کتابخانه تفاسیر
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2822
و يحتمل أن المعنى أنها تكون فى الدنيا صادرة عن نفوس طيبة مؤمنة، و تكون خالصة لله تعالى، و خالصة من كل إثم، أما غير المؤمنين فإن تناولهم لهذه الطيبات قد يكون إثم مبطئ من الخير، فحبطت أعمالهم، و الاحتمالان جائز جميعهما، فيكون المعنى خالصة يوم القيامة لهم، و خالصة من الآثام فى الدنيا، و ختم اللّه- سبحانه و تعالى- الآية بقوله تعالت كلماته:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، أى كهذا البيان الذى بينه تعالى فى هذا الشأن يفصل، أى يبين الآيات القرآنية و الكونية لقوم من شأنهم أن يعلموا، فلا تغطى غواشى الأوهام و الأهواء قلوبهم، فيدركون الحق و يعلمون بنور بصائرهم، و من شأنهم أن يعلموا؛ و لذا عبر بالفعل المضارع و اللّه تعالى أعلم.
حرم المشركون أو بعضهم اللبس فى الطواف، و حرموا بعض الأطعمة، و أباح اللّه تعالى ذلك للمسلمين فى غير إسراف و لا لتفاخر، بل بتجمل و تستر، بعد ذلك بين اللّه ما حرمه على الناس، و تحريمه مستمد من الفطرة؛ و لذا أمر اللّه تعالى نبيه أن يبنى لهم ما حرم و الفطرة تحرمه. قال عز من قائل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ .
أمر النبى صلى اللّه عليه و سلم بقوله قُلْ ؛ لأنه مبين شريعة القرآن، و المبلغ لها، و بين لهم قصر التحريم على الفواحش و الإثم و البغى، و الشرك و الكذب على اللّه.
و إِنَّما : للقصر، أى أن التحريم مقصور على هذه المحرمات كلها، و أهل الشرك ما كانوا يتحرجون عنها بل ارتكبوها كلها، و قال سبحانه: حَرَّمَ رَبِّيَ للإشارة إلى أن المحرّم هو رب الوجود و رب الإنسان الذى يعلم الفطرة، و فى ذلك إشارة إلى أن الذى حرم هذا، إنما حرمه متسقا مع الفطرة التى فطر الناس عليها، و هو رب كل شىء، و الفواحش هى الأمور التى تفحش و تزيد على
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2823
الفطرة، و هى تشمل كل المعاصى، و خصوصا كبائر الذنوب فتشمل كل الموبقات المفسدة للنفوس و الجماعات، و بذلك كل ما يجىء من إثم و بغى يدخل فى عمومها، و يكون ذكر الإثم و البغى، تخصيص بعد تعميم، فيكون العطف عليها من عطف الخاص على العام.
و قد نقول: إذا اجتمعنا خصص كل واحد بمعنى، فتخصص الفواحش بالمعاصى الصارخة التى تفسد النفس و المجتمع كالزنى، و الخمر، و الربا، و غير ذلك، و بعضهم خصصها بالزنى و ما يتصل به من قذف للمحصنات و غير ذلك و الفواحش على معناها العام و الخاص يحرم ما ظهر منها و ما بطن، و ما يظهر منها و ما يعلن، و جريمته جريمتان جريمة الفعل، و جريمة الإعلان، و ما بطن ما استتر كاتخاذ الأخدان، و يشمل ما بطن فسق القلوب و ذلك بالعزم على فعل هو شر فى ذاته، و لكن يحول دون تنفيذه أمر فوق إرادته فهذا يكون معصية، و لا يدخل فى ضمن حديث النفس الذى تجاوزه اللّه عن أمة محمد؛ لأنه حدث و نوى و اعتزم التنفيذ و لكن حيل بينه و بينه بغير إرادته و على رغمه، و قد تكلمنا فى ذلك فيما مضى و الإثم ذنب لا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، و آثامه على نفسه كشرب الخمر، و تناول الآفات التى تضر نفسه، و لا تتعدى إلى غيره، و إن كانت التفرقة بينهما فى بعض المجتمعات عسيرة، و البغى هو المعصية التى تتعدى إلى غيره، و وصفه سبحانه بقوله: وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ و لا يكون البغى إلا بغير الحق، و هو تنبيه إلى ما يتضمنه البغى فهو يتضمن إثم التعدى، و إثم أنه فعل غير الحق فهو تصريح بما هو قبيح فى ذاته.
و من البغى أكل أموال الناس بالباطل فى الربا، و الرشوة و السحت و من البغى أكل مال اليتيم، و من البغى النميمة و الغيبة، و أشد البغى الحكم بغير ما أنزل اللّه، و الحكم بين الناس بالباطل و من أفحش البغى ظلم الحكام للرعية و الغلظة عليها، و إرهاقها، و إيذاؤها فى حرياتها، و لقد قال صلى اللّه عليه و سلم: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، و من ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2824
به» «1» هذا هو القسم الأول مما حرمه اللّه تعالى: و هذا القسم الآتى داء الشر؛ و لذا قال تعالى: وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً .
هذا أشد المحرمات، و هو محرم بأمر اللّه، و محرم ببديهة العقول، حتى لقد قال العلماء: إن وحدانية اللّه تعالى أمر تصل إليه العقول بالبديهة أو النظر القريب.
قال تعالى: وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ، أى أن تجعلوا شريكا لله تعالى فى العبادة شيئا، أو جحرا، أو شخصا، لم ينزل اللّه به سلطانا، و يقول العلماء: إن السلطان هنا الحجة أو الدليل.
و أرى ما رأوا، و لكن فى التعبير عن الحجة ب «سلطان» إشارة إلى معنى أن هذه الأوثان و ما شابهها لا قدرة لها، و لا تثبت أن لها قوة تنفع و تضر، و مهما يكن، فإنهم يعبدونها بالأوهام المسلطة من غير سلطان من حجة أو دليل، و من غير أن يعرفوا بالعيان أن لها سلطانا فى الأفعال أو التوجيه فى الكون، إنما هى الأوهام التى تصورها صالحة للعبادة مع اللّه تعالى لا شريك له.
إن من الأمور التى حرمها اللّه تعالى أن نقول على اللّه مفترين؛ و لذا قال تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .
هذا ثالث نوع من أنواع المحرمات، و هو الافتراء بأن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون أن اللّه حكم به و قاله أو شرعه، كتحريم بعض الأحكام، و تحريم لبس اللباس فى الطواف، و يقولون أنه من عند اللّه، و ما هو من عند اللّه. و كما قال اللّه- تعالى- فى الآية السابقة: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها ، فذلك افتراء، و هو من أشد الافتراء وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... (93) [الأنعام].
(1) رواه مسلم: فضيلة الإمام العادل و عقوبة الجائر (1828)، و أحمد: باقى مسند الأنصار- حديث السيدة عائشة رضى اللّه عنها (24101).
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2825
[سورة الأعراف (7): الآيات 34 الى 37]
لقد فعل الناس ما فعلوا فى الدنيا منكرين ما أنكروا من بعث و نشور و حساب و عقاب، و منهم من آمن بالله و بالبعث، و بإرادة اللّه تعالى الذى يختار ما يشاء، و يبتدئ من بعد ذلك بيان الحقائق لمن آمن و اهتدى و لمن ضل و غوى كتابا منشورا و يبتدئ ذلك من البعث، و قد بين اللّه- سبحانه و تعالى- أن الجميع إلى نهاية و من بعدها البعث فقال تعالى:
وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)، هذا بيان نهاية كل إنسان فى هذه الحياة الدنيا، فهو يعيش إلى أجل محدود قد عينه اللّه تعالى له، لا يتأخر و لا يتقدم، و أجل الإنسان هو نهاية حياته.
و قال- سبحانه و تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، و لم يقل لكل إنسان أجل مع أنه لكل إنسان أجل فعلا فلماذا اختار- جل جلاله- ذكر أجل الأمة تلك حكمة اللّه تعالى فيما يختار من بيان فى الذكر الحكيم، و نتلمس الحكمة فى ذلك، نقول: إنه- سبحانه و تعالى- ذكر الأمة، دون الآحاد بآحادها أولا- لأنه إذا كان للأمة بآحدها و جماعاتها أجل فأولى أن يكون للآحاد آجالها، ثانيا- و لأن الأمة
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2826
هى الجماعة التى يجمعها عصر و عادات و تقاليد، و يكون فيها توجيه إلى الخير أو إلى الشر، فهى جيل له أحواله، و عليه تبعاته، فالله- سبحانه- أخبرنا أن لكل جيل من الأجيال أجله الذى ينته عنده، و يذهب بأثقاله و يجىء من بعده جيل آخر له شأنه.
و قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً و الساعة أقل من الزمان، و السين و التاء فى يَسْتَأْخِرُونَ للطلب، و المعنى لا يتأخرون، و التعبير بالسين و التاء هنا إشارة إلى أنه لا يتأخر، و لو طلبوا تأخيره، بما يقتضيه حب الحياة بالنسبة للعصاة فإنهم يتمنون الحياة، و لا يتمنون الموت أبدا.
وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ ، «أى لا يقدّم و لو طلبوا أن يقدموا؛ كأولئك المؤمنين الذين يستعجلون لقاء ربهم لا طلبا للموت و لكن رغبة فى الحياة الآخرة و لقاء ربهم، طمعا فى ثوابه، أو رغبة فى رضوانه.
و المعنى لكل أجل كتاب و الموت بأى سبب من الأسباب هو نهاية الأجل الذى لا يتأخر و لا يتقدم فالموت بمرض، أو بقتل أو حرق أو غرق، أو استشهاد فى سبيل كلمة حق لأجل اللّه تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ .. . (78) [النساء].
و قدم قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً على يَسْتَقْدِمُونَ ؛ لأن الرغبة كثيرة، و الرغبة فى التقديم قليلة و اللّه يتولى الأنفس و هو بكل شىء عليم.
و إن من بعد انتهاء الآجال يكون البعث، و يكون بعد البعث الحساب على التصديق و التكذيب لما جاء به الرسل؛ و لذا قال عز من قائل:
خاطب اللّه تعالى بنى آدم، و فى ذكر آدم- عليه السلام- نبيه و تذكير بما كان من إبليس لآدم- عليه السلام- و عمله على إغوائه و إغواء ذريته من بعده، و قوله:
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2827
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ فيه «إن» الشرطية، و «ما» المؤكدة لمعنى الشرطية، و هذا تأكيد من الله تعالى بأنه سيرسل رسلا مبشرين و منذرين، كما قال تعالى: ... وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) [فاطر]، و قوله: ... وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء]؛ و لذا أكد الشرط مع «ما» بالنون. و مؤدى الآيات أن الله تعالى مرسل الرسل لا محالة و لكن ذلك ليس بواجب عليه تعالى، لا يجب عليه شىء، و من الذى يوجب عليه شيئا، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) [الأنبياء] فالكمال كله له تعالى.
و رسل: جمع رسول، و قد أشار- سبحانه- إلى عملهم، و هو التبليغ عن الله تعالى بقوله تعالت كلماته: يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي و القصص الإخبار و التكليف، و توجيه الأنظار إلى الكون قصا و تتبعا، لا يترك أمرا واجب البيان و لا يبينه و الآيات تشمل لعمومها الآيات المبينة للأحكام التكليفية، و الآيات الكونية الدالة على قدرة الله تعالى، و على وحدانيته فى الخلق و الكون، و الصفات العلية، و تشمل المعجزات الباهرة التى تدل على الرسالة.
و إن هذا القصص الحكيم، و الذكر الذى يهدى و يرشد، هو كالمطر، تتلقاه بعض النفوس فتؤمن به، و تتلقاه أخرى فتكفر به؛ فالغيث ينزل فيأتى بالخصب و الخير الكثير للمؤمنين، و لا ينبت نباتا، و لا يسقى حرثا فى الأرض الحدباء، قال تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، و المعنى إذا جاءتهم الرسل بآياتي فمن اتّقى و أصلح ...، و نسب الله- سبحانه و تعالى- الهدى إليه- سبحانه و تعالى- تعظيما لمعناه، و لبيان أن الرسل يتكلمون عن الله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ .. . (80) [النساء]، و لبيان ما يترتب على ذلك، و هو نفى الخوف و الحزن؛ و لذا قال تعالى: فلا خوف عليهم من عذاب، بل هم فى أمن و سلام؛ لأن الهداية أمن و اطمئنان؛ و لأن الطاعة لا عقاب منها بل ثواب فلا خوف من عقاب. و لا
زهرة التفاسير، ج6، ص: 2828
يحزنون، أى لا يصيبهم حزن، و لا ألم نفسى أو وجدانى، و لا تؤثر فيهم زوابع الحياة لأن نفوسهم مطمئنة بإيمانها، راضية بقضاء الله و قدره، كما قال تعالى:
... أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) [الرعد]، فمن اهتدى فقد حصن نفسه بالأمن و الرضا، فلا يخاف و لا يحزن.
و قد بين اللّه تعالى حال الذين لا يؤمنون بما جاءت به الرسل من الهدى و البينات فقال:
هنا ذكر للذين يعصون الرسل، و يكفرون بما جاءوا فى مقابل الذين اهتدوا بهديهم، و هو هدى اللّه تعالى، و قد ذكر اللّه تعالى وصفين لهما هما اللذان أديا بهم إلى عذاب اللّه تعالى و هما:
الوصف الأول- أنهم كذبوا بآيات اللّه تعالى كذبوا آيات التكليف فلم يؤمنوا بصدقها عن اللّه تعالى مع قيام الأدلة على صدقها، و البراهين الدالة على أن الرسل يتكلمون عن اللّه، فهم إذ يكذبون الرسل يكفرون بمن أرسلهم، و يكذبون بما تدل عليه الآيات الكونية من خلق السموات و الأرض، و ما يكون منها من زروع و ثمار، و حياة كاملة، و ما فى السماء من نجوم و بروج إلى آخر ما فى الكون من دلالات على أن خالقها واحد أحد هو الفرد الصمد.