربّا، و تربية بمعنى: ربّاه، و المربوب المربّى».
و على ذلك يصح أن تقول إن الرب من ربّه، بمعنى نماه، أو من التربية بمعنى الإصلاح و الإنماء، و المعنى فى الحالين أن الله رب العالمين بمعنى مغذيهم و منميهم و القائم عليهم، و المصلح لهم، و المدبر لأمورهم، و هو مربيهم لأنه القائم عليهم و المهذب لهم بما خلق فيهم من عقول مدركة تدرك الخير و الشر، و تختار ما تفعل و تحاسب على ما تقدم من خير فتنال به الثواب، و ما تكسب من شر فينالها العقاب.
و كلمة الْعالَمِينَ يريد بها العقلاء من الملائكة و الإنس و الجن، فهو رب هؤلاء جمعيا، هو الذى رباهم و أصلحهم، و دبر أمورهم، و العالمون جمع لعالم، و هو كل موجود غير الله تعالى، و لكن إذا جاءت «عالمون» بجمع المذكر العاقل، أريد بها العقلاء ممن خلق الله تعالى، و قد أيد ذلك القول بقول ابن عباس رضى الله عنهما: «العالمون الجن و الإنس»، و دليله قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [الفرقان] فلا ينذر إلا الجن و الإنس؛ لا تنذر الجبال و لا الأرضون، و إنما ينذر العقلاء الذين يتصور الشر منهم، أو لا يتصور كالملائكة، و قد قلنا إن لفظ العالمين يعمهم.
(1) أخرجه مسلم: كتاب البر و الصلة باب فضل الحب في الله (2567)، و أحمد: باقي مسند المكثرين (9887).
زهرة التفاسير، ج1، ص: 59
و يسأل سائل: لماذا جمع هنا، و الأقرب الإفراد، و نقول ما قاله العلماء: إن المفرد هنا (و هو عالم) أعم من الجمع، و لكن يبقى السؤال لم ذكر الجمع؟ أجابوا بأن فى ذلك إشارة إلى أن كل عاقل، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها، ففيهم دقة التكوين و جمال التصوير و روعة الخلق، من عقل يدبر، و لسان و جوارح تتحرك، فجمع الله تعالى فى عالم العقلاء كل العوالم الأخرى فى إحكام الصنع و بديع التكوين كما قال تعالى فى تقديم العلم بالنفس، و جلائل الخلق و التكوين:
وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) [الذاريات] ففى الإنسان أكمل صورة للخلق و التكوين.
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 3]
هذان وصفان من أوصاف الله تعالى، أو اسمان من أسمائه ذكرا فى مقام السببية لاستحقاق الله تعالى الحمد وحده، و قد ذكرنا هذين الوصفين فى الكلام فى البسملة، فلا نعيده، و لكن نذكر هنا مقامهما من النسق بعد قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ فنقول إن «الرحمن و الرحيم» يدلان على الرحمة التى يصلح بها الكون و يدبر أمره بحكمته و قدرته، فهو سبحانه يرب العالمين و يصلحهم رحيما بهم، و يصلح الكون و الوجود كله برحمته الشاملة لاسمه الأعلى الرحمن.
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 4]