کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1623
البغض الكلّى الذى تنسى فيه كل المحاسن. و روى مكحول عن ابن عمر أنه كان يقول: «إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عز و جل، فلا يلبث أن ينظر فى العاقبة، فإذا هو قد خير له».
وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً بين سبحانه فى النصوص الكريمة السابقة حال أخذ الرجل بعض ما آتاه إذا أتت المرأة بفاحشة بينة واضحة تعلن نفسها، و ذكر سبحانه علاج الرجل لنفسه إذا أحس بكراهية، لكى يتجنب الطلاق الذى قال فيه النبى صلى اللّه عليه و سلم: «ما أحلّ الله شيئا أبغضه كالطلاق» «1» ، فإذا استرسل فى الكراهية، و اختار أبغض الحلال، فإنه لا يصح أن يسترد منها أى مقدار أعطاها إياه و لو كان قنطارا من فضة أو ذهب، فالتفريق هنا بمجرد إرادته لا بسبب من جانبها، و لذا قال: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ و عبر فى التعليق ب «إن» و هى لا تكون لوقوع الفعل مؤكدا، لينبه إلى أن الإرادة قد تكون غير سليمة، و غير مبنية على أسباب قوية، و الاستبدال طلب البدل، بأن يطلق واحدة و يتزوج أخرى. و قوله تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً لبيانه أنه لا يسترد شىء مهما يكن كبيرا؛ إذ القنطار أقصى ما يتصور من مهور. و القنطار أصله من قنطرت الشىء إذا رفعته، و منه القنطرة؛ لأنها بناء مرتفع مشيد، و قد قال الشاعر:
كقنطرة الرّومىّ أقسم ربّها
لتكتنفن حتّى تشاد بقرمد «2»
و خلاصة المعنى أنه لا يصح أن يأخذ شيئا مادام التفريق بإرادته و بسبب من جانبه، و لم يكن لها فيه أى عمل، و هذا لا يتعارض مع قوله تعالى: ... وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ... (229) [البقرة] فإن الآية التى نتكلم فيها كان الطلاق بسبب من جانبه و هو إرادته
(1) عن محارب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ما أحلّ اللّه شيئا أبغض إليه من الطّلاق». رواه أبو داود: الطلاق- كراهية الطلاق (2177).
(2) البيت قاله طرفه بن العبد البكرى فى معلقته و هو تشبيه للناقة. و القرمد و القرمدة: الآجر.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1624
الاستبدال، و أما الآية الأخرى، فإنها عندما تريد المرأة ذاتها التفريق غير معضولة و لا مبخوسة أى حق من حقوق الزوجية المفروضة على الزوج.
و قد وبخ سبحانه و تعالى على الأخذ عند إرادة الاستبدال بنصين كريمين:
أولهما قوله تعالى:
أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً هذا توبيخ و استنكار للأخذ، و البهتان هو الكذب غير المعقول الذى يتحير فيه العقل، و يطلق على كل أمر يتحير العقل فى إدراك سببه، أو لا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدى على الناس من غير عداوة سابقة و لا نفع مجلوب، و لا غرض مقصود. و الإثم الذنب العظيم، و المبين الواضح الذين يعلن نفسه و وضوحه، و يكشف عن مقدار الأذى فيه. و قد قال العلماء: إن البهتان و الإثم مصدران قصد بهما الوصف، أى أتأخذونه باهتين فاعلين فعلا تتحير العقول فى سببه، آثمين بفعله إثما واضحا معلن الوضوح مستنكر الوقوع، و يصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله، و يكون ذلك توبيخا أشد، و يكون المعنى عليه: أتأخذونه لأجل البهتان و الإثم المبين؟ و يكون فى التعليل توبيخ أشد، و هذا هو الذى نراه.
