کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج2، ص: 891
و العظماء فى الأمم هم القمم العالية التى تهدى إلى مواطن القوة، و تثير العزة من مكامنها.
و إن أردت أن تعرف مقياسا ضابطا لرقى أمة من الأمم فخذه من مقياس العظمة فيها، و قد كان بنو إسرائيل فى وقت هذه القصة فى أشد الانهيار الخلقى كما يدل على ذلك مقياسهم للعظمة بالسلالة و المال.
و فى هذه الجملة الكريمة مباحث لفظية نشير إليها:
أولها: قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ أنّى، قد تستعمل بمعنى كيف، و قد تستعمل بمعنى من أين، و هى هنا يجوز أن تكون بمعنى كيف، و يكون المعنى:
كيف يكون له الملك علينا، على أى حال يسوغ ذلك و يمكن؟ فهو استفهام المقصود منه الاستبعاد المطلق، أى أنه لا يتصور أن يكون مثله ملكا؟ أى أنه ليس فيه من الصفات، و لا فى بيته من المحتد، ما يسوغ معه أن يكون ملكا. فالمقصود من الاستفهام استبعاد أن يكون فيه سبب من الأسباب المسوغة للملك.
ثانيها: قوله تعالى: وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ المتكلم بهذا الملأ من بنى إسرائيل أى كبراء بنى إسرائيل؛ فكل واحد منهم يقرر أنه أحق بالملك، و مجموعهم يقرر أنه دونهم، و أحقيتهم من ناحية النسب و ناحية الجاه فى بنى إسرائيل، و ناحية الأنصار و العصبية.
ثالثها: قوله تعالى: وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أصل السعة أن تكون فى المكان و فى الفعل و فى الحال، و السعة فى الحال أن يكون على حال من القدرة أو المال بحيث لا يكون مضيقا عليه أو لا يكون فى ضيق، فلما كنّى عن قلة المال بالضيق كنّى عن كثرته بالسعة.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ لقد اعترضوا على اختيار طالوت بأنه ليس خيرا منهم سلالة و محتدا، و أنه ليس ذا مال وفير؛ فرد نبيهم قولهم:
زهرة التفاسير، ج2، ص: 892
أولا: بأن الله اصطفاه أى اختاره من الصفوة و أهل الهمة و النبل؛ و قال:
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، و لم يقل منكم مع أنه منهم، للإشارة إلى فضله عليهم و استعلائه بما منحه الله من خواص و صفات؛ و إنه كان يكفى اصطفاء الله له ليسكتوا و لا يعترضوا؛ لأنه ليس فوق إرادة الله إرادة، و ليس لهم الخيرة فيما اختاره الله؛ و لأنهم فوضوا أمر اختيار الملك إلى النبى، و قد اختاره اللّه ربهم و رب النبى.
ثانيا: و ردّ نبيهم اعتراضهم ببيان المقياس الصحيح لعظم الرجال و استعدادهم لقيادة الشعوب إلى مواطن العزة و الشرف؛ لقد حسبوا النسب و المال مقياس العظمة، فبين لهم مقياسها، فقال: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ أى أنه أعظم منكم جميعا؛ لأن الله سبحانه زاده عليكم فى الأمرين اللذين هما سبب للقيادة الحكيمة، و هما:
أولا: قوة العقل و سعة العلم و كثرة التجارب، و ثانيا: قوة الجسم و عظم المنّة «1» . و فى ذلك فوق التنبيه إلى مقاييس العظمة الحقيقية، إشارة إلى الأهلية للمنصب فى الدولة، فالأهلية للمنصب ليس الحسب و النسب و المال، و لكن الأهلية للمنصب بالكفاية فيه، فإذا كان الملك أعلى المناصب، و إذا كانت الرياسة الكبرى أعظم الأعمال تبعات، فليس الذى يؤهل للمناصب السعة و المال، بل الكفاية لها و القدرة عليها؛ ففى الآية الكريمة إشارة إلى مقياس العظمة، و إلى مقياس الاختيار للأعمال و المناصب.
و البسطة فى العلم معناها الاتساع فى الأفق و التجارب، و قوة العقل و التدبير و الإحكام فى التفكير، فالبسطة معناها الاتساع، و إذا أضيفت إلى العلم فمعناها الاتساع و الإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستقيم مع سلامة العقل نفسه.
و بسطة الجسم اتساعه، لا بمعنى كثرة اللحم و الشحم، بل بأن يكون سبط العظام مديد القامة بعيد ما بين المنكبين؛ و قد يراد ببسطة الجسم تلك الحقيقة، و هو
(1) المنّة: المنّة، بالضم: القوّة، و خص بعضهم به قوة القلب. [لسان العرب- الميم- منن].
زهرة التفاسير، ج2، ص: 893
بذلك فوق قوة المنة، يلقى بالرعب منظره فى قلوب الأعداء، و بالهيبة فى قلوب الأولياء؛ أو يراد ببسطة الجسم مطلق القوة؛ لأن طويل العظام عريض ما بين المنكبين يكون فى غالب الأحوال قوى الجسم، فأطلق ذلك و أريد مطلق القوة.
