کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 70
و من النعم أن يحس بإشراق النفس و إخلاص القلب، و الاتجاه إلى الله تعالى، و أن يكون مستقيم الفكر، نير المدارك، و لا يضل، بل يهتدى بما أنعم، و من النعم نعمة الإخلاص فى القول و الصدق فيه، و أن يعمل العمل، لا يعمله إلا لله، و أن يراقب الله فى سره و جهره و عمله، حتى يصدق عليه قول النبى صلى اللّه عليه و سلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله» «1» .
إذا كان المؤمن كذلك يكون ممن هداه اللّه إلى صراط الذين أنعم عليهم، كما قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) [النساء].
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ المغضوب عليهم هم الذين ينزل عليهم غضب الله، و وراء غضبه عذابه إلا أن يتغمدهم الله برحمته فيتوبوا، و التوبة تجبّ ما قبلها، و بذلك لا يكونون من المغضوب عليهم، بل ينخلعون منهم، و إنما الأعمال بخواتيمها، و إنما المغضوب عليهم هم من انتهوا إلى ألا يتوبوا، و ألا ينتهوا عما يوجب غضب الله تعالى.
و الذين ينطبق عليهم غضب الله تعالى لدوام شرهم، و بقاء فسادهم حتى يلقوا ربهم، و هم على هذه الحال- الكافرون سواء أكانوا و ثنيين، و كثير ما هم فى الماضى و الحاضر، أم كانوا من الذين أوتوا الكتاب كاليهود- لعنهم الله- و نصارى بولس الذين يعبدون المسيح، و هو بريء منهم، هؤلاء هم المغضوب عليهم و لا ريب فى نزول غضب الله تعالى بهم إلى يوم القيامة غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... (14) [المجادلة].
و الضالون قال بعض العلماء إنهم النصارى لقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة] و إنه لينطبق عليهم بلا ريب
(1) أخرجه البخاري بنحوه، كتاب الأدب- باب: الحب في الله (6041).
زهرة التفاسير، ج1، ص: 71
وصف الضالين؛ لأنهم عند تخلّيهم عن مبادئ المسيح أضلهم بولس و أشباهه، فضلوا، ثم أضلوا غيرهم من بعدهم، و كفروا بما جاء به المسيح، و ضلوا ضلالا بعيدا، و كفروا، و لا يزالون يتيهون فى أوهامهم، كما توهموا و أوهموا فيما سموه رؤية العذراء، و كذبوا و افتروا، و حاولوا الإضلال كثيرا.
و مع انطباق الضلال و التضليل عليهم أولى بهم ثم أولى أن يكونوا ممن غضب الله تعالى عليهم، فغضب الله تعالى يحيط بهم من كل جانب؛ و لذلك نرى أن يدخلوا فيمن غضب الله تعالى عليه، و يصح أن نقول: إن فيهم الأمرين، فهم مغضوب عليهم و هم يضلّون، و يضلّون كثيرا إلى اليوم كما رأيت فى أمر العذراء.
و الضالون كما تدل الآية الكريمة هم الذين فى حيرة من أمر اعتقادهم، لا يهتدون إلى عقيدة يطمئنون إليها و يستقرون عليها، و ليسوا مع هؤلاء و لا هؤلاء ..
و لقد قيل إنهم المنافقون الذين ينطبق عليهم ذلك الوصف، و تلك الحال المضطربة.
و لقد يكون ذلك من ناحية حالهم قريبا فى ذاته؛ لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم وصفهم بالاضطراب و الحيرة، فقال صلى اللّه عليه و سلم: «مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين غنمين، إلى أيّهما تذهب» «1» ، فالمنافق ضال حائر، لا يستقر على قرار، و لا يطمئن إلى إيمان أو كفر، و المنافقون كما وصفهم الله سبحانه و تعالى بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ ... (143) [النساء].
و هم أيضا موضع غضب الله تعالى؛ لأنهم كفار كإخوانهم المغضوب عليهم، ولكنهم اختصوا بأنهم ليس لهم اعتقاد، فالمشركون لهم اعتقاد باطل، و كذلك النصارى و اليهود يعتقدون اعتقادا باطلا ليس لهم سلطان و لا حجة فى اعتقادهم.