هذا، هو النص الأول الموبّخ، و النص الثانى هو قوله تعالى:
وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً الإفضاء معناه الخلوص، أى يخلص كل واحد للآخر، و فسر بأنه الخلوة بين الرجل و زوجه ليس معهما أحد؛ لأن الفضاء هو الذى يكون بينهما. و الاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، و هنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال. و المؤدى أن الأخذ عند إرادة الاستبدال أمر مستنكر فى ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التى كانت بين الزوجين. و قد ذكر سبحانه و تعالى سببين للاستنكار: أحدهما- الإفضاء و خلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة. و ثانيهما- الميثاق الغليظ أى الشديد القوى الثابت الذى هو عهد ثقيل لا يصح منه التخلص. و ذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1625
صارت فيه نفس كل واحد قطعة من الآخر، و هو أمر الله تعالى إذ يقول: ... فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ... (229) [البقرة]، و ليس الأخذ من التسريح بإحسان، و هو المودة التى تظل بين الزوجين فى مدة الحياة الزوجية التى صورها الله سبحانه و تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) [الروم].
هذا، و قبل أن نختم الكلام فى هذه الآيات نقرر أمرين:
أحدهما- أن الرجل فى افتراقه عن زوجه لا يحل له دينا أن يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، و لا يحل أن يأخذ أكثر مما أعطى إذا كان النشوز من جانبها، و ما أخذ فى غير ذلك يكون كسبا خبيثا، و قد اتفق على ذلك العلماء.
ثانيهما- أن قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً تدل على أنه ليس للمهر حد أعلى، و قد استدلت بذلك امرأة أمام أمير المؤمنين عمر عندما قال: (ألا لا تغالوا فى صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة فى الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى اللّه عليه و سلم؛ ما أمهر قط امرأة من بناته و لا نسائه فوق اثنتى عشرة أوقية). و جعل رضى الله عنه ذلك حدا أعلى، فقالت امرأة: (يعطينا الله و تحرمنا)، و تلت الآية، فقال الإمام العادل:
(أخطأ عمر و أصابت امرأة)، و لكن عمر كان ينظر بنور الله و روح الإسلام، فإن أخطأ فى الحد بمقدار، فإنه لم يخطئ فى منع المغالاة فى المهور، و لله عاقبة الأمور.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1626
[سورة النساء (4): الآيات 22 الى 23]
كانت الآيات السابقة فى بيان تحريم ظلم المرأة فى حال الزوجية و ظلمها بعد وفاة زوجها، و ظلمها عند إرادة الافتراق عنها. و فى هذه الآيات يبين الله سبحانه من يحل من النساء الزواج بهن، و من لا يحل، و إذا كانت الآيات السابقة لدعم الأسرة بمنع الظلم؛ لأن العدل به قوام الأسرة و قوتها، و منع الظلم تقوية سلبية، فالآيات التى تبين المحرمات من النساء تبين أسباب قوة الأسرة من ناحية المودة التى تربط بين الزوجين برباط الرحمة و المحبة، و تجعل الزواج مثمرا ثمراته الطيبة من العلاقة الزوجية التى لا ترنّقها علاقة أخرى. و قد ابتدأ سبحانه ببيان تحريم زوجة
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1627
الآباء إذا افترقوا عنها، فكما أن الرجل لا يحل له أن يرث حق تزويج زوجة أصله كذلك لا يحل له أن يتزوجها. و قد ابتدأ بهذا النوع من التحريم لتناسبه مع منع ميراث حق التزويج للنساء. و لذلك قال سبحانه:
وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
كان فاشيا بين العرب فى الجاهلية أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، و كان ذلك يؤدى إلى منعها من حرية الاختيار فى الزواج، و قد نهى الله سبحانه و تعالى عن ذلك فى الماضى من الآيات الكريمات، و هنا يمنع تزوج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم؛ و ذلك لأن كلمة «آباؤُكُمْ» تشمل كل الأصول من الرجال أى تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه أم كانوا من جهة أمه، و ذلك من قبيل الإطلاق المجازى.
و النكاح هو عقد الزواج، و هو لا يستعمل فى القرآن إلا على الزواج، و قد يطلق على المباشرة نفسها، و لكنه لم يطلق فى القرآن إلا على العقد، و لذلك قال الشافعى و كثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة فى العقد، و إذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب و إرادة المسبب، و ذلك أنه لا يكون إلا فى المباشرة الحلال، و الحنفية قالوا إنه حقيقة فى المباشرة مجاز فى العقد. و الذى يتفق مع تعبير القرآن هو رأى الشافعى.
