کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 59
و يسأل سائل: لماذا جمع هنا، و الأقرب الإفراد، و نقول ما قاله العلماء: إن المفرد هنا (و هو عالم) أعم من الجمع، و لكن يبقى السؤال لم ذكر الجمع؟ أجابوا بأن فى ذلك إشارة إلى أن كل عاقل، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها، ففيهم دقة التكوين و جمال التصوير و روعة الخلق، من عقل يدبر، و لسان و جوارح تتحرك، فجمع الله تعالى فى عالم العقلاء كل العوالم الأخرى فى إحكام الصنع و بديع التكوين كما قال تعالى فى تقديم العلم بالنفس، و جلائل الخلق و التكوين:
وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) [الذاريات] ففى الإنسان أكمل صورة للخلق و التكوين.
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 3]
هذان وصفان من أوصاف الله تعالى، أو اسمان من أسمائه ذكرا فى مقام السببية لاستحقاق الله تعالى الحمد وحده، و قد ذكرنا هذين الوصفين فى الكلام فى البسملة، فلا نعيده، و لكن نذكر هنا مقامهما من النسق بعد قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ فنقول إن «الرحمن و الرحيم» يدلان على الرحمة التى يصلح بها الكون و يدبر أمره بحكمته و قدرته، فهو سبحانه يرب العالمين و يصلحهم رحيما بهم، و يصلح الكون و الوجود كله برحمته الشاملة لاسمه الأعلى الرحمن.
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 4]
يوم الدين هو يوم الجزاء، و قيل يوم الطاعة، و قيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة، و مهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ فى مدلولاتها الخاصة، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذى يجازى فيه المحسن بإحسانه، و المسىء
زهرة التفاسير، ج1، ص: 60
بإساءته، و هو الذى تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا، يعلن ما تستحق من عقاب أو ثواب.
و مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فيه قراءات تختلف فى أشكالها، و لا تختلف فى مضمونها فقرئ هكذا: مالك يوم الدين، و قرئ: مليك يوم الدين، و قرئ: ملك يوم الدين، و قرأ أبو حنيفة رضى الله عنه: ملك يوم الدين، و قرئ: مالكا يوم الدين، و قرئ: مالك. و القراءات كلها تنته إلى معنى واحد، و إن كانت تختلف فى أعاريبها، و النص العثمانى يشملها جميعا، و لا تخالف فى النسخ المتواتر، بيد أن قراءة النصب «مالكا» تكون حالا من الذات العلية، أى أنه الرب للوجود كله و المنعم عليه بجلائل النعم؛ جليها و خفيها، حال كونه مالكا من بعد ذلك ليوم الجزاء، الذى يجزى كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر، و «يوم الدين» تكون ظرفا غير مضاف إليه، و كذلك فى قراءة الرفع مع التنوين يكون يوم الدين ظرفا للملك و كمال السلطان.
و قراءة «مالك» تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى فى ذلك اليوم، فالنفوس فى مآلها و فى نهايتها ملك لله، و مستقبلها القريب و البعيد لله لا تملك من أمرها شيئا، بل كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) [الانفطار] و إذا كان سبحانه و تعالى يملك كل شىء فى هذا اليوم؛ فالسطان، و التدبير له، وحده الذى يملك الجزاء، و المغفرة إذا أراد، و لا إرادة لسواه، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير.
و «ملك»، و «ملك»، الفرق بينهما و بين قراءة «مالك» كالفرق بين المصدرين، الملك، و الملك، فالملك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه، و الملك السلطان
زهرة التفاسير، ج1، ص: 61
بالأمر و النهى و تنفيذ ما يريد، و ألا يكون معه آمر و لا ناه و لا حاكم سواه، و لا إرادة فوق إرادته، و لا حكم فوق حكمه.
و يلاحظ أن معنى الملك يتضمنه بالاقتضاء معنى الملك؛ لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه، و السيطرة عليه، فالملك يقتضى الملك و السلطان، و الملك لا يقتضى الملك و السلطان؛ و لذلك يقال سبحان مالك الملك، و لا يقال ملك الملك.
و رأينا أن كل قراءة متواترة قرآن، و أن القرآن لا يخالف بعضه بعضا، بل قد يتمّ بعضه بعضا، و ليس لنا أن نراجح بين قراءة و قراءة، لأن كلتيهما تتمم الأخرى.
و خلاصة القول فى القراءتين أن قراءة (ملك يوم الدين) موضّحة لما تضمنته (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، و لا نتصور أن تتعارض قراءتان متواتران؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضا. و فى الإعراب «مالك» أو «ملك» مضاف إلى يوم الدين على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جزاء: ثواب أو عقاب أو مغفرة، و أنه واقع لا محالة، و أن ما فيه فى ملكه و تحت سلطانه وحده.
و إن اسم الفاعل يدل على الاستقبال، فلا يقال إنه مالك لليوم و اليوم لم يجئ، و إن الأزمان الماضى و الحاضر و المستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة.
هذا، و يلاحظ أن الأسماء أو الصفات هى كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود و ما فيه و من فيه، و تعهده بالإنماء و التربية و التهذيب و التكميل، و الرعاية لكل شىء، و إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا، و لئن زالتا ما أمسكهن أحد من بعده، ثم رحمته الظاهرة و الباطنة، و العاجلة و الآجلة التى تعم الوجود كله من سماء
زهرة التفاسير، ج1، ص: 62
و أرضين، و شموس و نجوم، و رحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة، و غفران، و ثواب.
ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء، كل هذه الأسماء و الصفات من شأنها أن تجعله مستحقّا للحمد الكامل بكل ضروبه، و فى كل الأحوال، و ذلك بربوبيته الشاملة، و رحمته الكاملة، و امتلاكه وحده ليوم الجزاء.
و إن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد، هى أيضا سبب لانفراده بالعبادة و الاستعانة، و طلب الهداية، و قد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده، و بيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغى للمؤمن من إفراده بالعبادة و الاستعانة به دون غيره، و الضراعة إليه فى طلب الهداية؛ لذا قال سبحانه:
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
كان الكلام السامى يسير على نهج الغيبة بذكر مقام الربوبية و أسماء الذات العلية التى هى أوصافها من شمول الرحمة فى كل الأحوال و لكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده.
و بعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الانتقال من باب إلى باب فى البيان يعطى للكلام روعة تليق بأبلغ من فى الوجود، فالانتقال فى القول من غيبة إلى خطاب يجدد فى النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة، و الاستمتاع بالسماع، و الاعتبار بما فى الكتاب، و الإقبال الذى يتولد عنه التدبر و التفكر فى آيات الله تعالى.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 63
و إن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر فى أمر الله تعالى و عبادته سبحانه، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة، خاطبهم الله تعالى بكماله، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه، و هو إفراده بالعبادة و الاستعانة، و أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
و إن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية، و يستحضرون جلالها، و إفضالها، و إنعامها و سلطانها يصلون فى مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى؛ و يرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
و لقد قال فى هذا المقام العلامة أبو السعود فى تفسيره: «إن حق التالى بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلّية، و استبداده بجلائل الصفات و أحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين، و افتقار الكل إليه فى الذات و الوجود ابتداء و بقاء منه، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، و ينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود، و يلاحظ نفسه حاضرا فى محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه، ماثل بين يديه، و هو يدعو بالخضوع و الإخبات، و يقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا: يا من هذه شئون ذاته و صفاته نخصك بالعبادة و الاستعانة، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان» «1» .
و إن الارتفاع إلى مقام المشاهدة، و مخاطبة الله تعالى هو الذى من أجله كانت- أى الفاتحة- واجبة التلاوة فى كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان، و اتجاه إلى حضرته العلية، و مشاهدة روحية.
(1) تفسير أبى السعود: ج 1، ص 18.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 64
إِيَّاكَ نَعْبُدُ «إيّا» ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادى «نعبدك» فلما قدم الضمير انفصل، و «الكاف» حرف للدلالة على الخطاب، كما أن «الهاء» للدلالة على الغيبة فى قوله: «إياه»، و «الياء» دلالة على المتكلم، و «إيانا» دلالة على المتكلمين، و هكذا. و قيل إن «الكاف» و أخواتها أجزاء من الضمير، و هو اختلاف إعرابى لا جدوى فيه في مقامنا هذا. و العبادة أكمل أنواع الخضوع، و التذلل لله تعالى، و لا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، و إن دوام العبادة و الاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع و خضوع لله و تذكر مقام الله العلى الأعلى، و حضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه- سبحانه- يراه.
إن دوام العبادة على هذا النحو تولّد فى نفسه صدق العبودية، فيحس فى كل أحواله بأنه لله، و يحب الشيء لا يحبه إلا لله، و يكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله:
كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ... (79) [آل عمران].
و الاستعانة طلب العون من الله تعالى، مستحضرا ما فى الذات العلية من صفات الربوبية، و الرحمة، و السلطان المطلق يوم الجزاء؛ إذ لا سلطان فى يوم الدين لأحد سواه، و قد جاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ قبل وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن العبادة حق الله تعالى، و التقدم إليه بالخضوع الذى لا خضوع مثله، و الاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق و أولى بالتقديم، و لكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة و الضراعة إلى الله تعالى، و إفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة فى حد ذاته، حتى روى: «الدّعاء مخّ العبادة» «1» ، و كما قال تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات (3371) عن أنس بن مالك رضى الله عنه.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 65
وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) [الأعراف] و إطلاق الاستعانة من غير متعلّق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى فى كل أمور حياته. و الاستعانة هى نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى، و افتقاره إليه تعالى، و أنه محتاج إليه دائما، و لا يركبه غرور الحياة و الضلال في أن يقرّ بنفسه الغرور، و هو استجابة و فهم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) [فاطر].
و إن من أعلى أبواب الاستعانة، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات و القيام بفروض الله تعالى، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية، و يكون ربانيا.
و تقديم إِيَّاكَ على نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ لتعظيم الله تعالى بذكره أولا، و لأن التقديم للاهتمام بالمعبود و المستعان؛ و للدلالة على أنه سبحانه و تعالى هو المختص بالعبادة وحده، و أنه لا يستعان بغيره، و فى ذلك كمال التوحيد و الخضوع له وحده سبحانه و تعالى، و لقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال فى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : معناه نعبدك و لا نعبد غيرك.
فتقديم إياك كما فى قوله تعالى: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) [البقرة] و قوله سبحانه: وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) [البقرة] و تكرار إِيَّاكَ فى نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ ، لبيان التباين بينهما، و أن ذلك حق الله، و أن هذا طلب من العباد، و لتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
و أول الاستعانة طلب الهداية؛ و لذلك قال تعالى:
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 6]