(1) رواه مسلم في صفات المنافقين (2784)، و أحمد: مسند المكثرين من الصحابة (5059)، و النسائي: كتاب الإيمان و شرائعه (5037).
زهرة التفاسير، ج1، ص: 72
و قراءة الفاتحة مطلوبة فى الصلاة بحيث لا تكمل الصلاة إلا بها بيد أنها فرض عند الشافعى لا تصح الصلاة إلا بها، و كذلك عند الجمهور لقوله صلى اللّه عليه و سلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1» ؛ و لذلك سميت الصلاة، كما ذكرنا من قبل؛ لأن الصلاة ملازمة لها، و من المجاز المرسل أن يسمى اللازم باسم الملزوم؛ و لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم ما عرف أنه ترك قراءة الفاتحة. و عند أبى حنيفة رضى الله عنه الفاتحة واجبة، و الواجب عند الحنفية دون الفرض؛ لأن الفرض ما ثبت طلبه حتما بدليل قطعى لا شبهة فيه. و الواجب ما ثبت طلبه الحتمى بدليل ظنى فيه شبهة، و الفرض فى الصلاة بالنسبة للقراءة قراءة ما تيسر من القرآن لقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ... (20) [المزمل]؛ و لذلك لو ترك الفاتحة و قرأ أى قدر من القرآن تصح صلاته، و إن كانت غير كاملة؛ لأن الفاتحة تعينت للوجوب بدليل ظنى فيه شبهة، و هو حديث الآحاد.
و (آمين) يجب النطق بها عقب قراءة الفاتحة لقول النبى صلى اللّه عليه و سلم: «و علمنى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة»، و قال: «إنه كالختم على الكتاب» «2» ، فقد روى أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال: (آمين خاتم رب العالمين) «3» روى عن وائل ابن حجر أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: «و لا الضالين آمين» «4» ، و فى الحديث أن رسول الله صلى اللّه عليه و سلم قال: «إذا قال الإمام و لا الضالين فقولوا آمين» «5» .
(1) أخرجه البخاري، كتاب الآذان- باب: وجوب القراءة للأمام و المأموم، و مسلم: كتاب الصلاة- باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(2) سنن أبي داود: الصلاة- التأمين وراء الإمام بنحوه.
(3) أخرجه ابن عدي، و الطبراني في الكبير؛ عن أبي هريرة بلفظ: آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين.
(4) الترمذي: الصلاة- ما جاء في التأمين و كذا رواه أبو داود: الصلاة (923) و بنحو عند أحمد: أول مسند الكوفيين (18362) و الدارمي: الصلاة (1219).
(5) أخرجه البخاري: الأذان: جهر المأموم بالتأمين (782)، و مسلم بنحوه: الصلاة: (250).
زهرة التفاسير، ج1، ص: 73
و هكذا جاءت الأخبار عن النبى صلى اللّه عليه و سلم، بذكر آمين من المأمومين عندما يقرأ الإمام وَ لَا الضَّالِّينَ ، و المنفرد ينطق بها، و بذلك قال جمهور الفقهاء و روى أن أبا حنيفة لم يلتزم و لم يلزم بقولها، و روى عنه أنه يخفت بها و لا يجهر عند قول الإمام و لا الضالين، و مهما يكن ما روى بالنسبة لها من أخبار فإن المجمع عليه أنها ليست من القرآن فهى زيادة بطلب إجابة الدعاء الذى اشتملت عليه فاتحة الكتاب من الضراعة و الاستعانة و طلب الهداية، فهى اسم فعل بمعنى استجب.
و إنما أجمع على أنها ليست من القرآن لأنها ليست بين دفتى المصحف كالبسملة، و لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم مع طلبها لم يذكر أنها قرآن و لا من القرآن.
ورد أنه عليه الصلاة و السلام قال لأبىّ بن كعب: «ألا أخبرك ب سورة لم تنزل فى التوراة و الإنجيل و القرآن مثلها»، قال: قلت: بلى يا رسول الله قال: «إنها الفاتحة و إنها السبع المثانى و القرآن العظيم الذى أوتيته» «1» .
تم- بحمد الله- تفسير سورة الفاتحة
(1) أخرجه الترمذي في سننه: فضائل القرآن: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب (2875).
زهرة التفاسير، ج1، ص: 75
سورة البقرة
بين يدى السورة:
سورة البقرة مدنية نزلت فى المدينة فى مدد، و قيل إنها أول سورة نزلت بالمدينة، و قد ادعى بعض العلماء أن بعض هذه ال سورة كان آخر آية نزلت من القرآن الكريم، و هى قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... (281) [البقرة] نزلت فى حجة الوداع بمنى، و هى على هذا باعتبار نزولها فى مكة تكون مكية.
و إن الذى نراه أن فيصل التفرقة بين المكى و المدنى، ليس هو مكان النزول، إنما هو كونه بعد الهجرة أو قبلها، فإن كان قبلها، فهو مكى، و إن كان بعدها فهو مدنى و لو نزل بمكة، إذ إن الفارق بين المكى و المدنى موضوعى، لا مكانى إذ إن أكثر الموضوعات التى تتصدى لها السور و الآيات المكية: بيان أصل العقيدة الإسلامية، و مجادلة المشركين حولها، و سوق الأدلة لبطلان الوثنية، و تأكيد الوحدانية، و التعرض لأحوال المشركين، و معاداتهم للنبى صلى اللّه عليه و سلم و من آمن معه، و أخبار المبادرة بالدعوة و إنذار العشيرة، كما قال تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) [الشعراء]. و هكذا أكثر القرآن المكى يتعرض لإثبات العقيدة، و مجادلة من ينكرونها من عبدة الأوثان.
أما السور المدنية و آياتها، فإنها تبين الأحكام الفرعية، و أحوال أهل الكتاب مع أهل الإيمان، و تنظيم الدولة الإسلامية، و سن النظم لتكوينها، و تكوين
زهرة التفاسير، ج1، ص: 76
المجتمع الفاضل الذي تقوم عليه، و ما يحل و ما يحرم فى هذا المجتمع، و فيها قيام الأسرة الإسلامية التى تقوم على تقوى من الله تعالى، و رضوان من الله و رحمة.
و إذا كانت السور المكية فيها الإشارات لإيذاء المؤمنين، و استضعافهم، مع رجاء القوة كقوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) [القصص].
إذا كانت السور المكية فيها إشارة إلى الاستضعاف فالسور المدنية فيها الإذن بالقتال، و تنظيمه، و السير به فى طريق الحق و العدل، و بيان الغاية من القتال و نهايته، و هى منع الفتنة فى الدين.
و سورة البقرة أطول سور القرآن، و سميت البقرة لأظهر الحوادث التى ذكرتها، و أغربها، و هى بقرة بنى إسرائيل التى لجّوا فى السؤال عنها، و ما تدل على أخلاقهم من اللجاجة فى القول، و إرادة التلبيس فى الأمر الواضح البين، فقد كانوا كلما زادت لجاجتهم زاد الأمر تعقيدا عليهم، و تلبيسا على أنفسهم.
موضوعات السورة:
و بمقدار ما فى السورة من طول، كان فيها القدر الأكبر من الموضوعات، فهو طول فى كثرة الآيات، و ليس طولا مما يمجه علماء البلاغة، فهو كثرة موضوعات و ليس بطول ممل، و ها نحن أولاء نشير إلى موضوعاتها قبل الخوض فى تفسيرها.
ابتدئت ال سورة الكريمة بذكر شأن الكتاب الكريم، و شرف الذين يؤمنون به، و أنهم الذين يؤمنون بالغيب.
ثم ذكر القسم المقابل لأهل الإيمان و هم الكافرون الذين لا تجدى فيهم الآيات و النّذر سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، و أنهم صم بكم لا يعقلون.