کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 62
و أرضين، و شموس و نجوم، و رحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة، و غفران، و ثواب.
ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء، كل هذه الأسماء و الصفات من شأنها أن تجعله مستحقّا للحمد الكامل بكل ضروبه، و فى كل الأحوال، و ذلك بربوبيته الشاملة، و رحمته الكاملة، و امتلاكه وحده ليوم الجزاء.
و إن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد، هى أيضا سبب لانفراده بالعبادة و الاستعانة، و طلب الهداية، و قد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده، و بيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغى للمؤمن من إفراده بالعبادة و الاستعانة به دون غيره، و الضراعة إليه فى طلب الهداية؛ لذا قال سبحانه:
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
كان الكلام السامى يسير على نهج الغيبة بذكر مقام الربوبية و أسماء الذات العلية التى هى أوصافها من شمول الرحمة فى كل الأحوال و لكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده.
و بعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الانتقال من باب إلى باب فى البيان يعطى للكلام روعة تليق بأبلغ من فى الوجود، فالانتقال فى القول من غيبة إلى خطاب يجدد فى النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة، و الاستمتاع بالسماع، و الاعتبار بما فى الكتاب، و الإقبال الذى يتولد عنه التدبر و التفكر فى آيات الله تعالى.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 63
و إن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر فى أمر الله تعالى و عبادته سبحانه، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة، خاطبهم الله تعالى بكماله، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه، و هو إفراده بالعبادة و الاستعانة، و أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
و إن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية، و يستحضرون جلالها، و إفضالها، و إنعامها و سلطانها يصلون فى مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى؛ و يرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
و لقد قال فى هذا المقام العلامة أبو السعود فى تفسيره: «إن حق التالى بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلّية، و استبداده بجلائل الصفات و أحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين، و افتقار الكل إليه فى الذات و الوجود ابتداء و بقاء منه، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، و ينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود، و يلاحظ نفسه حاضرا فى محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه، ماثل بين يديه، و هو يدعو بالخضوع و الإخبات، و يقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا: يا من هذه شئون ذاته و صفاته نخصك بالعبادة و الاستعانة، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان» «1» .
و إن الارتفاع إلى مقام المشاهدة، و مخاطبة الله تعالى هو الذى من أجله كانت- أى الفاتحة- واجبة التلاوة فى كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان، و اتجاه إلى حضرته العلية، و مشاهدة روحية.
(1) تفسير أبى السعود: ج 1، ص 18.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 64
إِيَّاكَ نَعْبُدُ «إيّا» ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادى «نعبدك» فلما قدم الضمير انفصل، و «الكاف» حرف للدلالة على الخطاب، كما أن «الهاء» للدلالة على الغيبة فى قوله: «إياه»، و «الياء» دلالة على المتكلم، و «إيانا» دلالة على المتكلمين، و هكذا. و قيل إن «الكاف» و أخواتها أجزاء من الضمير، و هو اختلاف إعرابى لا جدوى فيه في مقامنا هذا. و العبادة أكمل أنواع الخضوع، و التذلل لله تعالى، و لا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، و إن دوام العبادة و الاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع و خضوع لله و تذكر مقام الله العلى الأعلى، و حضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه- سبحانه- يراه.
إن دوام العبادة على هذا النحو تولّد فى نفسه صدق العبودية، فيحس فى كل أحواله بأنه لله، و يحب الشيء لا يحبه إلا لله، و يكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله:
كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ... (79) [آل عمران].
و الاستعانة طلب العون من الله تعالى، مستحضرا ما فى الذات العلية من صفات الربوبية، و الرحمة، و السلطان المطلق يوم الجزاء؛ إذ لا سلطان فى يوم الدين لأحد سواه، و قد جاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ قبل وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن العبادة حق الله تعالى، و التقدم إليه بالخضوع الذى لا خضوع مثله، و الاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق و أولى بالتقديم، و لكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة و الضراعة إلى الله تعالى، و إفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة فى حد ذاته، حتى روى: «الدّعاء مخّ العبادة» «1» ، و كما قال تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات (3371) عن أنس بن مالك رضى الله عنه.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 65
وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) [الأعراف] و إطلاق الاستعانة من غير متعلّق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى فى كل أمور حياته. و الاستعانة هى نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى، و افتقاره إليه تعالى، و أنه محتاج إليه دائما، و لا يركبه غرور الحياة و الضلال في أن يقرّ بنفسه الغرور، و هو استجابة و فهم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) [فاطر].
و إن من أعلى أبواب الاستعانة، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات و القيام بفروض الله تعالى، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية، و يكون ربانيا.
و تقديم إِيَّاكَ على نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ لتعظيم الله تعالى بذكره أولا، و لأن التقديم للاهتمام بالمعبود و المستعان؛ و للدلالة على أنه سبحانه و تعالى هو المختص بالعبادة وحده، و أنه لا يستعان بغيره، و فى ذلك كمال التوحيد و الخضوع له وحده سبحانه و تعالى، و لقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال فى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : معناه نعبدك و لا نعبد غيرك.