و يلاحظ أنه قدمت بسطة العلم على بسطة الجسم للإشارة إلى أنها فى الرياسة أقوى تأثيرا، و أنها الأصل و غيرها التابع، و أنه ليست الحاجة إلى قوة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأى و التدبير و سعة العلم و كثرة التجارب.
وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ذيل الله سبحانه و تعالى هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية؛ للدلالة على أمرين:
أولهما: أن الأمور كلها بيده سبحانه و تعالى، و أنه فعال لما يريد، و أن ما يشاء فى هذا الكون يقع، و ما لا يشاء لا يقع، و أنه سبحانه يؤتى الملك فى الدنيا لمن يشاء، و أنه إذ يعطيه هو المسيطر عليه؛ و لذلك أضيف الملك إليه إذ قال مُلْكَهُ فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه فى أى وقت شاء، فهو مالك الملك، يؤتى الملك من يشاء، و ينزع الملك ممن يشاء، و هو القاهر فوق عباده.
ثانيهما: أن كل شىء فى الوجود تحت سلطان الله تعالى، و هذا معنى أن الله واسع، أى محيط بكل شىء، قد وسع كل شئ برحمته و قدرته، و أنه يدبر الأمور على مقتضى العلم الواسع الشامل؛ فهو يربط الأسباب و المسببات، و هو يعطى لحكمة يعلمها، و يمنع لحكمة يعلمها، يبتلى الأمم بالقوة و الضعف و العزة و الذلة، و الهزيمة و الانتصار، و البأساء و الضراء، ثم النعماء و السراء، كما قال تعالى:
وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ... (35) [الأنبياء] و على الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة، و تأليف القلوب، و تحرير النفوس من ربقة الأهواء و الشهوات، و لا تستسلم للضعف، و لا تستخذى للقوى، و تناضل و تكافح و تصابر، و تتوكل على الله، و إلى الله مصير الأمور.
زهرة التفاسير، ج2، ص: 894
[سورة البقرة (2): الآيات 248 الى 249]
انتهينا فى قصة بنى إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم و أبنائهم إلى أنهم أرادوا أن يتخذوا الأسباب لإعادة ملكهم و إخراج العدو من ديارهم، فوجدوا أنه لابد من رياسة تقود إلى موطن العزة، و ميدان الشرف و الجهاد، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم قائدا يكون رئيسهم و يكون له ملكهم؛ و سموه ملكا؛ لأنهم لم يعرفوا الرئيس المالك للسلطان إلا باسم الملك؛ و قد اختار الله لهم طالوت، و لم يكن من ذى النسب فيهم، أو على الأقل لم يكن من أعلى الأنساب فيهم و كان فى المال قلا؛ و ما علموا أن الملك يكون فى غير ذى المال و النسب؛ فبين الله سبحانه أن مناط الاختيار للسلطان القدرة على تحمل أعباء الملك؛ و ذلك يتحقق بقدرة الجسم، و سعة المعرفة و العلم، و هما أمران قد تحققا فى طالوت الذى اختاره الله سبحانه و تعالى.
زهرة التفاسير، ج2، ص: 895
فالله سبحانه و تعالى يبين أن أساس الولاية قدرة الوالى على تحمل الأعباء الجسام بالتزود بالعلم الكثير و التجارب الواسعة، و الجسم القوى الذى لا يخذله فى ميدان الجهاد؛ و هم يرون الولاية بالوراثة و بين ذوى الأموال؛ فالمناط عندهم المال الوفير و النسب، و لا عبرة بشىء وراء ذلك، و الله سبحانه و تعالى يبين لهم أن الاعتبار للقدرة، و لا عبرة بما وراء ذلك.
فسكتوا، ثم أراد رب العالمين أن يثبت قلوبهم، و يزيل شكهم، فذكر لهم علامة ملكه، و أمارة السلطان الذى أفاضه الله سبحانه و تعالى على ذلك الحاكم المختار، فأوحى إلى نبيهم المبعوث أن يسوق إليهم البشرى، فقال سبحانه:
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ لقد خضعوا لقول نبيهم و لحكم الله باختيار طالوت وليا لأمرهم، متوليا قيادتهم، و لكنه خضوع القلق المضطرب الذى لم يصب السكون قلبه، فلم تطمئن قلوبهم، فساق الله إليهم آية تدل على سلطان الله، إذ لابد من أمارة تثبت القلوب، و خصوصا أنهم مقدمون على حرب فيها تشتد الشديدة و تبتلى القلوب، فلابد من نفوس ملتفة حول قائد لا يرين عليها شىء من الريب؛ و لا يمسها شئ من ظلمة الشك، بل يكون الخضوع الكامل، و الاتحاد الشامل، و التآلف بين الجيش و القائد.
