کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1652
وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه و تعالى قبول توبة عباده، و ستر ذنوبهم و غفرانها، و ذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب، و تابوا إلى الله توبة نصوحا؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب، و قد بين لهم طريق الحق، و الوصول إليه، و أن الماضى من الذنوب لا يعوق عن الاتجاه إلى الله و لا يكون سببا للقنوط من رحمته، كما قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) [الزمر] و على ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم، و وجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمة، و تسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم و تصغى إلى الحق أفئدتهم، و غفران الذنب إن أحسنوا التوبة و أخلصوا النية، و اعتزموا السير فى طريق الحق، و إنه فى الوقت الذى يريد الله للناس الهداية و التوبة- يوجد- من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية، و لذا قال سبحانه:
وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً هذه إشارة إلى كمال المباينة بين دعوة الحق التى يدعو إليها الله سبحانه و تعالى، و يبين سبلها، و دعوة أولياء الشيطان، فإن دعوة الله تعالى هى دعوة إلى الفطرة السليمة التى لم تنحرف، و لم تخرج عن النجد السوى، ليس فيها تحريم للطيبات و متع الحياة و ليس فيها انطلاق إلى الأهواء و الشّهوات و الخروج عن سنن الفطرة المستقيمة.
و أما دعوة أولياء الشيطان، فهى دعوة إلى الانحراف، و الميل إلى جانب الشهوة ميلا عظيما، ينحرف به عن سبيل الإنسانية المهذبة. و هذا الكلام يدل على أن الناس فى كل عصر يوجد فيهم داعيتان: أحدهما إلى الحق و الاعتدال، و أولئك يدعون بدعاية الرحمن، و هداية الأديان لا تحرم ما أحل الله من طيبات، و لكن بقدر لا اعتداء فيه و لا انحراف، و آخرون هم داعية الشيطان، و هؤلاء يكونون بأعمالهم و أقوالهم و أشعارهم فى الماضى و صحفهم فى الحاضر داعين إلى الانحراف، و عبر عن هؤلاء سبحانه بقوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أى
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1653
أنهم، بسبب استغراق الشهوات لنفوسهم و صيرورتها قائدا لهم يتبعونه، قد أصبحوا يريدون أن يكون الناس على شاكلتهم من الانحراف. و قد بين سبحانه إرادتهم للمهتدين فقال: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً، و الميل أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب، و لما كان الاعتدال فيه العدل أطلق الميل على الجور و الاعتداء، و هؤلاء لا يكتفون بمجرد الميل يريدون الناس عليه، بل يريدون أن يميلوا ميلا عظيما، أى يريدون أن ينحرفوا انحرافا مطلقا فيبتعدوا عن الاعتدال إلى أقصى الانحراف.
سبحانك ربى، ما أصدق بيانك و أحكم قرآنك! إننا نجد الآن كما كان فى الماضى الذين يتبعون الشهوات و يريدون من أهل الحق أن يميلوا ميلا عظيما، فهؤلاء الآن يدعون إلى مجونهم، مرة باسم الوجودية، و أخرى باسم التحرر، و ثالثة باسم الحرية، و قد كتبوا فى ذلك كتبا، و نشروا قصصا مثيرة يدعون إلى أن يميل الناس كل الميل، و استرسلوا فى ذلك استرسالا بكل وسائل الدعاية، فمن خيّالة ترى المناظر المثيرة، و مناظر فى الطرقات تحرض على الفسق و المجون، و من استباحة علنية لكل ما يخالف الدين و الخلق لتتحقق إرادتهم، و لكن إرادة الله تعالى غالبة بعونه سبحانه.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يريد الله تعالى بهذه الأحكام التى ليست فيها شدة تنوء بها القوى الإنسانية، و ليس فيها حرمان من الطبائع البشرية، كما أنها لا تفتح باب الشهوات و العبث و المجون، يريد سبحانه أن يخفف عنكم، فلا يكون فيكم الحرمان من متع الحياة، و لا يكون فيكم الانطلاق الذى يحل جماعتكم، و يسلط عليكم الأهواء و الشهوات، فترديكم، و تذهب ريحكم، فشرع الله تعالى إباحة الطيبات، و من حرمها فقد خالف أمر ربه إذ قال سبحانه: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... (87) [المائدة] و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ... (32) [الأعراف] و قال صلى اللّه عليه و سلم: «كلوا
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1654
و اشربوا و البسوا من غير سرف و لا مخيلة» «1» ، و ليس فى الإسلام رهبانية، و لا انقطاع عن النساء، و لكن ليس فيه إباحة مطلقة، و كان ذلك التخفيف فى التكليف ليسهل على الإنسان الاحتمال، و قد قال تعالى:
وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أى خلق الله تعالى الإنسان و الضعف ملازم له، و ليس الضعف المذكور هو الضعف البدنى فقط، بل يشمل الضعف النفسى، فالتكليفات يلاحظ فيها ذلك الضعف، و لذلك كانت كل التكليفات يسهل تعويد النفس عليها، و لا يصعب احتمالها و المداومة عليها، و قد حث الإسلام على السهل من الأعمال التى تمكن المداومة عليها، و لذا قال عليه الصلاة و السلام:
«أحب الأعمال إلى الله أدومها و إن قلّ» «2» ، و لضعف الإنسان أبيح له من الشهوات ما لا يجعله عبدا لشهوته، بل يكون سيدا عليها، و إن أبرز مظاهر الضعف الإنسانى يكون أمام النساء، و لذا أبيح له مثنى و ثلاث و رباع، من غير بغى و لا ظلم.، و لقد قال سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا آتاهم من قبل النساء، فقد أتى علىّ ثمانون سنة، و ذهبت إحدى عينى، و أنا أعشو بالأخرى، و إن أخوف ما أخاف علىّ فتنة النساء «3» ! وقانا الله تعالى شر ضعف نفوسنا، و قوى عزائمنا و هدانا إلى الحق، و الله سبحانه و تعالى يتولانا برحمته.
