کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1163
أولهما: أن حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليهم إذ دعوتهم إلى أن يحكم كتاب اللّه بينهم أمر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
الأمر الثانى: أن تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هى سبب توليهم عن الحق عندما يدعون إلى كتاب اللّه تعالى ليحكم بينهم.
و القرآن الكريم ينصف الحق فى أخباره، كما هو الحق فى ذاته؛ و لذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولى كان من فريق منهم، و لم يكن من كلهم؛ و هذا كقوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) [المائدة].
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فى هذه الآية يبين سبحانه السبب فى أنهم لا يقبلون على الخير و لا يعملون بالحق، و هو اعتقاد أنهم لن يعاقبوا عقابا أليما، و لن يعذبوا عذابا شديدا؛ و ذلك لما ركز فى نفوسهم من أنهم أبناء اللّه و أحباؤه، و أنهم شعب اللّه المختار، و أنهم لا يحاسبون إلا بمقدار ما يحاسب الأب ولده المدلل، و حبيبه المختار، إذا رأى مخالفة أو عنادا فإنه لا يجافيه و لا يعاقبه، و لكن يقربه و يعاتبه؛ فمعنى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ: ذلك الإعراض عن الحق، و التولى عن الداعى إليه، و اللجاجة فى الباطل؛ بسبب أنهم يقولون لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. و ليس المراد إحصاء الأيام، بل المراد الاستخفاف بالعقاب و الاستهانة به، و عدم الالتفات إلى وعيد اللّه، و زعمهم الباطل أنهم ينالون ما وعد به من ثواب و نعيم مقيم من غير عمل يعملونه، و لا كسب يكسبونه، فهم بهذا قد استناموا إلى الأمانى و غرتهم الأوهام.
و لماذا كان الاستخفاف بالعقاب و عدم الاهتمام بالوعيد سببا فى الإعراض عن الحق؟ الجواب عن ذلك أن الحق يصل إليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة: إما بإشراق النفس، و استقامة القلب، و سلامة الفكر من الهوى و الغرض، و ذلك شأن من زكت نفوسهم و علت قلوبهم؛ و إما شكر للنعمة، و وفاء لحق المنعم، و ذلك
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1164
شأن عباد اللّه الأخيار؛ و إما خوف العقاب و الحساب، و ذلك شأن المتقين و أولئك قد حرموا الأول و الثانى، فلم يبق إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا. و إن المؤمن يجب أن يصون نفسه دائما بخوف العقاب، و أن يغلب الخوف على الرجاء؛ فإنه إن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة إلى النفس و إذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأركست فى السيئات، و ارتكبت الموبقات؛ و ذلك شأن كثيرين من المنتسبين للأديان، و شأن كثيرين من المسلمين فى هذه الأيام. و إنه يجب على المؤمن ألا يغتر، و لا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب. و لقد رد اللّه سبحانه و تعالى فى غير هذه الآية على اليهود فى زعمهم أنهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال اللّه تعالى: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) [البقرة].
وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقال غررت فلانا أى أصبت غرته و نلت منه ما أريد بسبب ذلك، و الغرة: الغفلة و الغفوة. و معنى وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ: أصاب موضع الغرة و الغفلة منهم فى دينهم ما كانوا يفترون أى يكذبونه متعمدين قاصدين.
و إن الأوهام التى ترد على النفس و تستولى على القلب تدفع إلى الضلال، و كذلك شأن هؤلاء اليهود: تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، و أبغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لا يتصور أن يهوديا أحب غير يهودى لغير مأرب من مآرب الدنيا، أو غاية من غاياتها؛ و حتى لقد حسبوا أن الديانة جنس، و اندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة و غفلة فى عقولهم، فاعتقدوا ما لا يعتقد؛ اعتقدوا أنهم شعب اللّه المختار، و أنهم أبناء اللّه و أحباؤه، و اعتقدوا أن الجزاء بالجنس لا بالعمل؛ و هذا ما يفيده قوله تعالى: وَ غَرَّهُمْ فِي
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1165
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أى ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل. و لقد رد اللّه سبحانه و تعالى زعمهم بإثبات أن الثواب و العقاب بالعمل، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر؛ و لذا قال سبحانه:
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ كيف: يستفهم بها عن الحال، أى ما حالهم و ما شأنهم إذا جمعهم اللّه رب العالمين، ليوم لا ريب فيه؟ لا شك أنهم يفاجأون بذهاب غرورهم الذى اغتروه، و ضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذى أحدثوه فدلاهم فى غرورهم؛ و إنه فى هذا اليوم الذى لا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أى جزاء ما كسبت، و هم لا يظلمون أى لا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، و بالشر السوءى.
و فى الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير إليها واحدا واحدا؛ لأن فى بيانها توجيها إلى معان دقيقة فى النص الكريم:
أول هذه الأمور: الفاء فى قوله تعالى: فَكَيْفَ فإنها هى ما تسمّى فاء الإفصاح، و هى التى تفصح عن شرط مقدر، أى أنه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات فى اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التى لم تقدروها و طمس عليكم فلم تعلموها؟.
و ثانى هذه المباحث اللفظية قوله تعالى: جَمَعْناهُمْ فإن التعبير بلفظ الجمع فيه إشارة إلى معنى المساواة التامة، و أنه لا فضل لجنس على جنس، و إضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكى هذه المساواة؛ لأنه خالق الجميع، و رب الجميع، و جامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء فى الأصل و التكوين و فى الربوبية و الحفظ، و فى الجمع يوم القيامة فيكونون سواء فى الحساب و العقاب و الثواب، و كل و عمله.
و ثالث هذه الأمور: تنكير «يوم» فى قوله تعالى: لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ فإن ذلك التنكير للتهويل، و بيان عظم شأنه و أنه يوم عبوس، و أنه مع شدته و شدة
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1166
الحساب لا ريب فى وجوده و لا شك. و ذكر قوله: لا رَيْبَ فِيهِ فى هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لأجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة فى دين اللّه، الخارجة على كل أديان السماء، و الباقون إن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
و رابع هذه المباحث اللفظية فى التعبير بقوله تعالى: وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إسناد التوفية إلى ما كسبت و عدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل اللّه اللطيف الخبير، و هو مساواة الجزاء للعمل، و كأن المثاب يوفّى عمله، لا جزاء عمله، و ذلك لشدة المساواة بينهما. و قد أكد سبحانه و تعالى معنى العدالة و أن كل شىء بالقسطاس المستقيم بقوله: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ أى سيجزون بأعمالهم، و سينالون ما يستحقون، و كل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، و لا ظلم، فإذا ألقوا فى السعير فليس فى ذلك ظلم بل هو العدل. و إن سبب ضلال اليهود أنهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، و جنّبنا الاغترار فى ديننا، إنك سميع الدعاء.
[سورة آلعمران (3): الآيات 26 الى 27]
بين سبحانه و تعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية و غلبهم و سلطانهم، و ذكر أنهم فى غرورهم كفرعون ذى الأوتاد، و اعتزازه بقهره لشعبه، و طغيانه فى
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1167
ملكه؛ إذ يقول: وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) [الزخرف]. ثم أشار سبحانه إلى طغيان أهل الكتاب، و اختلافهم على النبيين، و قتلهم بعض الأنبياء، و قتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، و ما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد أن تبين لهم إلا لأن حب السلطان و الغلب قد استولى عليهم و استغرق نفوسهم، و لذلك كانوا إذا حاجّهم النبى صلى اللّه عليه و سلم أو حاجّوه نظروا فى محاجتهم إلى الأمر من وراء ذلك الغرض، و تلك الشهوة؛ و قد أمر اللّه سبحانه نبيه بأن يقابل هواهم بإعلان إخلاصه فى طلب الحق، و إسلامه وجهه للّه سبحانه! و فى هذه الآية:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ إشارة إلى أن الإخلاص للذات العلية، و طلب الحق إرضاء للّه، لا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى مالك الملك الذى يؤتى الملك من يشاء، فالإخلاص للحق جل جلاله، يؤدى إلى السلطان الحق من مالك الملك.
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ الأمر للنبى صلى اللّه عليه و سلم، و لكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن باللّه مذعن للحق، أن يضرع إلى اللّه تعالى ناطقا بهذه الحقيقة؛ فإنها الحق فى هذا الوجود، و لا يعرف مؤمن سواها؛ و المعنى فى هذا الدعاء الكريم الضراعة إلى اللّه تعالى و نداؤه بأنه مالك السلطان المطلق فى هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذات السلطان، يؤتيه و يعطيه من يشاء، و ينزعه ممن يشاء؛ أى يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان فى يده. و الملك هنا هو السلطان، و فسره بعضهم بالنبوة، و عبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار أن الملك الحق لازم من لوازمها؛ و لذا قال سبحانه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) [النساء] و الظاهر أن المراد هو السلطان. و قوله تعالى:
(اللّهم) نداء إلى الذات العلية بلفظ الجلالة، و الميم المشددة فى الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل و سيبويه. و قال بعض الكوفيين: إن الميم المشددة هى «أمّ» بمعنى قصد، أى أقصدك يا مولاى بضراعتى، و أنت صاحب السلطان.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1168
و لكن خطأ ذلك النظر الزجاج، و قرر أن معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء و الدعاء. و قوله: مالِكَ الْمُلْكِ نداء آخر و ضراعة على تقدير أداة النداء، أى يا مالك الملك، فكأن فى النص دعاءين: دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، و قد اشتمل على كل معانى العبودية، و التنزيه و التقديس، و الخضوع التام، و التسليم للّه سبحانه و تعالى بكل معانى الألوهية؛ و الدعاء الثانى لمالك الملك، و فيه كل معانى الإحساس بالربوبية، و الضعف أمام جبروت اللّه سبحانه و تعالى و ملكوته.
و قلنا إن قوله تعالى: مالِكَ الْمُلْكِ أبلغ من صاحب الملك أو صاحب السلطان؛ لأن من يملك شأن أمة لا يملك ملكها، و لكنه يستولى على ملكها و يده فيها ليست يد ملك و لكنها يد عارية؛ أما سلطان اللّه تعالى ذى الملكوت فسلطان مالك متصرف فى السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، و يمنعه ممن يشاء، و يسترد عاريته ممن يشاء؛ و لذلك قال سبحانه و تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
و هنا أمران لابد من الإشارة إليهما:
أولهما: التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة إلى أنه يأخذه منه بعد أن استقر فيه و ثبت له و ظن أنه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه اللّه من حيث لا يحتسب، و يأخذ ملكه أخذ عزيز مقتدر ثم إن فى النزع إشارة إلى أن من يؤتى سلطانا يطغى فيه و يبغى و لا يسير بسنة الحق و العدل لا يتركه طائعا، بل لابد أن يمكّن اللّه منه من ينزعه من يده، و قد يأخذه منه من كان يأتمنه «و من مأمنه يؤتى الحذر». و فى كثير من الأحيان يكون السبب فى زواله هو من كان السبب فى طغيانه.
الأمر الثانى الذى تجب الإشارة إليه: أن اللّه سبحانه و تعالى بمقتضى حكمته و ما سنّ من نظم فى هذا الوجود، و ما تسير عليه أعماله فى خلقه، لا يعطى الملك إلا من يستحقه، و يأخذ بالأسباب العادلة فى طلبه، و يقصد به رفعة قومه، و لا ينزعه إلا ممن يسىء و يطغى، و يفهم أن الملك متعة تشته و ليس تبعات
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1169
تؤدى، فينزعه منه غيره، و كذلك سنة اللّه تعالى فى الحكم بين الناس: من لا يسوس الملك يخلعه، و من حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
و كلمة «الملك» ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة فى أسرة، إنما المراد بالملك السلطان فى هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغلب، أم كان سلطانا بالاختيار و الانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، و سواء أكان محدودا بجزء من الدولة، أم ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع فى يد صاحبه كل السلطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان. و قد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء العزة، فقال:
وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ العزة ليست مرادفة للسلطان، و إن كان الأصل فى كلمة عزّ معناها غلب؛ و من ذلك قوله تعالى: وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) [ص] و لكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك فى معنى نفسى، و هو عدم الخضوع إلا للحق، و التسامى عن الخضوع الذى ينافى المروءة و الخلق الكريم، و قد يكون ذلك فى ضعيف فى بدنه مستضعف عند الناس، ما دام قد علا عن الخضوع إلا لذات اللّه تعالى؛ و إن صهيبا و آل ياسر، و خباب بن الأرتّ و غيرهم، كانوا و هم المستضعفون فى مكة الأعزاء فى أنفسهم؛ لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة إلا مع الإيمان باللّه وحده، و الاعتماد عليه وحده؛ و لذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال و نسب و سلطان إلا أذلاء. و لما قال المنافقون فى شأن المؤمنين: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ... (8) [المنافقون]. نفى سبحانه و تعالى عنهم العزة فقال سبحانه: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) [المنافقون]. و كيف يكون المنافق عزيزا و هو الذى جعل نفسه و فكره و لسانه ملكا لغيره؟ فهو قد سلب كل شئ حتى قلبه و لسانه.