فتقديم إياك كما فى قوله تعالى: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) [البقرة] و قوله سبحانه: وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) [البقرة] و تكرار إِيَّاكَ فى نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ ، لبيان التباين بينهما، و أن ذلك حق الله، و أن هذا طلب من العباد، و لتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
و أول الاستعانة طلب الهداية؛ و لذلك قال تعالى:
اهل
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
زهرة التفاسير، ج1، ص: 66
بعد أن ذكر دعاء العباد لربهم باختصاصه بالعبادة، طلب الاستعانة بالله تعالى فى كل شىء مرغوب فيه محمود غير مذموم، و ذكرت الاستعانة متجهة إلى الله تعالى من غير الباء، إذ هى تتعدى بها، فيقال استعان به، و تركت الباء للتوجه إلى الله تعالى من غير توسط، و لو كان توسطا لفظيّا بحرف الباء، و التوجه إلى الله وحده بحيث يواجه الذات العلية بإشراف النفس من غير رؤية و لا حسّ إلا أن يكون روحيا.
و قد ذكر أعلى مراتب الاستعانة، و هى التى لا تكون لأمور تتعلق بالرغبات الدنيوية و لو كانت فى حلال، بل أعلاها ما يتعلق بالنفس و هدايتها، فقال سبحانه على لسان المتقين:
اهْدِنَا و مجيء ذلك فى كتاب الله تعالى و بقوله الحكيم تعليم و تربية للنفس المؤمنة أن تكون استعانتها بالله تعالى تكون أولا بطلب الهداية من الله، و قوله تعالى على ألسنة عباده المتقين: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ هو دعاء من العباد لربهم بأمره سبحانه، و ذلك تجلّ من الله العلى الأعلى بالإرشاد و التعليم فقوله تعالى: اهْدِنَا و الدعاء ذاته عبادة كما روينا عن رسول الله صلى اللّه عليه و سلم: «ليس شىء أكرم على الله تعالى من الدعاء» «1» .
دعاؤهم بطلب الهداية، و الهداية ذات مراتب يعلو بعضها فوق بعض ..
المرتبة الأولى: أن يملأ سبحانه و تعالى نفوسهم و قلوبهم بالحق يميلون نحوه، و يتجهون إليه، و أن يكونوا ممن كتبت عليهم التقوى، و أن تكون هدايتها إلى نجد الخير، و قد قال، و قوله الحق: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) [البلد] و قال سبحانه:
وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) [الشمس]، و ذلك ليكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1) أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات- باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، و ابن ماجه: كتاب الدعاء- باب: فضل الدعاء (3829)، و أحمد: كتاب باقي مسند المكثرين (8530) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 67
و المرتبة الثانية: بعد أن تصغى قلوبهم إلى الحق و تنفتح بقوله و النظر فى بيناته و هى إقامة الدلائل على الحق ليتبعوه عن بينة، أو تنفتح نفوسهم و عقولهم لقبول ما تدل عليه آيات الكون و أدلة الحق و هى أماراته، بل بيناته من سماء ذات أبراج، و أرض ذات جبال كالأوتاد، و زروع و ثمار، ذات بهجة للناظرين، و أن يتدبروا فى ملكوت الله تعالى و خلقه فينظروا نظرة الإدراك و الاعتبار كما قال تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية].
هذه هى المرتبة الثانية من الهداية: و هى أن يهديهم سبحانه إلى مواضع العبر و الاستدلال فى آياته الكبرى فى خلق السماء و الأرض و ما بينهما، و فى آياته الكونية، ما دقّ منها و ما جلّ، فهو خالق كل شيء.
أما المرتبة الثالثة: فهى إرسال الرسل هداة مبشرين و منذرين، وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) [فاطر] و إن إرسال الرسل للهداية و الإرشاد، و تبليغ رسالته، إنما هو لكيلا يكون على الله حجة بعد الرسل، فهو بعد أن يخلق الخلق على الفطرة المستقيمة، و الاستعداد للعلم بالوجود، و ما فيه من أدلة على منشىء الوجود، ثم يؤيد العلم الفطرى بعلم كسبى و هو علم النبوة الذى يجيء به رسول مبين يدعو إلى الهدى بإذنه و يهدى إلى صراط مستقيم.
و المرتبة الرابعة: مرتبة الوحى و الكشف و تعليم الله تعالى لخلقه، و هو ما يكون للرسل الكرام دعاة الحق و الهداة إليه، فهداية الله تعالى بالوحى، أو إرسال رسول أو أن يكلمه الله تعالى من وراء شيء من خلقه، كما قال تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... (51) [الشورى].
زهرة التفاسير، ج1، ص: 68
و هكذا هداية الله تعالى تبتدئ من هداية النفس و العقل إلى الحق و طلبه، ثم الإدراك للآيات البينات الدالة على واجب الوجود، ثم هداية الله تعالى بالرسل يرسلهم ليكونوا للعالمين نذيرا، ثم هداية الله تعالى بما يكون لرسله المصطفين الأخيار.
اهْدِنَا الصِّراطَ إن هدى تتعدى بإلى و باللام كقوله تعالى: وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) [الحج] و كقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى]، و قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة] و قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... (9) [الإسراء].
و لكن هنا لم يتعلّق قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ب «اللام» و لا ب «إلى»، و لذلك حكمة بيانية، و ذلك أنها تضمنت معنى الهداية باختيار خير عاقبة، فتضمنت الهداية معنى الاختيار، و يكون المعنى اهدنا مختارا لنا فى هدايتك الصراط المستقيم. و «اختار» تتعدى بنفسها من غير أداة جر كما قال: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف]
و الصراط معناه الطريق الجدد أو الجادة، و قالوا إنه «السراط» بالسين، و بذلك قرئت فى بعض القراءات المتواترة، و قالوا: إن الأصل فى السراط الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يبتلع من يسلكه لا تساعه، و أنه جادة متسعة، لا يبين سالكها، و قد وصف بأنه المستقيم لأن المستقيم أقرب خط بين نقطتين، فهو أقرب موصل للغاية المرجوة.