فكانت آية ملك طالوت، أى أمارة سلطانه المتقرر الثابت، أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم. و التابوت على وزن فعلوت، كما قال الزمخشرى و رجحه، على اعتبار أنه من تاب بمعنى رجع و آب؛ لأن نفوسهم كانت تئوب إليه و تثوب، و تسكن و تطمئن، و يرون فيه شارة عزهم، و رمز مجدهم، و صلة حاضرهم بماضيهم. و التابوت الذى ارتبطت به قلوبهم ذلك الارتباط صندوق فيه آثار من آثار آل موسى و آل هرون، و قد فقدوه وقت أن ضربت عليهم الذلة، و أخرجوا من ديارهم، فكانت الذلة مقارنة لذلك الفقد، و العزة مقارنة للبقاء.
زهرة التفاسير، ج2، ص: 896
و قد وصف التابوت بأن فيه سكينة أى أن فيه اطمئنانا لهم، من حيث إنهم يرون فى عودته بشرى بالسلطان و العزة و القوة، و قال سبحانه: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى أن السكينة و الاطمئنان فيض من فيوض الله سبحانه و تعالى يرحم به الناس؛ و إن اقترنت تلك السكينة بأسباب فليست تلك الأسباب العادية هى المؤثرة فى وجودها، بل الذى يوجدها هو رب العالمين، و من حكمته سبحانه أن جعلها مقترنة بتلك الأسباب الدنيوية، و إن كانت غير مؤثرة فيها بالإيجاد، بدليل أنه قد توجد تلك الأسباب و لا توجد معها السكينة، و لا يكون معها الاطمئنان قط، و اقتران السكينة و الاطمئنان بالأسباب ليطلب الناس الأسباب، و يرجوا الرحمة منه، و كل شئ عند الله بمقدار.
و فى التابوت كما ذكرنا بقية من آل موسى و آل هرون، أى آثارهم، و تلك الآثار هى سبب الاعتزاز به و التيمن و اعتباره أمارة عزهم، و الصلة بين حاضرهم و ماضيهم؛ و فى تقديم السكينة على «بقية» إشارة إلى أن السكينة هى الغاية المطلوبة، و الاطمئنان هو الأمر المرغوب، فتلك الآثار ليست فى ذاتها الغاية، إنما الغاية هى السكينة، و قد اقترنت بوجودها لتكون علامة و مظهرا، و إن المؤثر بالإيجاد هو رب العالمين كما ذكرنا.
و هنا يثار بحث: كيف كان إتيان التابوت؟ أجاء بأمر خارق للعادة، أم جاء بأمر عادى، و كان التنبؤ بمجيئه أمارة سلطان طالوت و اختيار الله سبحانه له؟ ثم كيف كانت تحمله الملائكة؟ أ هو الحمل الحقيقى، أم هى القوة الروحية الغيبية التى كانت بأمر الله تعالى من غير أن تعرف أسبابها و مظاهرها؛ كما ذكر الله سبحانه من أن الله كان يؤيد المسلمين بالملائكة فى غزوة بدر، و ما كانت إلا القوى الروحية؟
للإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الباحثين فى المسائل الدينية، و المعنيين بالدراسات القرآنية فريقان:
فريق يتجه إلى تفسيره بما يقرب معانيه من الأسباب العادية، و لا يفسره بالخوارق إلا إذا لم يكن مناص، من غير أن يؤول الألفاظ بما يناقض ظاهرها، و لا يتفق مع أسلوب القرآن و منهاجه البيانى.
زهرة التفاسير، ج2، ص: 897
و فريق لا يحرص على تفسير القرآن بالأسباب العادية، بل يفسره بالخوارق ما دام ظاهره يؤدى إلى ذلك من غير محاولة تقريب؛ لأنه كتاب يتحدث عن الله، و الأسباب إنما يقيد بها العباد، و الله خالق كل شىء فهو فوق الأسباب و المسببات، و هو الفعال لما يريد، و كل محاولة لتقريب الألفاظ التى يدل ظاهرها على خرق للعادات إنما هو لتحكيم الأسباب العادية فى الإرادة الإلهية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و لقد كانت العبارة السامية إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ هذه العبارة الكريمة موضع نظر أولئك الباحثين على اختلاف منهاجهم، فالذين لا يحكمون العبارات بالأسباب العادية قالوا: إنه قد أتاهم التابوت تحمله الملائكة حقا، و إن كان هذا بطريقة لم يفصلها القرآن، فهى واضحة الدلالة بينة المعنى؛ و يرشحون قولهم بأن الآية الإلهية التى تدل على اختيار طالوت يجب أن تكون أمرا خارقا للعادة، لتكون الدلالة على اصطفاء الله له قائدا و مدبرا واضحة بينة؛ فالملائكة حملته حقا، و هم جنود الله الذين لا نراهم و إن كنا نؤمن بهم.
و الفريق الثانى الذى يفسر القرآن بالأسباب العادية ما وسعت العبارات ذلك قالوا: إن التابوت قد جاء إلى بنى إسرائيل إما بأنهم عثروا عليه، و قد غيب عنهم أمدا طويلا من غير أن يعلموا له مكانا، و الآية هى إخبار نبيهم لهم بذلك قبل وقوعه، و حمل الملائكة له هو بالقوة الروحية التى وفقتهم له بعد طول فقدهم كالقوى الروحية التى أيدت المسلمين فى غزوة بدر و غيرها من الغزوات الإسلامية.