(1) ذكره البخارى تعليقا، و سبق تخريجه من رواية النسائى و ابن ماجه و أحمد عن عمرو بن العاص رضى الله عنهما.
(2) عن عائشة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «سدّدوا و قاربوا و اعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنّة، و أنّ أحبّ الأعمال إلى اللّه أدومها و إن قلّ». رواه البخاري: الرقاق- القصد و المداومة على العمل (6464).
(3) عن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما عن النّبيّ صلى اللّه عليه و سلم قال: «ما تركت بعدى فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء» [رواه البخارى: النكاح- ما يتقى من شؤم المرأة (5069)، و مسلم: الذكر و الدعاء- أكثر أهل الجنة الفقراء (2740)].
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1655
[سورة النساء (4): الآيات 29 الى 32]
فى الآيات السابقة بين سبحانه و تعالى الأسس التى يقوم عليها بناء الأسرة، و كيف يختار كل واحد من الزوجين صاحبه، و بين الآفات التى قد تعترى الأسرة فى ابتداء تكونها، و بين أن دعائم الأسرة التى يقيمها عليها هى من الفطرة، و هى سنن الذين كانوا قبل الإسلام. و بعد هذا انتقل إلى العلاقات الاجتماعية العامة، و ذلك تدرج من الخاص إلى العام، فالعلاقات فى الأسرة خاصة و العلاقات بالمعاملات المالية علاقة عامة، و لذا قال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أكل المال معناه أخذه، و أطلق الأكل و أريد به الأخذ للإشارة إلى الأصل فى وظيفة المال الإنسانية و هو أن يكون وسيلة لمتع الحياة التى أخصها الأكل، و إذا تحول المال من كونه وسيلة لنيل المطاعم إلى أن يقصد لذاته ليكون متعة مطلوبة كالأكل، فعندئذ يكون الشح
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1656
و الحرص و التنازع على طلبه بحل أو بغير حل، و هذا شأن من يأخذون الباطل يستمتعون به كما يستمتع الآكل بالطعام. و عبّر بأموالكم للإشارة إلى أن مال آحاد الأمة مال الأمة موزعا بين آحادها بتوزيع الله تعالى الذى قسم الأرزاق، و أن المال كله فى حماية المجتمع، و لو كان مملوكا ملكا خاصا. و ذكر كلمة بَيْنَكُمْ للإشارة إلى أن التبادل بين الآحاد يكون على أساس من الحق، و لا يكون بالباطل، و الباطل هو الطرق المحرمة لجمع المال كالربا و الرشوة و السرقة و الغصب و النصب و التزوير و الغش و التدليس و الاحتكار الآثم، و غير هذا من الأساليب التى لا تبيحها شريعة و لا يبيحها قانون.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ الاستثناء هنا منقطع، و المعنى لكن يباح لكم أخذ المال بالتجارة الناشئة عن تراض، فلا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس أخيه «1» ، كما ورد فى بعض الآثار عن النبى صلى اللّه عليه و سلم. و قد يسأل سائل: لماذا جاء هذا بعد النهى عن أكل مال الناس بالباطل؟ و الجواب عن ذلك أن بعض ما يستباح مما حرمه الله يشّبه بالتجارة، فالذين يأكلون الربا يشبهون الزيادة بالكسب الذى يجىء من البيع و الشراء، و لذلك حكى الله سبحانه عن المشركين أنهم قالوا:
... إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ... (275) [البقرة] ورد الله قولهم: ... وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ... (275) [البقرة] و بهذا بيّن الله سبحانه و تعالى حل التجارة حتى لا يتوهم أحد أن مكاسب التجارة من أكل أموال الناس بالباطل، فإنها مال حلال ما دام أساسها التراضى و طيب النفس.
و التراضى أساس العقود عامة و أساس المبادلات المالية خاصة، فلا بيع من غير تراض و لا شراء و لا إجارة و لا شركة و لا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا. و قد وسع الفقهاء الباب للرضا، فأباحوا للعاقد أن يفسخ العقد إذا خفيت العيوب و لم تظهر؛ لأن الرضا لم يكن على أساس سليم، و أباحوا للعاقد
(1) «إنّه لا يحلّ مال امرئ إلا بطيب نفس منه» جزء من حديث رواه أحمد (20172): أول مسند البصريين عن عم أبى حرة الرقاشي.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1657
أن يشترط لنفسه حق الفسخ، و من الفقهاء من أباح له الفسخ طول مدة مجلس العقد، و لو أعلن الرضا، و ذلك كله للاحتياط، و لكى يكون الرضا على أساس من العلم الصحيح و الجزم القاطع، و البتّ القائم على بينة و معرفة.
و هل التراضى أساس حر للتعاقد من غير قيد يقيده إلا التحريم؛ بمعنى أن كل ما يشترط و يتعاقد عليه المتعاقدون يكون حلالا ملزما للعاقدين و لو لم يرد به نص خاص؟. للفقهاء فى ذلك منهاجان مختلفان أحدهما: أن التراضى أساس للإلزام و الالتزام و لو لم يرد نص لكل عقد و شرط مادام لا نص يمنع، فكل ما يشترطه العاقدان و يتراضيان عليه يكون لازما لا يصح نقضه، إذا لم يكن نص يحرمه، و لقد قال فى ذلك عمر- رضى الله عنه-: مقاطع الحقوق عند الشروط. و أكثر الحنابلة و بعض المالكية على ذلك المنهاج. و المنهاج الثانى: أنه لا يلزم من الشروط و العقود إلا ما جاء الدليل على وجوب احترامه، و هذا منهاج الشافعية و الحنفية فعندهم لا يلزم الشرط إلا إذا قام الدليل على وجوب الوفاء به.
و التجارة باب من أبواب الكسب الطيب و فيها فائدة للناس، و هى تنقل ما فيه الحاجة الإنسانية من مكان إلى مكان، و بهذا النقل تتغير قيمة الأشياء، و زيادة القيمة بهذا النقل تقارب زيادة الأشياء بالزرع، و زيادة قيم الأشياء بالتحويل الصناعى، فإن الحديد مثلا إذا تحول إلى آلة زادت قيمته بما زادت الصناعة فيه، فكذلك بنقل البضائع من مكان إلى مكان تزيد القيمة بهذا النقل.
و إن علماء المسلمين كانوا يرحبون بالتجارة التى تنقل البضائع من بلد إلى بلد و من إقليم إلى إقليم، و لا يرحبون بالتجارة فى البلد الواحد؛ لأن هذا ليس فيه طلب للأرزاق، و لأنه قد يؤدى إلى الاحتكار، و قد جاء فى القرطبى:
«و البياعات التى تحصل بها الأغراض نوعان: تقلب فى الحضر من غير نقلة و لا سفر، و هذا تربص و احتكار، قد رغب عنه أولو الأقدار، و زهد فيه ذوو الأخطار.
زهرة التفاسير، ج3، ص: 1658
و الثانى: تقلب المال بالأسفار، و نقله إلى الأمصار، و هذا أليق بأهل المروءة و أعم جدوى و منفعة» «1» .
و إن النبى صلى اللّه عليه و سلم قد حث على الاتجار بالنقل من بلد إلى بلد، و منع الاحتكار و ما يؤدى إليه، فقال النبى صلى اللّه عليه و سلم: «المحتكر خاطئ و الجالب مرزوق» «2» .
وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً جاء هذا بعد النهى عن أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المال عند الناس بمنزلة النفس أو قريب منها، و قد اختلف العلماء فى معنى قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فقال بعضهم: معناه لا يقتل أحدكم نفسه، فإن ذلك إثم، و من قتل نفسه فقد اعتدى على نفس حرّم الله قتلها، و هذا تأويل غير متفق مع السياق، و إن كان ظاهر اللفظ ربما يفيده، و قال بعضهم: إن المعنى و لا يقتل بعضكم بعضا؛ فإن قتل واحد منكم للآخر قتل لأنفسكم، و تحريض على الدماء بينكم، و قتل نفس كقتل الناس جميعا، و من ذلك قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (32) [المائدة] و إن السياق على هذا يكون فيه ترقّ فى النهى عن الاعتداء، ابتدأ بمنع الاعتداء على المال، ثم بمنع الاعتداء على النفس، فهو انتقال من الكبيرة إلى أكبر منها. و قال بعضهم إن المعنى لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض، و بارتكاب المعاصى، فإن ذلك مفرق لجماعتكم مفسد لأمركم مذهب لوحدتكم، و بذلك تقتل الأمم و الجماعات، و قد ارتضى هذا ابن بشير فقال: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى بارتكاب محارم الله تعالى و معاصيه، و أكل أموالكم بينكم. و إن هذا هو الذى نرتضيه، و هو يتضمن فى ثناياه النهى عن القتل بكل ضروبه لأنه داخل فى محارم الله.
(1) راجع الجامع لأحكام القرآن: تفسير سورة النساء (29). الجزء 5، ص 31.
(2) روى مسلم فى صحيحه: المساقاة- تحريم الاحتكار فى الأقوات (1605) أنه كان سعيد بن المسيّب يحدّث أنّ معمرا قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «من احتكر فهو خاطئ».