کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج1، ص: 442
ألفوا من غير منافرة و لا استدبار لها، فلما كانت الهجرة، و كانت القبلة إلى بيت المقدس فقط، و استدبروها كان الاختيار، و قد أحسنوا الاختبار، و ما كان لمهاجر فى سبيل الله أن يرتد على عقبيه.
و أما الذين فى قلوبهم مرض، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين، و من ضعف إيمان من الضعفاء فى إيمانهم و لذا ارتد منهم من ارتد، و أظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنوا. هذا على تفسير القبلة التى كانوا عليها ببيت المقدس.
ثانيهما- تفسيرها بالكعبة، فالمعنى على هذا: و ما جعلنا القبلة التى كنت عليها، و هى الكعبة قبل الهجرة، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار، و قد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون، و ارتد بعض ضعفاء الإيمان، و بذلك كان التمحيص، و قد فسر بعضهم كُنْتَ عَلَيْها ، و هى الكعبة بمعنى صرت عليها، مثل قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... (110) [آل عمران]، أى صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس.
و إنى أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب و الأظهر، و التفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى و إنه لا يحتاج إلى تأويل، و من المقررات اللغوية أن ما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل.
و لقول الله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أى و إن كانت القبلة فى تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لا تزعزعها الرياح، و لا مكان فيها للشبهات التى يثيرها من لا يؤمنون.
ف «إن» هنا مخففة من «إنّ» الثقيلة، و الدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة، و هى لا تدخل على «إن» إذا كانت نافية، و كانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل، و بعدها عمن اهتدى.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 443
و الله سبحانه و تعالى العليم الخبير الذى أحاط بكل شىء علما يبين أن الاختبار كبير لا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات و تطيحه الشكوك؛ و لذلك أكد عظم الاختبار ب «إن» المخففة من الثقيلة و بالفعل الماضى (كانت) و باللام.
بقى أن نشير إلى أمر لابد من بيانه، و هو قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ و هو: هل كان الله تعالى لا يعلم من يتبع الرسول من غيره، و هو يحيط بكل شىء علما؟ و يجاب عن ذلك بجوابين:
أولهما- أن علم الله تعالى محيط بكل شىء، و هو يعلمه من قبل أن يقع، و من بعد وقوعه و يعلمه واقعا، فذلك العلم لا غيره هو الذى يظهر به الفعل و يستبين، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لا يتبع، و ليتبين الآثم من المطيع و من يستمر على اتباعه و من ينقلب على عقبيه.
و الثانى- أن الضمير قى لِنَعْلَمَ ليس لله وحده، و لكنه للجماعة المؤمنة و النبى صلى اللّه عليه و سلم مع الله تعالى، و كون الله معهم لا يستلزم أنه لا يعلم، إنما الذى لا يعلم هم المؤمنون، فالاختبار و ظهور الطائع المتبع، و العاصى المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين و هم داخلون فى قوله تعالى: لِنَعْلَمَ . و التعبير عن الأعلى، و يقصد من دونه كثير فى اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا، فإن الاستيلاء الفعلى يكون من الجند لا منه، و كأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة، و أحكمنا العمل، و الذى عمل و نظم غيره.
و قد عبر سبحانه و تعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء و كشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم، و ما كانوا مؤمنين بقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ و العقب هو مؤخر القدم، و المرتد على عقبيه، هو الخارج عن الإسلام، و هذا التعبير عَلى عَقِبَيْهِ استعارة تمثيلية، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذى دخل فيه أو أوشك أن يدخل الإيمان قلبه بحال المرتد إلى الوراء سائرا على عقبيه، سيرا مضطربا غير متماسك، فقد سجل عليه أنه رجع إلى الوراء بعد أن تقدم إلى الأمام، و أن رجوعه مضطرب بغير خطوات تسير بل على الأعقاب ينقلب، و هذا التشبيه على أساس أن الانقلاب بمعنى الرجوع إلى الوراء، بعد أن سار بضع خطوات إلى الأمام.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 444
و يصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله، و أسفله أعلاه، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه فى أسفل، و عقباه فى موضع رأسه، و فى هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته و كل مقومات الإنسانية فى نفسه.
و إن بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية، و خصوصا أن بعضهم قد مات، و صلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس، فشكا الأحياء منهم إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لا تضيع صلواتهم؛ و لذا قال تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و المراد من الإيمان هنا الصلاة، و عبر عن الصلاة بالإيمان؛ لأن الصلاة ركنه، و قوامه، فلا يعد الاعتقاد و الإذعان إيمانا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى، و إذا كان الاعتقاد به سلامة النفس و العقل، فالصلاة بها تأليف القلوب، و تطهيرها من الآثام، و قد قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ... (45) [العنكبوت] و لقد قال صلى اللّه عليه و سلم: «لا دين من غير صلاة» «1» فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها.
و لقد عبر سبحانه عن أن الله تعالى لا يضيع الإيمان بقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ، أى ما كان من شأن الله تعالى، و سنته فى الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين، و نفى الضياع يقتضى غيره و الجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب، و إن الله تعالى لا يضيع عمل عامل، فقد قال تعالت كلماته فى استجابة دعاء الضارعين إليه: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... (195) [آل عمران]، و قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) [الكهف] فذلك شأن الله و ما سنّه، و هو العادل الحكيم.
و إنه لا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر و النهى، فالذين صلوا على القبلة التى كانوا عليها كانوا طائعين، و لم يكونوا مخالفين عاصين، و لا عقوبة فى طاعة.
(1) عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له، و لا صلاة لمن لا طهور له، و لا دين لمن لا صلاة له، إنّما موضع الصّلاة من الدّين كموضع الرّأس من الجسد». [رواه الطبرانى فى الأوسط و الصغير و قال: تفرد به الحسين ابن الحكم الحبرى. و انظر مجمع الزوائد (4161)].
زهرة التفاسير، ج1، ص: 445
و إن الله مع ما ذكر رؤوف رحيم؛ و لذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الرأفة فى معناها اللغوى أشد من الرحمة، أو أعلى منها، و إن هذين الوصفين من صفات الذات العلية أو من أسماء الله تعالى، و هما متغايران و إن لم يكونا متعارضين، بل هما فى حقيقتهما متلازمان، فحيث كانت الرأفة كانت الرحمة لا محالة، فالله رحيم بعباده فى غفران ذنوبهم، و فى نعمه عليهم ظاهرة و باطنة، و فى كشف الضر عنهم، و فى قبول توبتهم، و فى أنه منع اليأس من رحمته، و هكذا وسعت رحمة الله تعالى كل شىء، و لو كان فى بعض الرحمة آلام، كقطع العضو المئوف ليسلم الباقى.
و الرأفة فى أن الله يريد توبة العاصى، و لا يريد به خسارا، و فى الهداية إلى الصراط المستقيم، فيعين من كتب عليه الخروج من الشقاء، و هكذا نجد الرحمة و الرأفة متقاربتين، و إن كانتا متغايرتين كتغاير الأخ عن أخيه، و إن الرأفة رحمة صافية لا ألم فيها، أما الرحمة فقد يكون فيها ألم كالرحمة بالمريض فى أخذ الدواء المر. و قد أكد سبحانه و تعالى وصفه بالرأفة و الرحمة بالوصف برءوف و رحيم، و بالجملة الاسمية و بالتأكيد بإن، و باللام. نضرع إلى الله تعالى أن يعمنا برحمته، و أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا، و يهدينا، إلى سواء الصراط، و أن يرحم المسلمين بالرجوع إليه.
اهل
[سورة البقرة (2): آية 144]
زهرة التفاسير، ج1، ص: 446
اهل
[سورة البقرة (2): آية 145]
بين الله سبحانه و تعالى أنه سيقول السفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم، و أن منهم أهل الكتاب، و قد كان النبى صلى اللّه عليه و سلم يتجه إلى ربه بقلبه و وجهه راجيا أن تكون القبلة هى البيت الحرام، فكانت إجابة هذه الرغبة، و كان التحويل، و السفهاء قالوا ما قالوا، و لجّ بنو إسرائيل فى سفههم، و هم يعلمون أنه الحق، و هو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، و قد قال الله تعالى فى ذلك:
كان النبى صلى اللّه عليه و سلم يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام؛ لأن الكعبة بناء إبراهيم، و لأن ملته هى ملة إبراهيم، و لأنه مثابة الناس و أمنهم، و لأنه مجتمع العرب، و مؤتلفهم، و لأن فى الاتجاه إليه تأليف قلوبهم، و معنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا، و يرفعه رجاء، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها، و ترضى العرب، و لا يكون فيها تابعا لبنى إسرائيل، بل يولى وجهه إلى قبلة إبراهيم و إبراهيم أبو الأنبياء.
فتقلب الوجه، هو الضراعة إلى الله تعالى لكى تكون القبلة هي البيت الحرام، و الرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا، و راجيا أن ينزل قرآن بتحويل القبلة.
و قد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه و تردده بين رفعه ضارعا، و خفضه خاضعا على رجاء نزول قرآن بالتحويل، و ظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدّم بالطلب على الله تعالى، و الحق أن التقلب لرجاء الوحى و للضراعة إليه و الدعاء، و ليس فى
زهرة التفاسير، ج1، ص: 447
ذلك تقدم على الله فى طلب شرعه؛ لأن الرسول عليه الصلاة و السلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما، و أنه سيعود إلى بيت الله الحرام، فهو إذا دعا بذلك و تضرع إنما يستنجز وعد الله تعالى، و يرجو أن ينزل قرآن بذلك.
و لقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه و يرجوه فقال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أى أن الله تعالى استجاب لرجاء النبى صلى اللّه عليه و سلم، و دعائه، و قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها معناها لنمكن لك و نعطيك القبلة التى ترضاها، من قبيل وليت الأمير أى جعلته واليا، فالمعنى لنعطينك القبلة التى ترضاها، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التى ترضاها.
و قد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبى صلى اللّه عليه و سلم أو دعائه و رجائه بالقسم المطوى فى الكلام الذى دل عليه جواب المصدر بلام القسم، و تقدير القول: فو الذى يحلف به لنولينك قبلة ترضاها، و هى الحق الذى قدره الله تعالى فى علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، فلابد أن يتجهوا إلى بنيته.
و إن هذه الآية فى معناها سابقة على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ... (142) [البقرة]؛ لأن تقدير قول السفهاء لا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، كما نص القرآن الكريم.
و قد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و الفاء للتفريع عما قبلها، و الوجه المراد به حقيقة الوجه؛ لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام، و قد يراد به الشخص كله، و يكون الوجه المراد به الذات، و التعبير بالوجه عن الذات؛ لأنه الذى تكون به المواجهة، و لأنه أظهر جزء فى جسم الإنسان.
و الشطر الناحية و الاتجاه، و النحو، و لقد جاء فى تفسير أبى السعود العمادى:
و قيل الشطر اسم لما ينفصل من الشىء، و دار شطر، إذا كانت منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبيه و إن لم ينفصل.
زهرة التفاسير، ج1، ص: 448
و يستعمل أيضا فى نصف الشىء أو جزئه، و مهما يكن من الأصل اللغوى فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك، و البيت الحرام قبلة الناس فى مشارق الأرض و مغاربها، روى عن ابن عباس أنه قال إن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: «البيت قبلة لأهل المسجد، و المسجد قبلة لأهل الحرم، و الحرم قبلة لأهل الأرض فى مشارقها و مغاربها من أمتى» «1» .
و قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الخطاب فيه للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و هو إجابة لما رجاه، فخصه أولا بالإجابة إرضاء و تقريبا و إيناسا، و تشريفا، و لتبيين منزلته عند الله تعالى.
و قد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام، و ليس بخاص بالنبى صلى اللّه عليه و سلم، فقال:
وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
و قد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص، و إن كان لا يدل عليه، فقد يفيد خصوص النبى صلى اللّه عليه و سلم، و خصوص المكان الذى يقيم فيه النبى صلى اللّه عليه و سلم، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب، و عموم الناس، و عموم الأمكنة، و كل يتعرف مكانه و موضع اتجاهه، ففى أى مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جانب من جوانبها، و على أى ريح من ريحها مادام متجها نحوها، غير مستدبر لها.
و قد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا و يقولون: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ... (142) [البقرة] و كان اليهود مبعث هذا التشكيك، و إن كانوا لم ينالوا فيه مأربا. و قد بين سبحانه و تعالى أنهم دائبون على إنكارهم و سفههم، و إثارتهم للريب و إن لم يستطيعوا، فقال تعالى مبينا مبالغتهم فى الجحود مع علمهم بالحق: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و الضمير فى قوله