و لما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا فى الجاهلية، و ربما وقع فيه بعض المؤمنين فى الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان فى الجاهلية هو موضع عفو لا يعاقب الله تعالى عليه، و لذا قال سبحانه: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أى أنكم لا تؤاخذون على ما قد مضى منكم فى الجاهلية، و الاستثناء هنا منقطع، و «إلا» بمعنى «لكن»، و المعنى: لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه، و الله يعفو عنكم، و هو ينته بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، و عفا الله عما سلف، و من عاد فينتقم الله منه و الله عزيز ذو انتقام.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1628
و التحريم له حكمته. فإنه يتنافى فيما للآباء من وقار، و ما يجب لهم من حسن صحبة، و لأن امرأة الأب لا تحتشم على الابن، فلو كانت تحل له بعد الفراق لتطلعت النفس إليها، و قد ترغب فيه، فتفارق الأب أو تغاضبه طمعا فى ابنه، و لا إساءة إلى الأب أبلغ من هذا، فكان المنع لأجل الرحم و المودة فى القربى، و حسن الصحبة. و العقد ذاته سبب التحريم، فإذا عقد الأب أو الجد فإنها تكون حراما على الأبناء و الأحفاد، و لو لم يدخل بها؛ لأن ذلك ما يقتضيه الإحسان إلى الوالدين.
و فى النص إشارة إلى أنه لا عقوبات من غير نص محرّم، و هؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع المحرم كان العقاب، و لا عقاب قبل النص المحرم.
و إن ذلك النوع من النكاح سيئ فى ذاته، لا يقدم عليه كريم، و لذا قال سبحانه و تعالى فيه:
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود: أولها أنه فاحشة، أى أمر زائد فى القبح شرعا و خلقا، و الفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة. و الوصف الثانى أنه مقت، و هو مصدر وصف به أى أنه ممقوت من ذوى المروءات لا يقبلونه و لا يرضونه. و الثالث أنه أسوأ سبيل لطلب الولد؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه و بنته أختا لأخيه أو لأخته من أبيه، و ذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
و قد قال الزمخشرى فى هذا النص: «كانوا ينكحون روابهم (أى تنكح المرأة ربيبها)، و ناس منهم كانوا يمقتونه من ذوى مروءاتهم و يسمونه نكاح المقت، و كان المولود عليه يقال له المقتى، و من ثم قيل وَ مَقْتاً، كأنه قيل إنه فاحشة فى دين الله بالغة فى القبح، قبيح ممقوت فى المروءة، و لا مزيد على ما يجمع القبحين».
بعد ذلك بين سبحانه و تعالى المحرمات من الأقارب فقال تعالى:
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1629
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ هذا النص الكريم لبيان تحريم أربع طوائف من القرابة، فمعنى حرمت عليكم أمهاتكم، أى حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
و الطوائف الأربع أولاهن: الأمهات و الجدات؛ لأن الأمهات يراد بهن الأصول، إذ الأم تطلق على الأصل، كما قال تعالى: ... وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) [الرعد] و يصح أن يراد من الأمهات الصّلبيات، و لكن يثبت تحريم الجدات بطريق الأولى، لأنه إذا كانت العمة و الخالة حراما، فأولى أن تكون الجدة حراما، لأن الأم هى طريق الوصول فى القرابة إلى هؤلاء، و قد أجمع المسلمون على تحريم الجدات.
و الطائفة الثانية: الفروع من النساء، و ذلك ثبت بقوله تعالى: وَ بَناتُكُمْ بالعطف على أُمَّهاتُكُمْ، و قد ثبت تحريم البنات بالنص، و بقية الفروع من النساء ثبت تحريمهن بالأولى؛ لأن النص يحرم بنت الأخ و بنت الأخت، و إذا كانت بنت الأخ و الأخت، حراما، فأولى بالتحريم بنت البنت و بنت الابن؛ لأن البنت أقرب من الأخت.
و الابن أقرب من الأخ، فأولادهما أولى بالتحريم، و قد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن.