کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1305
مجاهد أنه جاء الحارث بن سويد فأسلم عند النبى صلى اللّه عليه و سلم ثم كفر فرجع إلى قومه نادما، فأنزل اللّه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ فحملها إليه رجل من قومه، فقال الحارث: (إنك و اللّه ما علمت لصدوق، و إن رسول اللّه لأصدق منك، و إن اللّه لأصدق الثلاثة) ثم رجع و أسلم «1» ، و روى عن الحسن البصرى أنه قال: إنهم أهل الكتاب من اليهود و النصارى الذين رأوا نعت النبى صلى اللّه عليه و سلم فى كتابهم و شهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك و أنكروه و كفروا بعد إقرارهم.
و إن هذا هو الذى أميل إليه، فقد قال تعالى فى شأن اليهود: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة]. و إن قصص القرآن فيه بيان تعصب اليهود، و معاملتهم للمسلمين، و تلقيهم لهداية القرآن، و تواصيهم بالنفاق و الكفر.
على أنه مهما يكن سبب النزول فإن الآية تقرر حقيقة ثابتة، و هى أن النفس التى تشهد بالحق و تؤمن به ثم تكفر للهوى و العصبية لا يرجى لها هداية إلا أن تزيل منها درن الغرض، و تنخلع عن العصبية الجامحة بالتوبة النصوح.
و فى النص السامى بعض مباحث:
أولها: ما حقيقة الهداية الإلهية فى هذا المقام؟ و إنا نقول فى الإجابة غير متعرضين لما بين المعتزلة و الأشاعرة من خلاف: إن الهداية هنا هى الهداية المطلوبة فى قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) [الفاتحة] و المذكورة فى قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) [الضحى] و هى بيان الطريق الحق، و الإرشاد إلى سبيل المعرفة الحقيقية؛ و إن من يكون على هذه الحال، و هى الإيمان، و الشهادة بالحق و مجىء البينات السابقة- لا يحتاج إلى بيان فوق ما جاء إليه، بل يحتاج إلى عقاب صارم يجعله عبرة لكل من يكون على مثل حاله.
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره: سورة آل عمران 86: 89.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1306
ثانيها: قوله تعالى: وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ على أى شىء يكون العطف فى العبارة السامية وَ شَهِدُوا و قد ذكر الزمخشرى موضع العطف، فقال: «فيه و جهان: أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، و يجوز أن تكون الواو للحال، بإضمار قد، بمعنى كفروا و قد شهدوا بأن الرسول حق.
و لماذا لا تكون عطفا على كفروا نفسها و يكون من باب الجمع بين المتناقضات، كما تقول قتل القتيل و بكى عليه، أى أن حال هؤلاء مذبذبة متناقضة، فهم يكفرون بالرسول و يشهدون بأنه حق، و العطف بالواو لا يقتضى ترتيبا، فيصح أن يكون الكفر فى الوقوع متأخرا عن الشهادة و لكن يجىء سؤال:
لماذا ذكر الكفر أولا؟ و الجواب عن ذلك أن الكفر هو موضع الاستنكار، فكان تقديمه لهذا المعنى.
ثالثها: أن اللّه تعالى يذكر أنهم شهدوا بأن الرسول حق، و جاء الحق وصفا للرسول، و لعل الظاهر أن يكون وصفا لما جاء به و هو القرآن، و لكن وصف به؛ لأن اليهود ما كانوا ينكرون الشرائع السماوية، و ما كان السبب فى كفرهم هو ما جاء به النبى صلى اللّه عليه و سلم، بل كان السبب هو الحسد لشخصه و للعرب، فأشار سبحانه إلى أنهم كانوا يشهدون لشخصه، فأوصافه عندهم، و كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فشهادتهم منصبة على شخص الرسول صلوات اللّه و سلامه عليه، فهم يعرفون شخصه من أوصافه فهو فى علمهم حق و كل ما جاء به هو الحق.
وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ذيل اللّه سبحانه و تعالى الآية بهذا النص الحكيم للإشارة إلى أنهم ظالمون، فهم ظلموا أنفسهم، و ظلموا الرسول! و ظلموا الحقائق و طمسوا على بصائرهم، فلا يمكن أن تدخل الهداية إلى قلوبهم، و فى النص الكريم إشارة إلى أن الظلم يحدث فى نفس الظالم ظلمة شديدة لا ينفع معها ضوء. فتغلق كل الأبواب التى ينفذ منها النور إلى موضع الإدراك، إذ إن أساس الظلم هو تسلط الهوى و الغرض الفاسد و الحقد و الحسد على النفس،
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1307
فتنحرف عن مدارك الحق و مشارق العرفان، فلا يمكن أن يكون للهداية موضع فى النفس، فلا يهديه اللّه سبحانه، و إن الظلم بطبيعته يفسد الإدراك كله؛ لأن إدراك الحقائق يستلزم صدق النفس فى طلبها، و صدق النفس فى طلب الحقائق لا يمكن أن يكون مع الظلم. الذى يجعل الهوى مسيطرا، فالظلم ظلمات فى النفس، و ظلمات يوم القيامة.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ بعد أن شرح اللّه سبحانه نفس الذين سيطر الهوى عليهم بين اللّه جزاءهم فى الدنيا و الآخرة، و قوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إليهم فى أوصافهم السابقة، فالإشارة ليست إلى أشخاصهم؛ لأنه لم يذكر أشخاصا، إنما ذكر أوصافا، فالإشارة إلى من عندهم هذه الأوصاف، و قد ذكر سبحانه فى هذه الآية الكريمة الجزاء الأول لهم، و هو اللعنة المؤكدة الثابتة المجمع عليها، و هى لعنة من اللّه و هى أعلاها، و لعنة من الملائكة، و لعنة من الناس أجمعين، أى أنها لعنة من الخالق و المخلوقين العقلاء سواء منهم من كانت طبيعته روحية ملكية، و من كانت طبيعته إنسانية لها صلة بأعلاق الأرض و لها صلة بالروحانية السماوية؛ ذلك بأن الظلم أبغض الصفات الإنسانية عند اللّه و الناس، فاللّه سبحانه قد كتب العدل على نفسه، و لذا روى أنه ورد فى حديث قدسى: «يا عبادى إنى قد حرمت الظلم على نفسى فلا تظالموا» «1» ، و الظالمون الذين سيطر الغرض و الهوى على نفوسهم فلا يؤمنون بشىء، و لا يذعنون للحق إذا عارض أهواءهم الظالمة، لا يحبهم أحد، فإن من غلب عليه هواه، و أحب نفسه أبغضه الناس.
و لكن ما اللعنة التى ضربها اللّه على الذين اتخذوا إلههم هواهم؟ قال علماء اللغة: إن اللعن فى الأصل معناه الطرد، و إذا أسند إلى اللّه تعالى كان المراد الطرد من رحمته، و إنى أرى أنه قد يستعمل بمعنى غضب اللّه تعالى و سخطه، و هذا
(1) جزء من حديث قدسي طويل رواه مسلم: البر و الصلة و الآداب- تحريم الظلم (4674)، و أحمد: مسند الأنصار (20451)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1308
معنى لازم للطرد الذى هو الأصل فى المعنى اللغوى؛ لأن الطرد يترتب عليه السخط و المقت و الغضب؛ إذ لا يطرد من رضى اللّه عنه، و لا يطرد محبوب، و على ذلك تكون اللعنة هنا بمعنى سخط اللّه تعالى و غضبه، و سخط الملائكة و غضبهم، و لا مانع من أن يراد الطرد من رحمته إذا اجتمع مع الغضب فى مثل قوله تعالى: وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) [النساء]. فهذه معان متلازمة مترتب بعضها على بعض، فيترتب على الغضب الطرد من الرحمة، و يترتب على الطرد من الرحمة عذاب السعير، فإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، كما قال صلى اللّه عليه و سلم «1» .
و كون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه أن الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر و تلعن تلك القلوب المنحرفة التى لا تخضع لحق، و لا تؤمن للبينات، بل تتجه إلى طمس المعالم التى تنير و تهدى، فالمراد المعنى الإنسانى العام لا الإحصاء و الجمع لآحاد بنى الإنسان.
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ هذا تأكيد للجزاء الأول و تصريح يلازمه، فاللعنة دائمة مستمرة، و هم فيها خالدون لا تزايلهم و لا تنفصل عنهم أبدا، فهم فى سخط من اللّه مستمر، و سخط من الملائكة و الناس دائم، و إنه يترتب على سخط اللّه عذابه، و إذا كان سخط اللّه دائما فعذابه دائم لا يقبل التخفيف، و لذا قال سبحانه: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لأن تخفيف العذاب لازم لتخفيف الغضب و السخط، و إذا انتفى الملزوم فقد انتفى اللازم.
و هذا العذاب فى الآخرة عاجل لا يقبل التأخير، و لذا قال سبحانه: وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أى لا يؤجلون و لا يؤخرون لمعذرة يعتذرون بها أو ليتمكنوا من إصلاح خطئهم، فإن الآخرة دار جزاء عما عملوا فى الدنيا.
(1) عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنّة، فيشرئبّون و ينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، و كلّهم قد رآه، ثمّ ينادي: يا أهل النّار، فيشرئبّون و ينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، و كلّهم قد رآه، فيذبح، ثمّ يقول: يا أهل الجنّة خلود فلا موت و يا أهل النّار خلود فلا موت ثمّ قرأ:
وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ و هؤلاء في غفلة أهل الدّنيا وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1309
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن اللّه سبحانه و تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب و يحسن التوبة، كما قال سبحانه و تعالى:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ... (53) [الزمر] فباب التوبة مفتوح، و التوبة أحب إلى اللّه من العقاب، و لذلك فتح باب التوبة لهؤلاء، التى كانت حالهم ما بينا، استثنى التائبين فى هذا النص الكريم، و المعنى أن اللعنة مستمرة، و العذاب لا يخفف إلا للذين تابوا من بعد إجرامهم و أصلحوا، و معنى ذلك أن يقوموا بعمل صالح، فالتوبة الحقيقية مظهرها العمل الصالح، و هو ركن من أركانها و غايتها الجوهرية، فمن ادعى التوبة من غير عمل، فهو كاذب فيها، و من تاب تلك التوبة النصوح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى بمقتضى اتصافه البالغ بالغفران يقبل التوبة، و بمقتضى الرحمة يجبّ ما كان من سيئات، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، و كفر عنا سيئاتنا، و توفنا مع الأبرار.
[سورة آلعمران (3): الآيات 90 الى 92]
بين اللّه سبحانه و تعالى حال أولئك الذين أركسوا أنفسهم فى الضلالة و قد جاءتهم البينات من ربهم، و شهدوا أن الرسول حق، بين حالهم فى الدنيا و حالهم فى الآخرة، و أن مصيرهم إلى النار، إلا إذا تابوا و عملوا عملا صالحا، فإن اللّه تواب رحيم، و إن الآيات السابقة تشير إلى احتمال توبتهم بيقظة الضمير بعد
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1310
غفلته، فإن النفس قد تظلم و تشتد ظلمتها، ثم ينبثق إليها النور من إحدى النوافذ، فتكون الهداية بعد الضلال، و الإيمان بالحق بعد الباطل، و ذلك مشروط بألا يمعن الشخص فى طريق الضلال فيزداد كفرا و شرا، أما الذين يمعنون فى الغواية، و لا يقفون فيها عند نهاية، فإنهم يستمرون فى غيهم يعمهون، و لا يتوبون؛ و لذا قال تعالى فيهم:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
فهذا كما أشرنا قسم ممن كفروا بعد إيمان؛ لأن أولئك قسمان أحدهما يرجى توبته، و ذلك هو الذى لم يوغل فى طريق الكفر و الإمعان فيه، و قد أشار سبحانه بقبول توبته بقوله تعالى مستثنيا له: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... (89) [آل عمران] و القسم الثانى هم الذين كفروا بعد أن آمنوا، و لم يكتفوا بذلك بل لجوا فى العناد، و استرسلوا فى الغىّ، و استمروا فى مقاومة الحق، فإنهم كلما أوغلوا فى الباطل بعدوا عن التوبة و الرجوع، و مثلهم كمثل من يسير فى صحراء و قد ضل الطريق، فإنه كلما أوغل فيها ازداد ضلاله. و هذا القسم لا تقبل توبته؛ لأنه لا يتوب توبة نصوحا، و قد عبر سبحانه عن إيغالهم فى الشر بقوله: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أى أن الكفر درجات، و كل إيغال فيه ازدياد؛ ذلك لأن الكفر جحود القلب مع قيام الأمارات و الأدلة، و كلما اشتد العناد اشتد الجحود، و استغلظت الحجب التى تحول بين المرء و الهداية، فإذا كان الحجاب عن الإيمان بالحق رقيقا أولا، فبالإمعان فى العناد يغلظ الحجاب، و يستمر فى الغلظ حتى يحكم الإغلاق، و هو الذى عبر اللّه عمن تصاب قلوبهم به بقوله تارة: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... (108) [النحل] و تارة خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... (7) [البقرة] و قوله تعالى مرة ثالثة: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين].
و أولئك قال تعالى فيهم: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، فنفى سبحانه و تعالى قبول توبتهم، و لنا أن نفسر نفى قبول التوبة على ظاهره بمعنى أنه قد تقع منهم توبة
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1311
و لكنها ليست التوبة التى تقبل، و نص على قبولها فى قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ... (25) [الشورى] و عدم قبول توبتهم هذه لأنها بظاهر من القول، أو لأنها فلتات نفسية تحدث أحيانا فى حال كرب أو شدة، ثم يعودون لما كانوا عليه كما قال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (23) [يونس]. أو تكون التوبة فى آخر رمق فى الحياة كتوبة فرعون و قد أدركه الغرق، فقد حكى اللّه تعالى ذلك عنه إذ يقول: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) [يونس]. فإن هذه التوبة لا تقبل؛ لأن اللّه سبحانه و تعالى يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) [النساء].
هذا هو الفرض الأول فى تخريج الآية الكريمة، و هو عدم قبول التوبة إن وقعت، و الفرض الثانى أن نقول إن النفى المؤكد منصب على عدم وقوع التوبة، بله على عدم قبولها، فالمعنى لن تقبل توبتهم، لأنه لا توجد لهم توبة قد استوفت شروط القبول، و مؤدى الفرضين واحد، لأنه على تسليم وجود توبة فى الفرض الأول يجب أن نقرر أنها كلها توبة، و قد أكد سبحانه النفى بكلمة (لن) التى تدل على تأكيد النفى، كما أكده ببيان استمرار ضلالهم فقال سبحانه: وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ: